بين إقدام «حمود الخير» على ختان نفسه في بداية رواية «ساق الغراب» للكاتب السعودي يحيى اَمقاسم (دار الآداب ـ بيروت) وقيام الذكور البالغين بتطبيق طريقة الإمارة في الختان في نهايتها، ثمة شريط طويل من الوقائع والأحداث تتجاور فيه منظومتا قيم مختلفتان، وتتواجهان حتى تسيطر إحداهما على الأخرى. فمن جهة، ثمة عشيرة «عصيرة» التي تبسط ظلها على وادي الحسيني وما يجاوره من الجبال في منطقة تهامة السعودية ومنها جبل «ساق الغراب» الذي تحمل الرواية اسمه. ومن جهة ثانية، ثمة إمارة صبياء المجاورة التي لا تدّخر وسعاً في بسط نفوذها وسيطرتها على المناطق والعشائر المجاورة. ولكل من العشيرة والإمارة منظومة قيم مختلفة عن الأخرى. ولذلك، يندلع صراع خفي ومعلن بينهما، يتمظهر في محطات شتى من الرواية، ويتخذ مساراً معيناً، حتى يبلغ نهاية تنتصر فيها إحدى المنظومتين على الأخرى. تشكل حادثة ختان حمود الخير نفسه محطة أولى في الاصطدام بين المنظومتين. فهذه الحادثة هي موضع فخر العشيرة ووفاء لطريقة الأجداد في الإعلان عن الرجولة. لكنها تعتبر تمرداً على تعليمات الإمارة ومخالفة لطريقتها تجر على المخالف العقاب الشديد. لذلك، يكون على الشيخ عيسى والد حمود وشيخ العشيرة أن يتدبر مع أمه صادقية المرأة الحكيمة المجربة مخرجاً يتقيان به غضب الأمير ويشهران رجولة المختون. غير أن وقوف أحد الوشاة على حقيقة الأمر يجعل الأمير مطلعاً عليه، فيستخدم السياسة والدين والمداهنة لاستقطاب العشيرة ونشر منظومة قيمه بين أفرادها بدلاً من لجوئه إلى العقاب. وهكذا، تصور الرواية الممانعة والتقية والدهاء والمصانعة والسياسة التي تبديها العشيرة، من جهة. وتصور التربص والترغيب والترهيب والمداهنة التي تمارسها الإمارة، من جهة ثانية. تتحرك الرواية بين هذين الإطارين راصدة التحولات الكبيرة التي طاولت عشيرة «عصيره»، وانتهت بانحسار نفوذها بعد مئتي عام من بسطه، ولو إلى حين. وتسجل تاريخ عشيرة تختلط فيه الوقائع بالأساطير، وتتجاور الحقائق والغيبيات، وتمتزج الماديات بالروحانيات ما يشكل ملحمة روائية لها أبطالها وبطولاتها، ولها هزائمها وانتصاراتها. تحديات كثيرة واجهتها العشيرة عبر تاريخها، تتراوح بين مقتل شيوخها، وتربص جيرانها بها، وطمع الغزاة فيها، وغضب الطبيعة عليها. وكانت تنجح في كل مرة في تجاوزها، بفضل صادقية، الأم الخبيرة، المجربة، القائدة، ذات القوى الخارقة التي تستشرف الغيب، وتتنبأ بالمستقبل، وتتصل بالجن من ناحية خؤولتها، تكلم السماء فتستجيب لها. فهل ستنجح هذه المرة في مواجهة إمارة صبياء ومخططاتها؟
في محاولتها توسيع نفوذها ونشر منظومتها القيمية، تلجأ الإمارة إلى السياسة والدين، فترسل المقرئين لتبصير العشيرة بأمور الدين وفقاً لقراءتها وتفسيرها ومصالحها، ويقوم هؤلاء بتوظيف الدين في خدمة مصالحهم الخاصة وسياسة الإمارة. وتربط أبناء العشيرة بنظام مصالحها فتتخذ منهم جنوداً وأدلاّء ومعاونين. وبمرور الزمن يضعف ولاؤهم للعشيرة وشيخها وأمه. وإذ يستشعر هذان الخطر الداهم على سلطتهما وعلى عادات العشيرة وتقاليدها وثقافتها، يبديان ما أمكنهما من الممانعة بأساليب شتى، مباشرة وغير مباشرة، من قتل الواشي وحرق مسجد الإمارة، إلى طرد المقرئ، إلى استهجان الانخراط في الجيش، إلى رفض استغلال الدين... غير أن هذه الممانعة لم تحل دون وقوع المحظور ونزول الخطر الذي استشعراه مبكّراً على سلطة العشيرة. ولعل ما سرّع في حصول التحولات رحيل بشيبش بطل العشيرة، وموت كبارها، وتسلل المقرئ بتعاليمه، وأخيراً موت الشيخ والأم. في المقارنة بين ثقافتي العشيرة والإمارة كما تقدمهما الرواية تبدو الأولى أكثر انفتاحاً وتحرراً في موضوع المرأة على الأقل، فتسمح لها بتبوّء القيادة، ومشاركة الرجل، والعمل، واتخاذ القرارات. ويتحقق ذلك من خلال شخصيتي صادقية وشريفة على الأقل. فيما تعمد الثقافة الثانية إلى تهميش المرأة بحرمانها من حق العمل ودعوتها إلى ملازمة البيت. وعليه، تلعب صادقية دور البطولة في الرواية، وهو دور مركّب، فتتولى قيادة العشيرة بعد مقتل زوجها، وتضحي بعينيها في سبيلها، وتشد أزر ابنها الشيخ عيسى، وتلعب دوراً استشارياً فيهرع القوم لطلب رأيها كلما أعوزهم سداد الرأي، وتشرف على زراعة الأرض وحصادها وتوزيع المحصول وتخزينه، وتتخذ القرارات الكبيرة وتشرف على تنفيذها.ولعل ما أتاح لها النهوض بهذا الدور هو شخصيتها المركّبة التي تمتلك قدرات خارقة، فتزعم أن الجن أخوالها، تقرأ الغيب، تستشرف المستقبل، تخاطب السماء ما جعل الجميع يهابونها ويقدّسونها. وهذه المواصفات، مضافة إلى بعض الخوارق والأحداث الغرائبية، تجعل الرواية تنتمي إلى الواقعية السحرية التي عرفنا بعض تجلياتها في روايات أميركا اللاتينية لا سيما مع غابرييل غارسيا ماركيز. وإذ تقرر صادقية الرحيل بعد أن شهدت انهيار العشيرة وأفول نجمها، تعهد بالقيادة الى شريفة «بنت الأرض التي صارت بنت الرجال» لا سيما انها بما أُوتيت من جمال أخاذ وصحة رأي وحسن تدبير ومعرفة بأوقات الزرع وقدرة على اتخاذ القرار يمكنها أن تستعيد مجد العشيرة التليد. وتأتي نهاية الرواية المتمثلة بتحول صرر الحبوب التي راحت تبذرها شريفة بين جبل «عكوة اليمانية» وقريتها «عصيره» إلى «خط مستقيم لنبت يفرّ من الأرض كروحٍ تشغف لجذوة الرقص» (ص 382) لتشني بإمكانية استعادة ذلك العهد الذهبي. إلى ذلك، تشكل «ساق الغراب» سجلاً حافلاً بالعادات والتقاليد العشائرية والطقوس الفولكلورية والمعتقدات والأمثال الشعبية والأساطير والخرافات والأغنيات وأسماء الأطعمة والرقصات البدوية.يقوم بفعل السرد راوٍ واحد كلي العلم يروي بصيغة الغائب. وهذا الشكل يناسب المرحلة التاريخية التي ترصدها الرواية. وهو يقوم بذلك بسردٍ يترجّح مكانياً بين الداخل والخارج فيرصد أفكار الشخصية وهواجسها واعتمالاتها وخواطرها ويسجل حركتها في المكان والفضاء الذي تدور فيه الأحداث. وهو سرد يمضي زمنياً إلى الأمام، لكنه قد يعود إلى الوراء فيفصّل حادثة سبق ذكرها أو يفسّرها أو يبين ظروف حصولها. وهو سرد بطيء الإيقاع خصوصاً عندما يجنح للوصف أو شرح الأغنيات الشعبية. يستخدم يحيى امقاسم مستويين لغويين في روايته، المستوى الفصيح وهو على قدر من الأناقة وهو في منزلة بين التقرير المباشر والإيحاء يرصد به حركة الشخصيات ومسار الأحداث ونموّها. والمستوى المحكي ويتناول ما يصدر عن الشخصيات من أغنيات وأقوال وأمثال شعبية. وهذا المستوى، على صغر مساحته مقارنة بالأول، يضفي على النص قدراً من الواقعية والصدق بما يجسّه من نبضٍ بدويٍّ/ عشائري.
«ساق الغراب» هي الرواية الأولى لصاحبها، لكنها تبدو صادرة عن تجربة واضحة، وتخلو من تعثر البدايات، وتؤشر على روائيٍّ طويل النفس، عارفٍ بأساليب السرد الروائي وتقنياته.
الحياة
14/04/08
أقرأ أيضاً: