كل مرة، تشي تجربة الشاعر العراقي شاكر لعيبي الشعرية بخصوصية نراها في الفكرة وزوايا النظر كما في الشكل الشعري الذي ينحو باستمرار نحو تجريبية تجدّد ذاتها ولا تتوقف عند حدود أو مسافات. أهمّ ما في قصيدة لعيبي هي بالتأكيد المناخات الشعرية التي تخلقها وتؤسس في فضائها قولا هو مزيج من الرؤية الواقعية والحلمية ذات الصلة العميقة برغبة شاعرها في استقصاء تخوم الغربة الإنسانية والتعرف الى مفرداتها، ثم التعبير عنها في بنائيات شعرية. هي تجمع الشعري بالقص بالهاجس الفردي من دون أن تغفل عن رؤية التناقض في الواقع والحياة ومحاولة تجسيده في القصيدة. تتكئ من أجل تحقيق ذلك، على مخيلة مزدهرة تحسن إقامة علاقة حيوية مع المشهد الحقيقي والمتخيل، وتنجح في إعادة تقديمه في إطارات جديدة، مختلفة وبالغة القدرة على الشيوع في روح القارئ برشاقة وفي سياق جملة شعرية طافحة بجماليات فنية.
مجموعة شاكر لعيبي الشعرية الجديدة "عزلة الحمل في برجه" (منشورات دار النهضة العربية – بيروت)، مزيج من قراءة روحية للحياة الراهنة ومن محاولة التعرف الى وقع تفاصيلها وما تخلقه من مشاهد تتضمن دعوة الى التأمل العميق الذي ينفتح على ما يشبه الوقائع والموضوعات، ولكن من دون التورّط في الوقوف طويلا عندها. فلعيبي لا يكتب "قصيدة موضوع" بقدر ما يشير إلى عناوين يذهب معها ومن خلالها نحو فضاءات أرحب وأكثر اتساعا، فضاءات تتأسّس وتستمر بقوّة المخيلة وقدرتها على الرسم القابل للإستعادة في مخيلة القارئ وذهنه: "الأيدي، ثمة الأيدي التي تغترف من هبائه/ الأيدي، ثمة الأيدي الملتّمة في دمه المرئي على صفحة/ الورقة العذراء/ الأيدي، ثمة الأيدي الملتمّة في القصعة. التي تقع فيها الأصابع/ على الأصابع".
أهم ما يلاحظه القارئ أن المجموعة تخلّص شاعرها من القافية، والتي بدت في مجموعته السابقة ثقيلة على قصيدة النثر. يكتب الشاعر هنا، قصائد أكثر حرية وتمتلك لياقة أعلى وقدرة على مناوشة تخوم المخيلة وفضاءاتها، وهو يستفيد من تجربته السابقة في العثور على بنائية شعرية أكثر سلاسة وذات ملامح يانعة ومفعمة بالحيوية.
قصائده الجديدة تدخل المساحات الحميمة، البالغة الخصوصية، الفردية وذات العلاقة الوشيجة بالحسّي في تداخله مع الروحي. هي قصائد وجود تعصف به مرايا كثيرة تتراقص في أعماقها خيبات إنسانية مثلما تحرّكها رؤى وتصوّرات فيها الكثير من شغف العيش في قلب الحياة.
ثمة ما يمكن الإشارة إليه وهو اتكاء القصيدة على مشهدية تمزج السردية بأشكال من وصف العالم المحيط ومن ولع لا يحدّ بمحاولة التعبير عن صورة الواقع كما يراها الشاعر وكما تتبدّى داخله. يمزج شاكر لعيبي الواقعية بوصفيتها وسرديتها بما في مخيلته من ملامح يراها أصدق في التعبير عن ذلك الواقع: "أيها الحدث الجلل النامي، ريشةً ريشة،/ فوق البشرة الحمراء للكائن المولود للتّو/ لطالما تجوّلت في الغابة بين وحوشك وأعنابك/ تحت لساني مذاق ثمارك اليابسة/ ويدي تضرب في واديك الكبير/ بحثا عن جذر شامل".
هي تجربة شعرية تفارق بالتأكيد ما نعرفه من الشعر العراقي الراهن، ويحقق شاكر لعيبي هذا الافتراق بنزوعه الواضح للتجوّل في "موضوعات" خاصة. لعل الأهم في تجوّله خلالها، تلك "النوافذ" التي يطلّ منها وتحمل إلى حد بعيد افتراقا شبه كلّي عن التأثيرات الايديولوجية التي قد تتسبب بإرباك القصيدة وإدخالها في المسبقات الجاهزة أو شبه الجائزة. في هذا المعنى يمكن النظر إلى "عزلة الحمل في برجه" بوصفها تعميقا لحالة شعرية تبحث عن مرجعيتها في الحياة وفي التجريب الشعري ذاته. تجربة تستفيد بالتأكيد من الخبرات لكنها تكتب ذاتها وتجريبيتها. فأهم ما تقدّمه قصائد هذه المجموعة هو انحيازها إلى شعرية الحياة، ونعني حيوية التعبير عن الحسّي في علاقته بالروح، أي بما للحسّي من وشائج بعالم الداخل الإنساني وما فيه من مضمرات ومسكوت عنه.
في قصائد المجموعة الجديدة ما يأخذنا نحو بنائيات شعرية سهلة وتلقائية وفيها الكثير من ملامح السرد، المباشر وشبه العفوي. نقول شبه العفوي إدراكاً منا أن التأمل في هذه البنائية يكشف أنها ليست تماما كذلك. فهي تحمل تركيبياتها واحتمالاتها المضمرة والكامنة خلف البسيط والتلقائي. أي، وصول الحالة الشعرية الى مرحلة القراءة المتعدّدة والتي تظل قابلة كل مرّة لقراءات جديدة ورؤية مغايرة، وخصوصا حيث تحضر المرأة بقوّة. ففيها نعثر على قوّة حس إنساني يدهم الشعر ويحوّله إلى ساحات عشق من لون خاص وذات عمق يتجمّل بالوجد: "– قل كلمة قرب قرطي.
فلتكن إذاً من الغلاة المحاربين من أجلي/ لتكن نواة من نويّات البشارة التي لن تبقي ولن تذر/ لتكن سائلا مخدّرا ضاربا في أقاصي جسدي/ أنت عنصر من العناصر النكرة التي تكوّن كينونتي".
يمكن القول إن شاكر لعيبي في "عزلة الحمل في برجه " يذهب بعيدا في سعيه الى كتابة قصيدة كونية، تنشغل بالكلي من وجد الإنسان ومن نظرته الى العالمين الداخلي والخارجي على السواء، وهو يفعل ذلك باعتماده على الصورة الشعرية التي لا تنفصل عما عداها ولا تشكل قيمة نهائية في ذاتها بل تؤسس لعلاقة مع الصور الأخرى التي تربطها الخيوط السردية وحتى شبه الوصفية والتي تتكامل كلها لتقديم مشاهد لها ولع الدراما وجاذبيتها.
النهار
مارس 2008