تبدو مجموعة الشاعر السوري المقيم في الولايات المتحدة الأميركية فراس سليمان الجديدة قفزا موضوعيا جميلا عن أفق القصيدة السورية وجمالياتها، بل واهتماماتها وانتباهاتها على حد سواء. فسليمان إذ يقدم مغامرته الشعرية "أشياء النسيان اللازمة" لقارئ عربي يشكو كثرة المطبوعات، يفعل ذلك بعناية فائقة تتحول القصيدة معها ما يشبه هندسة لغوية تشذّب وتختصر ما أمكنها، وتذهب إلى الفكرة من بابها الضيق الذي يرى العالم والحياة والآخر، وخصوصا الأشياء. لكن يفعل ذلك على نحو مغاير، هو الأقرب إلى الحقيقي والجوهري، ما دام يطلع من حدقة المخيلة أكثر مما يطلع من حدقة العين المتأمّلة في فضاءات واقع يكاد يسمّره السكون وتبقيه أسباب ثبات كثيرة عند لحظة سوداء تعصف بالشعر والشعراء وتجعل الحياة في مأزق مواجهة دائمة مع ذاتها.
"أشياء النسيان اللازمة" (منشورات دار جذور، أميركا، 2007) قصائد تطلع من لحظات تأمل إنساني في المحيط كما في الروح، تنكشف معها صور يراها الشاعر في حالة مزيج من النظر والتخيل ومن الفكرة المجردة حين تناوش الواقع وتحاول التعبير عنه بطريقة مختلفة. ثمة رهان دائم على الصورة الشعرية المتحركة التي تتجاوز سكونية اللوحة التشكيلية وتسعى لأن تكون مشهدا يعبق بالحياة، وتموج فيه حالات درامية إنسانية فيها الكثير من قوة البساطة وإيحائياتها بقدر ما فيها من جاذبية الجملة الشعرية المكثفة، المحمّلة اللون والمعنى معا: "البدايات/ المصقولة/ بعناية شديدة/ تفاحات/ تدحرجت كلها/ على درج/ الغموض/ ما عدا/ المغروسة بسكين".
هي رغبة واضحة عند الشاعر في تقديم نص شعري يتأسس على علاقة حميمة بالمحيط، ليس من خلال وصفية سردية تعيد على القارئ ما فيه من مفردات، ولكن بانتخاب ملامح من ذلك الواقع وقراءتها بصورة مختلفة، تناسب رؤية الشاعر ومخيلته وفكره معا. هذه اللوحات نراها تتأسس على هذه الكيفية كي تتناسب والمناخ النفسي والاجتماعي الذي كتبت فيه القصائد، مناخ الولايات الأميركية، وبالذات مدينة نيويورك. هنا نلاحظ أن فراس سليمان يتكئ على لحظة تأمّل ترى الأشياء وترى من خلالها تناقضاتها ومأزقها الوجودي، العاصف والمشتعل بفداحاته أيضا: "أرفع سيرتي/ مقمّطة بالنسيان/ أما هذا الحبر العالق/ على أطرافها/ فليس/ سوى دمع الحواس/ سوى/ خطأ أنني هنا".
هذه الحالة من الشعور الحاد بالغربة عن المكان بل بالوجود في المكان الخطأ، هي الحالة الوجدانية التي تنتمي إليها "أشياء النسيان اللازمة"، تلك الأشياء التي تبدو "ضرورة" وحاجة إنسانية لبلوغ لحظة انسجام مفقودة يصرّ الشاعر على أنها لا تقع هناك في المكان الذي يكتب منه والذي يتبدّى في حالة تضاد مع روح الشاعر ووجدانه.
ثمة انحياز شفيف الى بلاغة تحاور حالة الفقد بالحسّي، الجارح والمشغول برؤية ذات وشائج متينة مع ما هو قابل لأن يلمسه القارئ بحواسه بل أيضا وأساسا بمخيلته التي نراها مدعوّة الى أن تشارك الشاعر في "تظهير" القصيدة. بمعنى نقلها من حيز الكلمات البارد، إلى حيز التشكل في ذهن القارئ بوصفها عوالم وموجودات ولها حركيتها وصخبها في الحياة والمحيط: "لم يصرخ منذ ثلاثة أعوام/ ميت/ يفكر/ بوثن مثبّت ببراغ فضية/ في المرآة،/ تتصاعد من رأسه/ رغبات كثيفة".
يكتب فراس سليمان قصيدة المدينة. نعني المدينة التي من قامة نيويورك والتي تتحوّل في الوعي والشعر معا طاحونة بأنياب حديد هائلة وكلية القوّة وذات سطوة على الروح والشعر، إلى الحد الذي يدفع الشاعر والقصيدة إلى لغة خاصة وتمثّل خاص لملامحها وسطوتها.
قصائد نيويورك تأتي كأنها أناشيد وحشية تحاول الصراخ بالشعر، أو كتابة شهادة ساخنة على مشاهد أخيرة لحياة بشرية تغادر آدميتها نحو تشوّه تصنعه تلك المدينة الكلية القوّة التي تعارف البشر على تسميتها نيويورك: "أنا وكلبي في قارب الصيد دائخان، أنا من كثرة ما شربت وهو من كثرة ما نبح... أنا تقريبا هنا أراقب أضواء المدينة التي تبتعد وجسورا من عشب الفتها في رأسي... إنها الأولى ليلا. إنها مسرّات العمل لصالح الهذيان. لننس الكلب./ وتلك الإهتزازات/ وما يسببه الخمر والأمواج".
ليس هذا هجاء تقليديا لوحشية مدينة كنيويورك كما هي حالها في قصائد الشعراء القادمين إليها من الشرق (أدونيس وليوبولد سنغور مثلا)، لكنه استرسال في تتبّع روح الفقد التي تتلبّس شعرية الشاعر وتمسك تلابيب قصيدته فتأخذها بقسوة نحو مشاهد محدّدة، بل نحو عوالم موغلة في تناقضاتها ولامعقوليتها. يحتفل الشاعر بالخراب ويعيد قصّ تفاصيله لا كما تحدث في الواقع من حوله فحسب ولكن أساسا كما تتبدى في الروح وفي مراياها الداخلية. هي قصائد المدينة بالمعنى العميق الذي يؤشر الى اللاتوازن الذي يعيشه العالم، ولكنه في حالة نيويورك بالذات يبلغ ذروة تناقضاته وحدة تمزّقه.
تجدر الإشارة إلى بساطة اللغة التي يكتب بها سليمان قصائده، الطويلة، والتي تنقسم غالبا مقاطع يحمل كل منها جزءاً من صورة أو من مشهد لا بد أن يتكامل مع المشاهد الأخرى. الصورة الشعرية في هذه القصائد تقف كحجر زاوية، أساسية للبناء الشعري فنيا وأساسية للبناء الفكري الذي يكتب حكايات الشاعر مع محيطه ومع زمانه معا.
"أشياء النسيان اللازمة" إصغاء الى ما في الروح الداخلية من أمواج ومن صخب، حيث يعيد الشاعر ترجمة ذلك كله بشعرية خافتة النبرة وإن تكن قويّة الحضور وذات جماليات تشدّنا نحو القراءة والتأمّل الذي يجعل القصيدة تبقى وتستمر.
الجمعة 15 شباط 2008