كل مجموعة شعرية لأمجد ناصر، تكفل لي الشيء الذي أريده من الشعر. تكفل لي الاحساس بالشعر وبما أفهمه عنه. ما أريده وأحسه وأفهمه هنا، على علاقة بالطبع بشكل وأسلوب وتقنية، تبقى على عدم اكتمالها، من دون ذلك التواطؤ المضمر ـ بيني كقارئة وبين الشاعر ـ على تلك الشهوات الشاهقة الى الشيء المجهول، وتستدعيها كتابة أمجد الشعرية.
في قراءتي أغلب قصائد الشاعر الأردني أمجد ناصر، أرتعش شغفا بالشعر وتحية، يغمرني هذا وأغمغم أثناء القراءة من نشوة لعلها متأتية من تلاقي، لا أدري، ماذا بماذا في القصيدة، فلا يشغلني البحث في مصدرها، ولا أسأل في الذي أحدثها. هكذا أتلقى الشعر، وهذا هو الشعر بالنسبة لي. أستقبله ممتنة إذ أحدسه في روحي أولا وأخيرا فلا أسأل في مصدره ولا من أين أتى.
انه الليل،
عطرُ الإثم،
«كاليبسو» الباحثين عن أي دربٍ، أي شراعٍ الى
البيت.
أمجد ناصر قهر غربته بالشعر. انتصر على المكان البعيد بالكلمات، مجتهدا في منفاه الى مزيد الخيلاء الخاص في القصيدة، وإلى احترام الشعر من خلال متابعة طبائعه ومراحله، ثم هضمها وتخطيها والعمل على أكثرها حداثة، في رغبة «الشاعر» في أمجد ناصر الى محاذرة الوصول الى بر الأمان في أشكاله الشعرية والركون اليها، مبقيا على انشغاله بالعبارة الجديدة، وعلى القلق متوهجا، وعلى المزاج المتكدر الذي تغتني منه القصيدة، كذلك المزاج الهادئ وتجعله الهدأة عذبا عذوبة خاصة، فيتولد شعر أمجد على ما أحسب، من استحالة الوصول نفسها، ومن القلق والمزاج، واللغة قبل أي أمر.
قرأت بداية وبتمعن، تقديم الناقد صبحي حديدي لـ: «وحيدا كذئب الفرزدق»، المختارات الشعرية التي انتقاها وشاءها حديدي، من مجموعات أمجد ناصر الشعرية، وصدرت هذه حديثا عن «دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع» ـ دمشق، فانتبهت في قراءتي، الى أنني لم أكف عن ترجيح رأسي استحساناً وموافقة وافتتانا وامتنانا للتقديم الرائق. يريدنا صبحي حديدي ان نرى الى مراحل الشعر في تجربة الشاعر ناصر، على انها شريط متسلسل، أشكال وصياغات وحالات ومفردات، كأنما يؤطر حديدي بحسب اختياراته من وجهة نظره كناقد، أحلى ما في تجربة ناصر، عبر ربط أجزاء المجموعات منذ بداياتها «مديح لمقهى آخر» حتى «حياة كسرد متقطع» ناسجا عليها وحولها، رؤيته النقدية.
تقديم حديدي لا يقرأ مستقلا عن ذائقته الشخصية كناقد الى شعر أمجد ناصر، وعن تتبعه للرحلة التي قطعها شعر أمجد، وإن استوقفني اعلانه الانحياز بحماس صريح الى شعر ناصر لأسباب عدة منها ان الأخير بدأ شاعر تفعيلة، وفضيلة التفعيلة ـ بحسب حديدي ـ انها أتاحت للشاعر طورا من التدرب المبكر على خفايا موسيقى الشعر، الأمر الذي أسفر عن دربة إيقاعية، وحس يقظ بالشكل، وتنبه الى مواطن القوة (وهي، أيضا، مواطن الجمال) ـ والكلام لحديدي ـ في تصميم الأبنية الايقاعية في القصيدة. هذه العوامل، في مجموعها، أتاحت له ان ينتقل بخطى ثابتة، وبأمان ملموس، نحو شكل قصيدة النثر الذي طبع كتابته الشعرية.
الشرط الموسيقي
توقفت إزاء الشرط الذي انحاز له حديدي في ان يبدأ الشاعر، بالتفعيلة، ليضمن موسيقى الشعر ودربة الايقاع والحس اليقظ بالشكل.. الخ، أجده شرطا لازما إذ هناك الكثير من الشعراء الذين كتبوا التفعيلة بداية ولم يتخطوها الى يقظة شعرية صافية في بدايات أمجد. يحضر الايقاع، ويستنفر الحس وتنسال الموسيقى. اذا كان الشاعر شاعرا فعلا، وإن كانت القصيدة أنى كان شكلها، قصيدته الأولى حتى.
تقديم صبحي حديدي يملك قوة ان يوجد في القصائد المختارة، وأن يكون مدخلا ليس فقط الى شكل قصيدة أمجد الخارجي، ولكن ايضا الى داخلها لأكثر مما يفعله الشاعر نفسه. ثمة هذا التبادل الشعوري والتقني العميق، بين تقديم المختارات لحديدي، وبين القصائد المختارة نفسها من دون ان يتململ التقديم او يدعي لنفسه علاقات اخرى بالقصائد، غير التي أملتها هذه.
لست إذاً، بصدد دراسة وإن مختصرة، في سيرورة قصيدة أمجد ناصر منذ «مديح لمقهى آخر» حتى «حياة كسرد متقطع» فلقد فعل ذلك سواي، الدارسين والنقاد أعني، منهم حديدي في اختياراته التي تخدم فكرته عن الشعر والنقد. سوى أنني أقارب: «وحيدا كذئب الفرزدق» في الفرصة التي وفرتها الاختيارات لأكتشف في معاودة قراءة أمجد ناصر أنني لا أعرف على وجه الدقة سر انجذابي الى أعماله، ومعجون هذا السر لا بد، بحقائق عدة منها لغة الشاعر ومعجمه الفطري والشعري، وجمال صوته وعالمه التخييلي وختام كل قصيدته، وشكلها الحار من أطياف الماضي، والمفتوح في آن الذي يعكس روح العصر، ثم الأمر الأساس الذي يفتنني في الشعر عامة، وهو إحساسي بأن الشاعر فعلا هو الذي يتحدث في قصيدته، وليست هذه فنا مصنوعا بحتا، او خيالا ووهما.
أمجد ناصر لا يسلخ الشعر عن الحياة. قصيدته اعترافية، شخصية وموضوعاتها عواطفه وتجاربه، وهي حياته على ما عليه، طفولة واغترابا في لغة عدائية «للفورم» او الشكل الجاهز، ومجتهدة في الاتصال بالتقنيات الحديثة في اعتمادها الكولاج أحيانا، والأسطوري واليومي في أحيان أخرى، من دون خوف الخوض في القوالب والأشكال الشعرية المختلفة.
لغة أمجد ـ أجدها تفيض فخامة أحيانا عن المشهد الذي تنقله ـ مدهشة بشكل خاص، تميل الى تأمل الحقائق اللغوية ودلالاتها في تراكيبها البالغة الاعتناء، كما يحبذ ناصر في قصيدته الصياغة المجردة، شديدة الايجاز ومدربة على الصرامة والتكثيف ومبتعدة عن تسمية الأشياء، مكتفية بالايحاء الأنيق في اشباعات وقدرات الشاعر على معرفة الأسرار الخفية والخطرة للغة.
في «سر من رآك» و«مرتقى الأنفاس» ومواضع أخرى في مجموعات أمجد، ثمة الجهد اللغوي الشاق، حيث لا توجد الكلمة ذاتها بذاتها، بل تنتظم بحسية متوترة في كتلة الجملة، متلونة بانعكاسات الكلمات المجاورة. عدوى الوله والشبق تنتقل الى القارئ، حين تكفهر هذه الكلمة، او تعتم تلك في نداءاتها، او تتخفف الأخيرة من الرغبة في ذات المقطع الواحد، عندما يسطر أمجد كثافة العشق واستحالة الوصال.
توافق الشعر والنثر
بوعي شديد، أنجز ناصر قصيدته الحديثة بلا فجوات، محققا توافقا حقيقيا بين الشعر والنثر، متقصدا أحيانا اثارة نوع من التجارب الجديدة، افضت الى تركيبة جدلية للشعر والنثر ما أربك بعض النقاد الكلاسيكيين كما في «حياة كسرد متقطع» حيث النثر في أوج جماليته وكثافته، وتقنيته النحوية والذهنية.
في قديم أمجد ناصر وجديده الشعريين، وتحديدا ممثلة في اختيارات صبحي حديدي «وحيدا كذئب الفرزدق» ثمة الدراما الروحية للشاعر. أي اضافة هنا هي الغاء لثلاثة أرباع بهجة الشعر
السفير
08/01/2008
العدد 10892