"الإدراك أقلّ من اليقظة والليل أقصر من غابة تسأل عنكِ في مقهى يرتاده الأنبياء". هكذا يصل إلى المنتهى الشاعر إبراهيم المصري في مجموعته الشعرية "الزهروردية"، الصادرة حديثاً في الإمارات، لدى "مطبعة المستقبل". نص واحد طويل، شذرات لإدراك صوفي وتأمل في المعيش والمتخيل، غزل في ماهية امرأة، تعانق الليل، وتتنفس زهر البنفسج: "الزهروردية ورغم أنها امرأة.../ لكنها لا تطحن القمح/ عملها هو الموسيقى مرفقة بغيوم تصفّها الزهروردية غيمةً فوق غيمة/ ويمكنها ببساطة سحبُ غيمة من الماضي أو الحاضر أو المستقبل".
رغم أن إبراهيم المصري ينحت حال الزهروردية في جسد امرأة معشوقة، ويسقيها الروح من روحه العاشقة، إلا أنه شأنه شأن العشاق المتعبدين في محراب الحب والزهد، يُرجع فتنته بها إلى ذاتها، وغواية طلّتها المضيئة: "أنا لا أمجد الزهروردية/ ممجدة هي بذاتها". ويدل القارئ على بعض التفاصيل، التي بها يفخخ الليل: "أم كلثوم بالآهات.../ والزهروردية بشق بطن الليل حتى لا ينطوي على سرّ"، في محاولة لرسم صورة كاملة لها في ضوء الشمس، لأنه يرى أن الزهروردية ضوء يهديه إلى الأصدقاء، فهي تدرك الأسرار، تصادق الجن وتعلمه آداب المائدة، تحب لعب الأطفال، "وتخشى على دميتها القطنية من صخب الدببة وتخشى على الدببة من المدافع الرشاشة". إلى ذلك، فالبحر مزاجها، ومن بوصلة القلب ترسل الإشارات إلى سفن تبحر بين يديها. وما أن يلمس القارىء صورتها مجسدة أمامه، حتى يفاجئه الشاعر بتساؤل مركّب، يخرجه من لمس خصوصية المرأة الحاضرة، جسداً وروحاً وفعلاً، إلى تأمل المطلق الكوني، المرتبط بالعقائدي: "هل الزهروردية ذكر أم أنثى/ الشمس أم المظلّة/ هل هي الكفر أم الإيمان"، ليطلق وعي القارئ، ويحرره من الرؤية الضيقة، يرشده إلى الطريق المؤدي إلى قلعة الزهروردية، حيث تنام الروح في أعماق الجسد، وتتركه تائهاً في دروب كثيرة، ليجرّب ويجبه أهوال الحياة ومطباته، قبل أن تلوح له الزهروردية، وتدلّه الى مكمن الفرح، والعشق، حين تعمّقه الذاكرة في الداخل، في منطقة بدايات تشكّلها، وفي مراحله الأولى: لحظة الولادة، التعلّم، السفر، الجوع، والشبع.
مع الزهروردية تتأجج العاطفة، يتعلم العاشق كيف يقبّل الأنف: "مأخوذاً بصوفيتِّه الشامخة"، فيتحول وجهه المحبّ إلى قرص شمع ذائب، كطفل يحمل حقيبته المدرسية، ويأخذ حصته من قلبها، حين تمسح صدره بماء الورد، فينقلب على الصوفيين، لأنهم لم ينتبهوا إلى لذّتها: "حين يختلي الهمس بنهديكِ/ ويوبخ الصوفيين كونهم عديمي النظر/ في التصاقهم بكهوف ومغارات ومزالق/ وكان عليهم أن يلتصقوا بدمك". يقوده ذلك الكشف إلى أن يتفحص الأسباب، التي أدت إلى الزهد، دون تجريب المتعة، فالإنجراف في منحدر الفلسفة الميتة أنهكه، والآبار المشتعلة بالغربة أحرقته.
من الجرس الموسيقي لإسم الزهروردية يتداعى إلى ذهن القارئ، إسم السهروردي، بما له من دلالة تراثية، يبثها إبراهيم المصري في كيان زهرورديته، في محاولة جدّية لدمغ صورتها في الذهن، بهيئة صوفية بهية، وأفكار تنويرية جديدة، منزّهاً إياها عن كل سوء، قد يُظنّ بها. لذا نجده يبادر قارئه بالسؤال، قبل أن يفكر به القارئ: "هل الزهروردية حفيدة السهروردي؟"، ويجيبه بالإيجاب، مازجاً التراثي بالعصري، بما يقدمه في قصيدته الطويلة من إحالات على مقامات قطب الصوفية، الفارسي شهاب الدين السهروردي، الذي دفع حياته في مدينة حلب (زمن حكم صلاح الدين) ثمناً لأفكاره وفلسفته. ويحيله أيضاً على مخطوطة "ألف ليلة وليلة" بما نسجته من خيال خلاب، أطلق الأفكار في السماء، وأناخها على الأرض، ليحيا بها الناس حتى الآن. وفي المجموعة دعوة إلى قراءة التراث من نافذة ما نحياه الآن، وما نستخدمه في حياتنا: "الزهروردية تستخدم الكومبيوتر أيضاً، لكنها تعطّر صفحته الضوئية وتتركه مكلوماً بغيابها". وللزهروردية العصرية مخطوطتها التراثية، هي قدماها في إشارة إلى نبع الخير في تكوينها، حيث يراها القارئ تركض على القمح في موسم الحصاد، تدسّه في قدميها لكي تكون النعمة منهما أينما مشت. صدرها منبع اللذّة للعاشق، وباب دخوله في مداراتها: "حين يبكي الوقت نادماً على فقدانه لأصابع تقلب هذا الصدر شوقاً شوقا، نعمةً نعمةْ، ألماً ألما، رغبةً رغبة".
يقلّب إبراهيم المصري في ذاته، وفي ثنايا مخطوطات الشعر والنثر والنحو، ليصل إلى وصف يليق بحياة معشوقته، قبل أن يضيع كما ضاع النحاة في اشتقاق إسمها: "ربما فاز أحد النحاة بتسمية الوجود قائلاً إنه الزهروردية". وربما كان هو ذاته ذلك النحوي، الذي يبحث عن شجرة جديدة، يرسمها ويزيّنها بأنامله، وأنفاسه، لتكون زهرورديته الخاصة هي حياته التي يسعى لاكتشافها، إمرأته التي يعشقها، قصائده التي تقوده إلى مجرات، وكواكب، ومدارات، وتدفعه دفعاً إلى مسارب، وأزقة، وشوارع، لأنه مؤمن بها: "مرئية تاج يعلو الحياة"، وهو ما تبدى جليّاً في الإهداء: "إليكِ.. حيث اليقين".
النهار