بيروت ـ القدس العربي القصيدة الماكرة. كلمتان قد تصلحان مدخلاً للحديث عن مجموعة منذر مصري من الصعب أن أبتكر صيفاً الصادرة أخيراً لدي رياض الريس للكتب والنشر مثلما تصلحان للحديث عن نتاجه الشعري عموماً. منذ مجموعته الأولي آمال شاقة مروراً بنحو سبع مجموعات أخري، يكتب منذر مصري قصيدته التي يضيف إليها كل مرة خبرة تؤكد الخبرة السابقة. أما مردُّ المكر في قصيدة مصري فهو هذه اللامبالاة التي يتظاهر بها إزاء الكتابة الشعرية. إنه يوهم القارئ بالإهمال وبتحاشي الجهد والاشتغال والحياد عن كل ما هو مدبّر ومفكر فيه. يذهب الشاعر إلي يوميات بسيطة تضاعف هذا المكر. ينزل إلي القارئ موهماً إياه أنهما يقربان الشعر رأساً برأس. لكنه في غفلة من هذا القارئ يجرّه من يده ويدخله في هذه القصيدة التي تتظاهر بالسطح وتعطي كل طالب ما يشتهيه منها. هذه دربة طويلة عمل عليها منذر مصري. حنكة لم تأتِ صاحبها عفواً بل نتيجة مراس. بساطة منذر مصري ليست أكثر من قناع، ليست سوي شرك يُنصب للشعر وللقارئ معاً.
لمكر منذر مصري أدوات وطرق. إنه يبدأ من اليومي المعاش. من تفاصيل علاقات عاطفية وصداقة. من هدايا وكنبات وأجزاء جسدية وأحداث عادية تقع مراراً في حياة الناس. ومن هذه الموضوعات اليومية ينتقل منذر مصري إلي عملية صوغ بسيطة في ظاهرها، ومعقدة في زوايا النظر إليها. يذهب إلي النثر في حالاته القصوي. أحياناً تظن أن الشاعر لا يقول شيئاً سوي الإخبار. أحياناً يتحول النثر إلي نقاش وسجال وحوارات. أحياناً يتوسل الخفة والدعابة. لكن دائماً ثمة خلفية عريضة وراء ما يقوله الشاعر.
يشغل النقاش محوراً أساسياً في مجموعة من الصعب أن أبتكر صيفاً . ثمة نقاش يأخذ أحياناً شكل المونولوغ وأحياناً يأخذ شكل الديالوغ. يكتب منذر مصري بلغة تحاذي التفكر والعقلنة: فإن لم أصدّق أنكِ أحببتني/ كيف أصدّق أنك/ بعد أن أحببتني بلحظات/ تقولين: كرهتك . هذا اقتراب متطرف من النثر. لكن حوارات مصري التي تجري علي لسان العاشق في تفكره بالحب لا تغفل صوت المعشوقة. المرأة حاضرة هنا بصوتها ومنطقها: أحتفظ بكَ كعلبة فارغة/ تذكرني بما كانت تحتويه . هكذا تجري نقاشات منذر مصري أو حواراته بين الذات والذات أو بين الأنا والآخر.
ليس العاشق والمعشوق وحدهما اللذان يحضران في قصيدة منذر مصري. ثمة دائماً وسيط. ثمة الآخرون. هذه حال العشق دائماً. تنبّه لهذا الأمر العرب القدماء حين جعلوا بين العاشق والمعشوق حاجزاً كالواشي والعذول والزوج. حاجز هو وسيط في النهاية. هكذا تصبح لعبة العشق قائمة علي ثلاثة أشخاص: أحبي رجلاً آخر/ أحبه/ وأقتله/ وإذا جبنت ولم أفعل/ أحلم أني... به/ أمامكِ . أو في موضع آخر: حين أفرطت في غيرتي علي/ زهوركِ/ وكأن ذبولها يشبه/ غريباً ألمحه/ يمد يده/ ويلمس/ خلسة/ ما أملك . وعليه، فإن الشاعر لا يصنع قصيدة تقوم علي شخوص ثلاثة فحسب وإنما علي حالات ثلاث: الحب والألم والأذي. الحب حالة مشتركة. الألم حالة الذات. الأذي حالة الآخر: نادني لجحركِ/ وعضي علي قلبي/ بأسنانك أو من الصعب عليَّ/ أن أبتكر صيفاً/ أشدَّ لزوجة من فخذيك/ ذلك أني بلغت من الحب/ ما جعل/ فني الوحيد/ هو/ الأذي.. . الحب أيضاً في هذه المجموعة ليس بورنوغرافيا. إنه إيروتيك. المتعة هنا تتحقق من خلال أجزاء الجسد لا من العملية الجنسية فحسب. هذه المراقبة الفتشية، معطوفة علي الذوبان في الآخر وتعذيبه معاً، فن قصيدة منذر مصري. ثمة مزاجان متجاوران في الكتاب: الرقة والعنف. وهذه علي الأرجح حال العاشق. العاشق شبيه بالناسك: زهد بالدنيا وطمع بالآخرة، إخلاص لله وابتزاز له في آن.
هذا الرواح بين أمزجة العاشق من إقبال وشغف وهجر وقسوة، لا يمنع الشاعر من توسّل الدعابة أو الطرافة في مقاربته الشعر. ثمة خفة في المجموعة لا تقع في الابتذال بقدر ما تحاول تقريب الشعر إلي الحياتي: ماذا أفعل/ إذا كنت الأسعد حظاً/ بين جميع أصدقائي/ الموتي . وكذلك في مقطع آخر: مزقتُ صورتك/ التي لو وقع عليها نظركِ/ لكنتِ مزقتها بنفسك/ لأني بالغت بحدبة الأنف/ قليلاً كما أحبها/ ولم أضع العين/ في مكانها الصحيح/ تماماً/ فبدت وكأنها صورة/ أختك/ البشعة .
يسعي منذر مصري في شعره إلي تقريب الشعر من الواقع وليس تقريب الواقع من الشعر. هنا بيت القصيد في عمل مصري. فهو لا يلتقط الواقع بقدر ما يلتقط الشعر ليبسّطه إلي واقع. لهذا لا يني يعمل علي لغة نثرية تقترب من الحكي. لغة ليس فيها شبهة البلاغة. ليس فيها مخيلة صورية. المخيلة لدي مصري هي مخيلة الفكرة لا مخيلة الصورة. وهذا ما يجعل قصيدته ماكرة. قصيدة تستغل النثر لتزيد من رصيد الشعر. ألم يكن ستالين ـ كما يُروي ـ ينام مع النساء الثريات آخذاً أموالهن في سبيل الثورة؟
القدس العربي
الثلاثاء- ابريل 2008