ندخل مع كتاب "المسرح جنّتي" (دار الآداب، 2008) مباشرة الى فضاء السؤال الوجودي الذي يحاصر جواد الاسدي من الجهات الثلاث التي تلوّن كيانه: بغداد، المسرح، المنفى. سطور قليلة تكفي للابحار على تجاعيد لغة من شغف خام بالقص وفوران غرائزي للمفردات وولع درامي بالتفاصيل. يجد القارئ نفسه مع تراكم هذه السطور، عدداً وصفحات، كمن يغوص في بواطن مرويات تغرف، بنهم شرس من ذاكرة في حال قصوى من السرد والبوح، اللحظات الحميمة المجروحة بالحنين والعلاقات الانسانية الموصولة بالمحطات المفصلية في حياة غرقت حتى الاختناق في تجربة عيش تزاوج فيها الذاتي المخصّب باليوميات والثقافي المشدود من دون شرط أو قيد الى المسرح.
تلفت العفوية البكر في كتابة نص تشي ملامحه بعجلة طريّة في بنائه، الى الطابع التلقائي لعملية استذكارية تنمو على ايقاع حرّ من طينة توارد الافكار الى تدوينها حبراً بشكلها الخام. حقيقيّ مع نفسه، هذا العراقي الجوّال الذي يجعل الكتابة مكاناً للمواجهة مع الذات. فهو كمن وراء ماضيه، لا يبالغ في القصّ لكنه لا يبالغ في الامحاء كذلك. يحكي الضروري اذا استرجع مشهداً، والغريب اخلاصه، الذي يصحّ وصفه بالعنيد، لأرثٍ كجلدٍ ثانٍ له، بصم حياته قبل أن يترك علاماته في تجاعيد رحلته المسرحية. لا عجب بعدئذ أن يواجه القارئ ومنذ الصفحات الاولى، جوّاً سردياً صاخباً تتداخل فيه الخبريات بناسها واماكنها وفضاءاتها، مع الحضور القاتل للزمن البغدادي ذي الاقامة الفيزيائية اذا جاز القول، في جنون مسرحي في حالة هرب دائمة من ذاته ولا يتفلّت منها لكنه كلما ظنّ انه في مأمن وقع مجدداً في بئر ذاكرة تكاد تبتلعه لولا طاقته على اعادة احيائها اينما وُجد.
ذلك ان لوناً من التماهي يوحّد في "المسرح جنّتي" بين الابن المنفي والمسرحي الجوّال، لكأن البغدادي جواد الاسدي، من "العالم على راحة اليد" و"الحفارة" الى "حمام بغدادي" و"نساء السكسو... فون"، غرق وكامل مسرحه في ذاكرة بغدادية تظل هي المحرّك العلني والخفي للهواجس الكبرى لمسرح تحت الجَلْد. فلا شيء ثابتاً لدى هذا الفنان الذي يمارس الخيانات الاخراجية بالشغف عينه الذي يخلص فيه لركيزة درامية تتمحور على الانسان – الضحية. ولا فرق في عروضه اذا جاء البطل على صورة فرد أو زوج أو جماعة، مع لزوم الاشارة هنا، الى الزخم الجمعي الذي ينساب في بنية عرض معنيّ بمصير شخصياته فرداً فرداً، وانما اصلاً وفي العمق، بكل ما يتحرك ويتنفّس ضمن الغلاف الكربلائي لانسانية تنتهي هي ولا ينتهي العرض.
الدخول الى الحياة الغرق في المسرح
الكتاب من عشرة فصول تبدو لقارئ متابع، له تطلباته، كأنها، لفلتان مادتها من بنيان صارم، تنحو على ذوقها تحت رقابة مسرحي مثقف، الى عوالم تطل على شكل فتات من سيرة تكتنز مخزوناً من التجارب يتجاوز المرويات في "المسرح جنّتي". فمن اين اذاً هذه الملذات الصغيرة المتراكمة لدى مطالع يبتغي الحصاد المبرمج اكاديمياً كالذي يحكي الذاكرة ضمن زمنها ومكانها وثقافة صاحبها؟ يشعر قارئ الكتاب كمن يعبر بقاعاً خالية من المعالم التي تعرّفه الى سرّها: مرجع واحد يوجّه خطوات هذا القارئ. جواد الاسدي في بعض محطاته الرئيسية في مسيرة تَخَصّب فيها المسرح بالغلاف البشري الذي احاط به تاركاً في المنفى البغدادي التجاعيد والجروح والخيبات، وانما وفي الواجهة، تلك المجموعة من الوجوه المضيئة التي غذّت نصوصه وسكنت عروضه وأنعشت منصته واشعلت سينوغرافيته. حتى ان من الصعب الاقتراب من جواد الاسدي ببراءة مَن يدّعي الفرجة على منصة تعلن "العويل" كبطاقة للانسان اذا اعترف بانتمائه الى المجتمعات التي تشي به وتتخلى عنه في آن واحد!
انها منصة من شغف ميلودرامي لانسان يصحّ فيه القول انه "يعوي بالمقلوب" رغم ولعه بالآخر والحذر منه والذهاب في الاضطهاد حتى الطرف الحار من الحب. لكأن لا أحد يحب أحداً في مسرح جواد الاسدي. وفي الصراخ الصوتي لسكان منصته غطاء اخراجي لبرودة تفخّخ العلاقات بين ناس يبدون في حالة هلع وجودية تدفع بهم الى خارج الحكايات التي يعشق مؤلف "حمّام بغدادي" أو "رأس المملوك جابر" حكايتها. ليس من فروق في "المسرح جنّتي" بين الصفحات المخصصة لسرد محتويات الذاكرة البغدادية في كل مرة يأتي الكلام عما فيها، والصفحات التي تتناول، رواية أو تعريفاً أو تقويماً، الحادث المسرحي كما صنعه الاسدي على مدى حياة مشحونة بالعواطف الفوارة التي تتفجر على منصاته على ألسنة مؤدّين في دور البدائل. من هذه الزاوية يكتسب "المسرح جنّتي" معاني الوطن الضائع الذي يتقمّص شكل المنصة البديل، في فضاء لا زمن يبرمجه ولا مكان يموضعه، لكنه رغم كل براعات المسرحي في تمويه مقصده يقول بجرأة ملجومة بتلقائية ذكية، عشقه لبغداد ويأسه منها، شغفه بالمسرح وخشيته من وقوعه في عالم يتفتّت، تعاسته في العيش في المنافي والشعور بأنه مدين لناس تلك المنافي بالقطاف الانساني الذي يؤهل عروضه الشهادة لعصر ومجتمع وانسان.
يصحّ القول في "المسرح جنّتي" انه اولاً وعلناً، اعلان حب صارخ لبغداد ولناس بغداد ولبقايا بغداد في جواد الاسدي. لذا كانت تلك الصدمة عند زيارته بغداد حديثاً، وفي روايته لها طابع رثائي يلتقي تلقائياً بالفضاء الكربلائي لمعظم اعماله. ولا يشفى من المدينة التي تغلغلت عمقاً في بنيان عروضه حتى التفاصيل، أصغرها اختباره لغلاف منصته الموسيقي. ولا يتخلى عند انتقاء ممثليه عن شَبَه فيزيائي ما يربطهم بالقامة الجسدية العراقية. الى عمله دوماً على الممثل المشاكس على موهبة، السيد ذاته على شغف، المؤهل لتحولات عميقة تتسبّب بها البروفات المتتالية التي تنتقل بالعرض من تشكيل الى نقيضه، وبالمؤدي من ملامح الى غيرها الى عكسها. ولا حدود للبروفة سوى لحظة اشتعال المنصة بمن عليها. المفتاح هو البروفة. فمن فضائها المتحوّل يولد العرض. الى دورها كمحرّضة، كقوة جدلية، كطرح تجريبي موقت، كبناء أولي لعرض في طور التركيب، تضيف خطوة بعد خطوة، ولِمَ لا: خطوة ضد خطوة، اللمسات والتنقيحات والتعديلات التي قد توصل بالتمارين الى الانقلاب رأساً على عقب.
المسرح كوطن بديل
يروي الكتاب مراراً وتكراراً حكاية البروفات، دوراً وفاعلية، في تركيز العرض. فالبروفة كما يمارسها جواد الاسدي بحسب محتوى "المسرح جنّتي"، حقل مفخّخ بمحاولات حرّة من كل تصوّر مسبق لبناء التلاحم التفجّري الشرس بين الممثل الذي يختاره المخرج والشخصية المؤهلة للتقمص في الممثل بأفضل صورها. في هذا المعنى، للبروفة كما يفصّلها لنا الاسدي، طابع استكشافي لا يستقر على يقين ادائي أو مشهدي لكونه فعلاً تحت التحوّلات في حال عبور تجريبي، صفته الرئيسية اختبارية اولاً. ومن نتائجها على علاقة المخرج بالممثلين افراداً وفريقاً تحت الامتحان، التأسيس لحالة قصوى من التفاعل والاندماج بين المخرج وفريق عمله. الامر ليس بالسهولة التي قد يظنها المتابع، وفي الكتاب أكثر من بروفة، اتخذت شكل الصدام بين الاسدي وأحد ممثليه بعد فقدان البعض الثقة بأهليتهم للقيام بالدور الموكل الى كل منهم (فارس الحلو). أو عند وجود ممانعة من أحد الممثلين في التخلي عن تصوّر للشخصية (فايز قزق أو بدري حسون فريد). كان الحل يتم في أكثر هذه الصدامات لمصلحة العرض، مع التقاط هذا أو ذاك من الممثلين تطوّر معنى البروفات من باب المقارنة بين حركة المشهد البارحة وحركة المشهد اليوم.
"المسرح جنّتي" مدخل حي الى شخصية المسرحي جواد الاسدي الذي يطل فجأة من خلال صفحات الكتاب مزيّناً بألف عقدة تجذب الى الانسان، توضّح قامة المخرج وتفعّل صورة كاتب النص. لكأن ذاك العراقي المنفي والغارق في حنينه الى وطن، أعلن منصته البديل الجغرافي كبدل من ضائع، وأعطى مسرحه المدى الانساني حيث السكن والعيش. فمن المستحيل مقاربة هذا الفنان الذي يجدّ وراء نفسه، فكلما اقترب من الوصول عاد الى الانطلاق من الصفر. لكأن حياته مجموعة بروفات. فهو الشغف اذا فار، والعنف اذا فكّر، والصدام الغرائزي اذا أخرج. لكنه كمن في المنفى اذا التقيته مرة في شارع الحمراء بعيداً عن "مسرح بابل"، المكان والملجأ والصومعة.
متشرّد، متمرّد، وراء الافق الضائع. عنيد اذا أراد، وبريء أمام الحلم، ونهِم اذا اقدم. ذو مخيلة فوارة وشهوانية مغامرة. مستنفر دوماً كمن في خطر.
"المسرح جنّتي" خطّه الدفاعي الاول.
للقراءة بإمعان. لأنه المفتاح الى الوجه المجهول لجواد الاسدي.
النهار
20 فبراير 2008