بعد تحقيقه لكتب (الروض العاطر في نزهة الخاطر للنفزاوي، و نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب للتيفاشيّ، و النصوص المحرمة لأبي نواس، و كتاب الحمقى والمغفلين لابن الجوزي) أصدر الباحث و الشاعر و المترجم جمال جمعة (بغداد 1956) كتاب (ديوان الزنادقة)، وهو الكتاب الذي تشعر بعد أن تفرغ من قراءته بالجهد الكبير الذي تم بذله ولا شك في تقصي هذه (الحفريات الشعرية) المسكوت عنها والتي تجعلنا نعتقد أن تاريخ الشعر العربي الحقيقي هو التاريخ غير المدون أو التاريخ الذي تم تهميشه وتحريفه وتزييفه بسبب خروجه على المواضعات و الوصايا و الأعراف، و لقد استهل جمال جمعة هذا الكتاب الذي صدر عن دار الجمل في 271 صفحة من القطع المتوسط بمقدمة عمد فيها إلى التمهيد للظروف والسياقات الإجتماعية و الدينية... التي ظهرت فيها هذه الأشعار، حيث يقول أنه حينما انبثق الإسلام في جزيرة العرب لم ينبثق من بيئة جاهلة كما روج دائما لذلك، بل كانت بيئة مدنية تؤمن بالتعدد المذهبي والديني (الوثنية، اليهودية، النصرانية، الصابئية، الحنفية، المجوسية) حيث كانت مكة وقتها مثالا حيا على التنوع و الإختلاف، وهو الأمر الذي جعل الإسلام عند بدء دعوته لم يتعرض لأية مقاومة لكون الجزيرة العربية كانت دائما منبعا متجددا لأنبياء ظهروا ثم مضوا، و بالرغم من أن قريش لم تكن غافلة عن هذا المكون المذهبي الجديد الذي بدأ يتشكل في مكة، لكنها لم تأذي الرسول أو من اتبعه لأنه كان من سجايا العربي حينها التسامح في الإختلاف في الرأي وبغض التقاتل على قضايا لا تؤذي الشرف و لا تخدش مكانة الإنسان في مجتمعه لكونه كان مجتمعا له قابلية قبول وهضم مختلف الديانات والمذاهب، ويذكر جمال جمعة أن المحاورات التي وثقها القرآن بين المشركين و النبي تفصح في الواقع عن حياة عقلية قوية و اطلاع ثقافي واسع على أفكار الديانات المختلفة و الميثولوجيا المتداولة هناك، فجدال المشركين ومقارعة الحجة بالحجة والرد على الخصوم الفكريين الأساسيين (ماديو العصر الوثني الخالي) للدعوة الجديدة تشغل مساحة واسعة من السور المكية في القرآن، ويرى إلى أنه وبعد استفحال العداوات بين الرسول و قومه كان لا بد له من الخروج من مكة و هجرها و شد الرحال توخيا للسلامة وبحثا عن حلفاء جدد في يثرب التي كانت آنذاك معقلا لليهود و حلفائهم فهادنهم الرسول أول الأمر، إلا أن ذلك الحلف لم يدم طويلا بعد أن بدأت الخلافات العقائدية بالتفجر، فانتهى الأمر بتصفيتهم سواء عن طريق التهجير الجماعي(بني قينقاع و بني النظير) أو عن طريق الإبادة الجماعية (يهود بني قريظة)، أما فيما يخص أهل مكة فقد دخل الرسول معهم في جولات قتالية انتهت بدخوله إلى مكة مدشنا عصر التوحيد الذي قضى فيه على التعددية المذهبية و الفكرية.
بعدها سينتقل جمال جمعة للحديث عن دور الشعر خلال هذه المرحلة والتي كان حاضرا فيها بقوة سواء من جهة المسلمين الذين كان يمثلهم حسان بن ثابت أو من جهة الملحدين، ويذهب الباحث إلى أن تيار الزندقة لم يهدأ في صدر الإسلام بل كان دائما ما يعبر عن نفسه على ألسنة الشعراء ويتمثل في الحنين إلى شرب الخمر و الشك في مسائل المعاد والفناء والتبرم من الفروض الدينية و التوق للأيام السالفة، وتعزز هذا التيار بدخول الأجناس الأخرى ذات المرجعيات الثقافية المختلفة في الإسلام التي رأت في (التزندق) الثقافي الطريقة المثلى للتمرد على سطوة العرب وليتبلور هذا التيار في العصر العباسي إلى تنظيم فكري رصين يحاور ويناقش و يؤلف الكتب لدحض النبوة وتسفيه الشرائع و نقد القرآن مما اضطر بالمهدي ثالث الخلفاء العباسيين إلى إنشاء (ديوان الزنادقة) لغرض مطاردتهم و تعقبهم.
ويرى الكاتب أنه فيما يخص هذه القصائد و الأشعار فقد توزعت على كتب تراث متناثرة: (تاريخ الإسلام للذهبي، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، أخبار مكة لأبو الوليد الأزرقي، الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري، الأغاني لأبو فرج الأصفهاني، السيرة النبوية لابن هشام، طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، البداية والنهاية لابن كثير، البيان والتبيين للجاحظ، الحور العين لنشوان الحميري، معجم الأدباء لياقوت الحموي، رسالة الغفران لأبو العلاء المعري، الأحكام السلطانية و الولايات الدينية للماوردي، تاريخ الأمم و الملوك للطبري، الكامل في التاريخ لابن الأثير، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، أنساب الأشراف للبلاذري، كتاب المغازي للواقدي، تاريخ الإسلام للذهبي، تفسير القرطبي للقرطبي، الإستيعاب في تمييز الأصحاب لابن عبد الرب القرطبي، نسب قريش لمصعب الزبيري، تهذيب الكمال في أسماء الرجال لجمال الدين المزي، جمهرة اللغة لابن دريد، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل و التوالي لابن عبد الملك بن المعاصي، الروض الآنف في تفسير السيرة النبوية لأبو القاسم السهيلي، عيون الأثر في المغازي و السير لابن سيد الناس، البدء و التاريخ لابن المطهر، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، مروج الذهب للمسعودي، أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، الجوهرة في نسب النبي و أصحابه العشرة، نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري، الإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد الرب، الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني...) ولم يضمها كتاب بعينه، أما نصوصهم النثرية فقد أتلفت تماما وكانت أخطر عملية تنقيح لكتب التراث والتي تقع في رأي الكاتب في (مصاف الجنح الثقافية الكبرى) ما قام به ابن هشام من (تشذيب) السنة النبوية التي كتبها سلفه ابن إسحاق، أو ما قام به ابن منظور من حذف لكل الأشعار التي يعتقد أنها نالت من النبي والمسلمين، و بذلك نكون كما يؤكد الباحث قد فقدنا وثيقة تاريخية بالغة الأهمية تؤرخ للصراع الفكري بين النبي ومناوئيه وقد استمرت سياسة التشذيب وتغييب النصوص حتى عصرنا الراهن حيث بدأت دور النشر باستصدار طبعات جديدة منقحة لكتب التراث قامت فيها ببتر كل ما لا يتلاءم و توجهات قوى الظلام، فكان لا بد بالتالي من جمع هذه النصوص وأرشفتها قبل أن تختفي نهائيا كما حدث لنصوص الشعراء والمفكرين المخالفة لما كان سائدا في العصور الخوالي
وفي آخر هذه المقدمة يقول جمال جمعة انه وظف تسمية الزنادقة لشعراء هذا الديوان بمعناها المتداول لأنه يرى في تلك الكلمة إسما جامعا لكل من لم يؤمن بنبوة محمد سواء كان ملحدا أو موحدا أو نصرانيا أو يهوديا.
مختارات من ديوان الزنادقة
الحلاج:
كفرت بدين الله و الكفر واجب عليّ و عند المسلمين قبيح
دعبل الخزاعي:
إنما العيش في منادمة الإخوان لا في الجلوس عند الكعاب
و بصرف كأنها ألسن البرق إذا استعرضت رقيق السحاب
إن تكونوا تركتم لذة العيش حذار العقاب يوم العقاب
فدعوني و ما ألذ و أهوى و ادفعوا بي في نحر يوم الحساب
أبو العلاء المعري:
دين و كفر و أنباء تقال و فرقان ينص و توراة و إنجيل
في كل جيل أباطيل ملفقة فهل تفرد يوما بالهدى جيل؟
أبو الطيب المتنبي:
أي محل أرتقي؟ أي عظيم أتقي؟
و كل ما قد خلق الله و ما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
بشار ابن برد:
إبليس أفضل من أبيكم آدم فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره و آدم طينة و الطين لا يسمو سمو النار
إيلاف
13 فبراير 2008