"ثمة محيطات تفصل زجاجي عن الحلم/ وما من جسر بين الهواء وظلي". هكذا، تدلف الشاعرة اللبنانية آمال نّوار، إلى ذاتها المستلبة، وهي المسافرة بعيداً في أميركا، لتشكّل من رغبتها في الالتحام بالذات المفقودة في مكان قصي عن عالمها، قصائد مجموعتها الثانية "نبيذها أزرق ويؤنس الزجاج"، الصادرة حديثاً في بيروت، لدى "دار النهضة العربية".
يبدو تأثير فكرة المواطنة واضحاً، وخصوصاً حين تحيل تلك الذات المغتربة على رماد يخلّفه الحنين المشتعل، وتدهسه أقدام الوحدة، بعيداً عن الآخر، النائم في الذاكرة. ربما تتبادر إلى ذهن القارئ أسئلة كثيرة، في حاجة إلى إجابات، أو تأمل، وهو يطالع الإنتاج الشعري، لشعراء وشاعرات كثر، يعيشون خارج أوطانهم. تلك الأسئلة تقود إلى استفهامات أخرى. إذ كيف تشعر تلك الذات الخلاّقة بالغربة في وطنها؟! فإذا تركت ذلك الوطن من أجل الراحة، والتحقق، تشعر بغربة أكثر، تجعلها كائنا هشا، يعيش متطلعاً إلى أحلامه، التي ليست في متناول يده، وتوقا جارفا يظلل كل حركة يخطوها، بعيداً من إطار الوطن وحدوده: "أراني في مرآة الغياب/ تطفو نظرتي ويغرق بحري". الإشتغال على تلك المنطقة من الذات المتشظية، في مواجهة غربتها، يحتاج إلى وقوف راصد لعلامات، ودلالات في النفس، ربما تؤدي إلى معرفة أكثر بما يعتمل في الداخل "الإنساني" من اتزان موقت، وتأرجح لا يهدأ. بين ما هو معيش، وفي متناول اليد، وبين ما هو غائب في المكان والذاكرة: "لكم ترنحت في جسدي تماثيل لهب،/ لكن حناني لم يكس التراب فرواً،/ ولا دفء صوتي علّم الطير السفر/ أنت باردة أيتها الأرض".
تستفيد آمال نوّار من المدرسة الرومنطيقية في الشعر، ومن شعراء المهجر، من دون أن تسقط في فخ الغنائية والمباشرة، أو تفقد الروح الشعرية المتدفقة، والتي تستقي نثريتها الشاعرة من تلقائيتها وصدقها، في التعبير عن الحالة الشعرية الحديثة، محافظة على كيانها العصري. فهي ابنة جيل جديد مغاير، وفّرت له التكنولوجيا ومخترعاتها ميزات، أهمها أنها قرّبت المسافات، ولم يعد هناك انقطاع تام عن مباشرة الحياة، ومعرفة ما يحدث على أرض الوطن "الأم" كما كان يحدث في الماضي: "خذني/ فأنا أرض مذبوحة بشفرة أفق/ تفصل قبلاتنا غربة الزجاج". تلك الروح المحترقة في منفاها، يقتلها العطش، والحاجة إلى الانصهار في كيان عاشق، تستعيض عن تحقيقه الواقعي باللجوء إلى الحلم: "اغمد ريشاتك في فمي،/ وحبّرني سماء فوق مرآة نومك". ولا تلبث أن تتسع هوة ذلك الحلم، ويغدو تحقيقه أمنية في حاجة إلى صلاة، وتضرّع، من أجل أن يتوحد بها وتتوحد به: "خذني كما تؤخذ البحيرات". هنا تقع آمال نوّار على المخبأ السري، وتتعمق في تشكيل أساطير وحكايات، يتوالد بعضها من البعض. وهو ملمح سردي مكثّف، يبين في الكثير من قصائد المجموعة، وتنسج عليه نوّار بمهارة وإيجاز: "وأرى ملاكاً من ريش أصابعنا/ يضم الخرائط بجناح/ والزمن بجناح/ ليضيّق الفضاء بيننا".
تكتنف قصائد آمال نوّار مسحة من غموض، يجعل القارئ في حال تفاعل مستمر معها، تدفعه الرغبة في المعرفة والاكتشاف. فثمة ذات خبيرة، تمتلك مفاتيح جيدة، لمعرفة روحها، وجسدها، وأسباب فرحها ومتعتها: "أسألكَ/ أن توصد عليَّ أبوابك وأسبابك/ كي تنقبض حواسك على الوهج،/ كلما هصرتني بالقيد/ رشح منك الزيت". وثمة ذات أخرى محلقة، تختبئ خلف دهشتها، وبكارتها في تلقي الحياة، واكتشاف الآخر، بما لديه من خبرة في لمس المتعة والإحساس بها. أو ربما تحاول تلك الذات أن تبدو بريئة، ملائكية، في تعاملها مع الحسي، لإكسابه نزعة روحية، ترتقي بالجسد، كأنها تهبط إلى الأرض بحذر، وتجرّب اللذة بمقدار، من دون أن تنغمس فيها.ثمة محاولات مستمرة في رتق الذاكرة، وإشعالها من أجل تغذية الروح وإدفائها، كي تتماسك في مواجهة الهرب إلى منطقة الأحلام، وإعصار التشظي اليومي: "إذ إلى أين ستهوي الأرض/ وليس تحتها أرض؟!". وثمة الدوران المريع. هذا وتلك، يفضيان في الضرورة إلى كوابيس حقيقية: "جاءني طير في المنام ينقر وردتي/ تلسعه الأشواك بملحها".
إنتاج آمال نوّار الشعري قليل (صدر لها من قبل "تاج على الحافة" عام 2004)، ميزته التكثيف، يمتص ماءه من جذور عميقة، وينمو في تربة خاصة به، وأرض بكر. ذلك ما يجعلها تنأى بمفرداتها الشعرية واللغوية عما تتضمنه الكثير من القصائد النثرية، المكتوبة في الوقت الحالي، ومعالجاتها المتكررة، وهذا ما يرتفع بقصائد "نبيذها أزرق ويؤنس الزجاج" إلى نقطة مضيئة في جبين القصيدة النثرية الحديثة.
النهار
21 يناير 2008