سمفونيةُ أصوات شعرية، عابرة للثقافات، تتباينُ في النبرة والأسلوب والرؤيا، وتتناغم في لغة الترجمة، تجدُ طريقها إلى أنطولوجيا شعرية جديدة ظهرت بالإنكليزية في الولايات المتحدة الأميركية، عن دار نورتون الشهيرة بعنوان (لغة من أجل قرن جديد: الشعر المعاصر في الشّرق الأوسط وآسيا، وما وراءهما، 2008). ولأنها تضمرُ تنوعاً، وتغطّي مساحة جغرافية وحضارية مترامية الأطراف، تنعتُها الكاتبة الفائزة بجائزة نوبل للآداب نادين غورديمر «بمكتبة استثنائية في مجلّد واحد». هذه المكتبة من القصائد تسعى إلى تقديم صورة مغايرة لهذه المنطقة من العالم، تتجاوز النظرة التقليدية النمطية، القائمة على سطوة المتخيّل الغربي، الذي ابتدعه جزئياً أدبُ الاستشراق في تعريفه وفهمه ومقاربته للشرق، وتحاول إزاحةَ بعض السّحب الملبّدة من سماء قارّة مجهولة، ظلّت دوماً بعيدة ونائية وسحرية، على رغم الانفتاح العلمي والتكنولوجي الراهن. ينزاحُ الإبهام قليلاً، ويبزغُ حلم شعري، طالما دغدغ مخيلة الشاعر الإنكليزي شللي، عن ولادة قصيدة كونية يشترك الشعراءُ جميعاً في كتابتها، تنمو وتتّسع وتمتدّ، وتظلّ دوماً مشرعةً على اللانهاية.
هذا المجلّد الموسوعي، الذي يبدو حقاً مفتوحاً على اللانهاية، يقعُ في سبع مائة صفحة من القطع الكبير، ويضمّ أربع مئة شاعر وشاعرة من تسعة وخمسين بلداً، يكتبون بأربعين لغة مختلفة. وقد جمع النصوص وحرّرها كلّ من الشاعرة الأميركية، التايوانية الأصل، تينا تشانغ، والكاتب الأميركي، الهندي الأصل، رافي شنكر، والشاعرة الأميركية، الفلسطينية الأصل، ناتالي حنظل، التي سبق لها وأصدرت موسوعة شعرية بعنوان «شعرُ نساء عربيات») عن دار إيست إنتر لينك، 2000. أما مقدمة الأنطولوجيا فكتبتها الشاعرة الأميركية المعروفة كارولين فورشِه، التي ترى بأن هذه المختارات تتيح الكشف عن «الوضع الإنساني في لحظتنا الراهنة،» من خلال طيف واسع من النصوص التي تعكس تجارب مختلفة وغنية، وتترجمُ الحساسية الجمالية لبدايات الألفية الثانية: «فإذا كان الشاعر البولندي تشيسلاف ميلوش قد كتب بأنّ الأجيال القادمة ستقرأنا من أجل فهم طبيعة القرن العشرين، فإنّ هذه المختارات، ستُقرأ للاطلاع على بدايات القرن الواحد والعشرين.» وتطرح المختارات تعريفاً جديداً لمفهوم الهوية، يقوم على التنوع والكثرة والاختلاف، ويتجاوز تخوم الثقافة القومية، عبر تقديم شعراء ينتمون إلى أنساق حضارية مختلفة تمتدّ من أفغانستان إلى اليمن وسورية ولبنان، ومن المغرب إلى اليابان وكوريا وكمبوديا والصين، صاهراً، في بوتقة واحدة، مذاهب ومدارس وحساسيات مختلفة.
وقد قُسّمت الموسوعة إلى محاور تسعة رئيسة، تعكس أقانيم مختلفة من التجربة الإنسانية، يقف كل منها عند ثيمة مركزية، صنّفتها فورشِه على الشكل التالي: طفولة، فردانية، تجريب، قمع، غموض، حرب، وطن ومنفى، حياة روحية، حبّ، وجنسانية. وقد أفرد المحررون الثلاثة مقدّمات قصيرة، مكثفة، وغنية، لكلّ قسم من هذه الأقسام، وصنّفوا القصائد وفقاً لموضوعها، وليس انتمائها القومي أو الجغرافي، واختاروا قصيدة واحدة فقط لكلّ شاعر مقترح. وقد استلهمت عناوين هذه الأقسام أجواء القصائد المختارة نفسها، ففي قسم «زلاّت وطقوس»، الذي قدم له رافي شنكر، يهيمن الشعر التجريبي، والاحتفال بفكرة الفنّ من أجل الفنّ، وفي قسم «أرض الآلهة الغريقة»، يطغى النصّ الملتزم الذي يتحدّث عن القهر في العالم، وتبرز في هذه الضفّة إحدى قصائد الشاعر سعدي يوسف عن أميركا، ترجمها خالد مطاوع. وفي القسم المعنون «في أسرِ الطفولة»، استرجاع لماض مثالي متخيّل، تقدّم له تينا تشانغ، باستهلال شخصي، تستحضر فيه أجواء طفولتها، في بلدها تايوان، بعد وفاة والدها، وتتذكّر أجواء خرافية في «حقول الموز والمانغا، والحدائق المكتنزة، والعسل الصافي،» لكنها تدرجُ في هذا القسم قصائد تحكي عن ضياع الطفولة، بسبب الحروب والنزاعات، كما في قصيدة للشاعر الكردي ديلوار كراداغي بعنوان «طفل عاد من هناك» تتحدّثُ عن تراجيديا «الأنفال»، ويستهلّها بقوله: «أوقفتَنا الأنفالُ ونحن في طريقِنا إلى الموعد/ فتّشتْ جيوبَنا/ ومزّقتْ الرّسائلَ، وأضرمتْ النارَ في الصّور». وفي القسم المعنون «هذا المنزلُ، عظامي»، تحضر قصائد تصفُ كابوس المنفى في الوطن، كما في قصيدة الأفغاني عبدالله حبيب، التي يقول فيها: «قصّة وطني/ مكتوبة على غاباتِهِ وصحاريه/ حزينة جداً، ولا يُباح بها/ … قصّةُ وطني/ مرآة مهشّمة/ نار مستمرّة/ وحديقة تحترق». وفي القسم الأخير، المعنون «العالم المرتعش» تحضر قصائد الحب، بأبعادها الحسية والصوفية والثقافية، ويحضر عربياً عبد الوهاب البياتي، في قصيدة له عن تحوّلات «عائشة»، ونزار قباني في قصيدة تتأمّل في ماهية الحب تختتم قصائد الأنطولوجيا. وعلى رغم غياب أسماء شعرية عربية عديدة عن المختارات، نُفَاجأ، مع ذلك، بالعدد الكبير الذي وجد طريقه إليها، ووصل إلى تسعة وثمانين شاعراً عربياً، من بينهم أنسي الحاج ومحمود درويش وأدونيس وسنية صالح وناديا تويني وفدوى طوقان.
وترى الشاعرة ناتالي حنظل أن فكرة الأنطولوجيا ولدت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، خصوصاً بعد أن وُضِع الشرقُ برمّته سياسياً تحت المجهر، وغابت صورته، شعرياً وأدبياً، وبدأت تشيع مفاهيم نمطية سلبية، تنطلق من نظرة اختزالية، استعلائية، للآخر، على حدّ تعبير إدوارد سعيد، تكفّلت بتسويقها وسائل الإعلام الغربية. فكان لا بدّ من الذهاب إلى «الشعر، صَلاتنا الطبيعية،» كما تصف حنظل. وعن المغزى من وراء هذه المختارات، ترى الشاعرة أنّه في عصر يتسم بالعنف والإرهاب، ويزيده سوءاً جهلنا بثقافة الآخر، تأتي الموسوعة لتسدّ نقصاً مفزعاً، وتؤكّد وجود قواسم إنسانية وحضارية كثيرة بين الغرب والشرق، يحتضنها الشعر ذاته، عبر قوة السّحر الكامنة فيه. وترى حنظل أن ثمة شعراء كثر في المشرق يجهلهم القارئ الغربي، وتذكر أمثلة عديدة، من بينهم السوري ممدوح عدوان المعروف جيداً في العالم العربي، والياباني أوكا ماكوتو، الذي نشر أكثر من مئتي كتاب في بلاده، والكوري الجنوبي كو أون، صاحب الحضور القوي في منطقة آسيا. وتؤكّد حنظل أن غاية الكتاب حوارية (dialogic) في الأساس، هدفها ردم الفجوة بين الثقافات، ونزع هالة الديمومة عن مفاهيم كثيرة كالهوية، والانتماء، والبلد، والمكان، واللغة، كونها جميعاً مفاهيم رجراجة، وزئبقية، قابلة للتبدّل والتحوّل. ويمثّل الشاعر سركون بولص، حالة نموذجية لهذا التعدّد في الانتماء والهوية، فهو آشوري عراقي، اختار أميركا موطناً له، لكنه ظلّ يكتبُ ويبدعُ بالعربية.
وعن معايير الانتقاء، تقول حنظل إنّ المنهج الذي اعتمده المحررون الثلاثة يتلخّص بالنظر إلى القصيدة ككيان مستقل، معزول عن منجز الشاعر وسطوة تاريخه الشعري، حيث تم التركيز على قيم التنّوع والكثرة، عبر تقديم أنماط تعبيرية مختلفة تضمّ طيفاً واسعاً من الأشكال الفنية والأسلوبية مثل الهايكو، والنصّ الطليعي، والأنشودة الأيروتيكية، والأحجية الشعرية، وقصيدة الغزل، والشذرة السردية والغنائية، وسوى ذلك. وعن فكرة الهوية، التي تحاول المختارات تقديم تعريف جديد لها، تشير حنظل إلى أنّ تجربتها الشخصية، كشاعرة أميركية من أصل فلسطيني، تلخّص محنة الانتماء، «فللهوية، بالطبع، طبقات كثيرة، اجتماعية، وقومية، ودينية، وسوى ذلك. إنّ افتراقي الشخصي يكمنُ في البحث والتقصّي. وفي هذا البحث ثمة دائماً لحظات من الحيرة، والرفض، والقبول، والاكتشاف. لحظات حبلى بالضوء، وأخرى ممسوسة بالظلال.» وللتدليل على سمة التبدّل التي تطبع علاقتنا بذواتنا، وميراثنا، وهويتنا، تختصر حنظل الأمر بقولها: «ليس من السهل المكوث في اللانتماء»، بيد أنّ عزاءنا يكمن في تلك الكلمات التي ترفضُ الحدود لأنها، بحسب تعبيرها، تنتمي إلى كلّ مكان. أما زميلها رافي شنكر، فيرى أن الموسوعة تسعى إلى تجاوز حدود التعريفات الضيقة للهوية، القائمة على أسس قومية، مشيراً إلى أنّ الذات الفردية تصبو دوماً إلى معانقة الكوني والإنساني، إذ «عند تقاطع السياسة مع الثقافة، ثمة الوعي الإنساني فحسب.»
لم تبالغ، إذاً، غوردايمر في وصفها الكتاب بالمكتبة الفريدة التي تعيد إلى المخيلة برج بابل الخرافي، المشرع على اللانهاية، تماماً مثل قصيدة الإنكليزي شللي. ولأنّها عمل سمفوني بامتياز، تتناغمُ وتتآلفُ في اختلافها وتعدّدها، فإنّها تستحقّ أن توصف حقاً بالحدث الفريد، الذي يشـبّههُ الشاعر الأميركي يوسف كومونياكا، الفائز بجائزة بوليتزر للشعر لعام 1994، في كلمةٍ على الغلاف «باجتياحٍ سمفوني من الصّرخات والمدائح والصّلوات واللّعنات والتأمّلات والاعترافات».
الحياة
09/06/2008