مضلّلة هي المختارات الشعرية التي قد تحيل صاحبها ضرباً من فسيفساء مصطنعة لا يتآلف بعضها مع بعضها الآخر. يجمع بينها، على الأغلب، اسم كاتبها، ويفرّق بين محتوياتها أمزجة وأمكنة وأزمنة وحالات من الكآبة والفرح وانقلابات على الذات والعالم أو محاولة للاقتراب منهما. وفي العادة لا يبقى من الشاعر في مختاراته إلاّ ظلّه المتلاشي في العتمة البعيدة. والغريب أن من الطبيعة الملازمة للمختارات المكوّنة، في الأساس، من شتات لا يطمئن إليه في قرارة نفسه هذا الشاعر أو ذاك، انها سرعان ما تستقوي على نفسها بنفسها لتتحوّل، بقدرة قادر، كياناً منفصلاً عن صاحبها. فإذا بالشاعر الذي يُخيّل إليه بأنه أحسن الاختيار من نصوصه الكثيرة أو القليلة ما يصلح لأن ينشر في كتاب مستقل يسمّى اعتباطاً "المختارات"، يفاجأ بأنه على وشك أن يصنع لنفسه هوية شعرية أخرى. صورة مختلفة لا تشبهه إلا قليلاً. وقد لا تنسجم أبداً مع نبضه الداخلي في عملية الكتابة لأنها تحدث في سياقه الشعري فجوات ليست من نسيجه على الإطلاق. ومع ذلك، فإن من حسنات المختارات أنها قد تلقي أضواء خافتة أو ساطعة على نتاج هذا الشاعر أو ذاك. أو أنها قد تصيب القارئ بالإرباك الشديد نظراً الى ارتفاع الجدران وكثافتها بين نصّ وآخر في ما تنطوي عليه المختارات من اختيارات جيء بها عنوة من مجموعات شعرية متعددة أو متنافرة أو أن بعضها سقط في منتصف الطريق.
قراءة ثانية
لا يقصد من هذه التصورات المستعجلة، على الأرجح، أن تشكّل مدخلاً لإعادة قراءة الشاعر الأردني أمجد ناصر، في مختاراته الصادرة أخيراً عن "دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع" بعنوان "وحيداً كذئب الفرزدق". على النقيض من ذلك، قد تبدو النصوص التي وقع الاختيار عليها لتشكّل محتويات هذا الكتاب. من ذلك النوع المضيء الذي يشعل فتيل الشعر لدى أمجد ناصر ولا يطفئه. ومع ذلك، لا تزال الفرضية المشار إليها أعلاه أمراً وارداً بالضرورة الموضوعية في كل عمل يرتبط بهذا النمط الشعري. وفي أي حال، فإن من التداعيات الإيجابية لهذه "المختارات" أنها تعود بنا القهقرى الى المجموعات الشعرية التي وضعها أمجد ناصر، في الأصل، قبل أن تستخدم أجزاء منها لتكون الكتاب الذي بين أيدينا.
وبغض النظر عن المناخات الشعرية مترامية الأطراف التي تستولي بها علينا هذه المختارات ثم تشدّنا إليها بعنف تلقائي يصعب التملّص منه، يظهر واضحاً "الهيمنة" القوية التي تمارسها هذه النصوص على مستوى الحفر العميق في بنية اللغة لتحريرها من نفسها أولاً، ومن غيرها، ثانياً.
عملية صعبة، تتطوّر مع نصوص الكتاب لتصبح شاقة على الأغلب، ثم سرعان ما تغدو عبثاً متعمداً لضرب اللغة باللغة وصولاً الى لغة ثالثة تسعى الى إقامة توازن دقيق، شفاف ومدروس جيداً بين اللفظة الواحدة ودلالاتها في الفضاء الشعري الواسع. الأرجح أن أمجد ناصر أبدى ولعاً استثنائياً بالكشف عن الطبيعة الأخرى للغة، منذ بداياته الأولى. لم يكن بمقدوره، والحال هذه، التغاضي عن هذا الإقبال الحيوي النهم على الارتواء من الينابيع العذبة التي تتدفق عميقاً في جوف اللغة. في البدء، كان هذا الميل الجارف الى القبض على اللغة متلبسة بذروة الاحتراق الى التعبير الآخر، تمريناً مدهشاً، في الأغلب، لكيفية إقامة علاقة "شرعية" وهي تتقلّب من حال الى حال، من وضع الى آخر. لم يعد الأمر كذلك، أيضاً منذ البدايات الأولى. بدليل أن أمجد ناصر يخطو خطوة أبعد، في هذا المجال، من التعرّف الى اللغة في علاقاتها السرية الحميمة الى مشاركتها عملية البوح عن هذه العلاقات وهي تبلغ أوجها. يقول في أسطر مقتبسة من نصّ مطول بعنوان: "مديح لمقهى آخر":
مرة ثانية يهبط الشوق مختلطاً في الأصابع
مشتبكاً في دمي البكر
والحجارة الكبيرة داخلة في ضلوعي
وخارجة من يدي
وطالعة كالحديد على غرّتي المغضية
بين المفردة والرؤية
قد تبدو هذه الأسطر الخمسة المقتلعة عشوائياً من النص المذكور ذات دلالة نموذجية، فعلاً، على الكيفية التي يخضع أمجد ناصر المفردة الواحدة للرؤية الشعرية. وبالمثل الفضاء الشعري بآفاقه المطلقة إذا صح التعبير، للفظة الواحدة بعد أن يجردها من ثقلها اللغوي الرتيب، والعقيم أيضاً، ليرتقي بها الى التحولات المدهشة التي تنطوي عليها طبيعة الرؤية الشعرية. يستخدم ناصر تعبيراً عن الشوق القادم من أعلى الى أسفل. كلمة (يهبط)، وهي لا تثير فينا، على الأرجح، قشعريرة عميقة توقظ فينا أحاسيس متخاذلة أو متبلدة، لأنها مفردة متداولة مسكونة بالصمت، وإن كانت لا تستبدل بأخرى دلالة على وقوع الشيء من أعلى إلى أدنى. غير أن هذا الهبوط المعبر عنه بهذا المعنى الاعتيادي سرعان ما يصبح متحركاً، على نحو من حيوية بالغة، لدى اقترانه بمفردة أخرى قد تبدو مستقاة من المخزون اللغوي المحض هي (اختلاطه في الأصابع)، ومع ذلك، فهي تتميز باستخدام مغاير انسجاماً مع التدفق الصاخب للرؤية الشعرية. إن لفظتي (يهبط ويختلط) لا مردود ايحائياً لهما إلا بعد أن أعاد الشاعر توظيف وقعهما اللغوي استجابة لتشكيل المعنى في بعده الجسدي المستجد. أن يحفر الشاعر في تربة اللغة أمر من شأنه أن يعيد الى المفردة اعتبارها التعبيري الذي وجدت، في الأساس، من أجله، ولكن أيضاً في إطار من التناغم الشفاف بين الوظيفة اللغوية الدقيقة لهذه اللفظة، من جهة، وقدرتها على التماهي مع المعاني الشعرية المبتكرة. المسألة نفسها نتلمسها في الأسطر الأخرى. نرى أن الشوق يشتبك في الدم البكر، لا كلمة، على الأرجح، أبلغ دلالة من لفظة (اشتباك) تعبيراً عن التوغل العميق في صلب الأشياء. وكذلك الأمر بالنسبة الى (الحجارة) الداخلة في الضلوع، والطالعة كالحديد على غرة الرأس. النص، كما يلاحظ، مفعم بالمواد الصلبة الخرساء، كالحجارة والحديد، ويكاد يختنق كذلك بالمفردات المستدرجة على خلفية البحث عن اللفظة المناسبة في المكان المناسب، رؤية لغوية تنم عن اعتناء كبير مبالغ فيه بالدور التعبيري لهذه اللفظة أو تلك. ومع ذلك، لا تتنافر اللغة مع انسياب الصورة الشعرية. تكسبها ايقاعاً جذاباً مرده الى التآلف المقنع بين اللغة في وظيفتها التعبيرية البسيطة، وفضائها المتحول باستمرار استجابة للرؤية الشعرية التي ما أن تستقر على معنى واحد حتى تنتقل الى غيره. لا هوية ثابتة لها. يكمن سرها في الانقلاب على نفسها. في الانفلات من كل القوانين التي تشدها الى أسفل.
هذه عينة صغيرة في حجمها كبيرة في دلالاتها التي تطبع نصوص الكتاب من دون استثناء يذكر، على الأغلب. والأصح أنها تخيم بثقلها اللغوي على الفضاءات الشعرية التي ينسجها أمجد ناصر وهو يتكبد المشاق الصعبة في مغامرة إعادة تشكيل العالم بطاقة الخلق التي تنطوي عليها الرؤية الشعرية. تحدونا هذه "اللعبة" المزدوجة، اللغوية الشعرية التي يتقن ناصر التصرف بها على نحو مدهش، الى الإحجام عن مناقشة هذه المختارات في أبعادها السياسية، والايديولوجية، وإثارة المضامين "الوطنية" بآفاقها المقفلة، وفقدان البوصلة التي حملت الإنسان العربي على البحث عن مصيره في المتاهة الفارغة. الأرجح أن مسائل ومفاهيم من هذا النوع أصبحت جزءاً منسياً من ذلك الارث الشعري الكامن في جعبة الماضي. إنها من قبيل لزوم ما لا يلزم خاصة في هذه المختارات التي توحي بأن الشاعر منهمك في صوغ خلاصه الفردي واستكمال غربلة عناصر هويته الشعرية بغربال اللغة.
في هذا السياق، تبدو هذه المختارات المقتبسة من مجموعات شعرية عدة لأمجد ناصر، أقرب الى فتح أبواب أخرى للنقاش على مصاريعها. من بينها، على الأغلب، استعادة الرؤية الشعرية الى كنف اللغة في ايقاعها المنضبط على مستوى التوازن الدقيق بين المفردة ومعناها؛ بين الدال والمدلول؛ بين الاسم والتزامه بالمسمى؛ بين الفعل واقترابه الحثيث من الحركة التي يعبر عنها، صوتاً وصورة وايحاءات. يكتب الشاعر في نص بعنوان "طبول":
سنمضي إذاً أيها الوطن المختوم
بالشمع الأحمر، والمسجى بين أزهار الدفلى
إلى مثواك الأخير راية ممزقة
ورؤوساً منكسة بلا حماسة أو حزن
سنمشي الجنازة وطبل واحد يقرع: قلبي
بين الانطباع والحقيقة
لا يغامر الشاعر، كما هو ملاحظ في هذا النص القصير، باستخدام المفردة الواحدة في غير موضعها الصحيح. لا يرغب في التجرؤ على "قدسية" اللغة أو التطاول على هيبتها التي تعرف بها في التداول العادي. لا كلمة في اللغة أكثر فصاحة أو دلالة من (مسجّى) في وصف الميت وهو يرقد منتظراً أن يسكن حفرته الأبدية. وبالمثل، لن نعثر في اللغة على كلمة تصف حالة الهزيمة المروعة، أكثر دلالة من (المنكسة). والأمر عينه ينطبق على لفظة (قرع) في وصف صوت الطبل. والنتيجة الأولية التي قد تتبادر الى الذهن،
في هذا الإطار، أن أمجد ناصر يخشى من استخدام المفردة في غير موضعها الملائم لها. لا يستوحي منها ما يجعلها قادرة على تجاوز نفسها، أو إعادة اكتشاف طاقاتها الايحائية الكامنة في أعماقها السفلى. حتى هذه اللحظة من العملية الشعرية، يبدو ناصر شاعراً كلاسيكياً بالكامل، همه إرضاء المفردة في ما تسفر عنه من دلالات لغوية فصيحة على حساب إعادة استخدامها في غير مواضعها المحددة لها لخلقها من جديد. والأرجح، في هذا المجال، أن هذه النتيجة هي من قبيل الاستخلاص التقليدي للمعنى يساهم الشاعر نفسه في الترويج له من دون قصد. ثمة في هذا النص ما يخطف هذه المفردات الفصيحة خطفاً قوياً الى أماكن تتنازل فيها عن "سطوتها" اللغوية إلى الرؤية الشعرية المتحولة في طبيعتها المرهفة. كيف يقيم الشاعر هذه المعادلة الصعبة؟ بأن يخضع اللغة لضرورات الصورة الشعرية نفسها ذات القدرة الفائقة على استيعاب اللغة في خشونتها الفصيحة ومن ثم إعادة توظيفها في الحلم الشعري. إن كلمات مثل: الشمع الأحمر، المسجى، رؤوس منكسة.... إلخ، سرعان ما تتخلى عن دورها اللغوي المحدود في سياق الصورة الشعرية الطاغية التي تستولي على هذه المفردات الفصيحة استيلاء كلياً لتعيد توظيفها لغايات أخرى. والدليل، أنها لا تعود تستوقفنا في حد ذاتها، بل نرى أنفسنا وقد أخذتنا صورة الجنازة بعيداً عن اللغة الى الضفاف النائية على جنبي النهر الشعري المتدفق.
هذه، على الأرجح، هي إحدى السمات البارزة في هذه المختارات. ولعلها الميزة الأكثر حضوراً في سياق الرؤية الشعرية لأمجد ناصر بغض النظر عن المكونات السياسية والايديولوجية والإنسانية الأخرى التي تظل تداهم النص من خارجه. تصعب قراءة ناصر، تحديداً في هذه المختارات، من خارج لعبته اللغوية هذه. لماذا؟ لأنه، بكل بساطة، لا يجد جدوى تُذكر في لي عنق اللغة في مجالها التعبيري المحض، غير أنه يستدرجها الى كنفه الشعري، هذه المرة، من خلال إعادة توظيفها، من دون المس بمرتكزاتها، في خدمة الحلم الشعري الذي يهرب من ذاته بحثاً عنها. اللعبة صعبة وقد تبدو معقدة ومرهقة وعويصة لأنها تدفع باللغة والحلم الى أن يلتقيا في منتصف الطريق من دون أن يجري تسوية مبتذلة على حساب أي منهما.
المستقبل
الاربعاء 23 كانون الثاني 2008