تنحو الشاعرة اللبنانية صباح زوين في مجموعتها الشعرية الأخيرة في محاولة مني إلي مزيدٍ من الاختزال التعبيري والتصفية اللغوية التي تنأي بالشِعر عن الزوائد والإفاضات والشروح. ورغم أن هذه الميزة موجودة أصلاً في دواوين زوين السابقة مثل البيت المائل والوقت والجدران و لأني وكأني ولست إلاّ أن القصيدة في المجموعة الجديدة تتّجه أكثر فأكثر نحو التقشّف والإضمار والتقنين البلاغي. فالشعر عند صاحبة علي رصيف عار لا يتأتّي من التهويل اللفظي أو التراكم الصوري ولا من المهارات البلاغية والأسلوبية، بل من التلميح والإشارة والإيماء إلي جوهر المعني، وكأنها بذلك تؤكد قول البحتري الشعر لمحٌ تكفي إشارته/ وليس بالهذر طوَّلت خُطبُه .
أول ما يلفت في مجموعة صباح زوين هو عنوانها بالذات، فعنوان في محاولة مني علي بساطته يؤشر إلي علاقة الشعر بالشاعر، وإلي رغبة هذا الأخير في تغيير العالم، أو تغيير حياته علي الأقل عن طريق الكتابة. ذلك أن كل عمل إبداعي حقيقي ما هو إلاّ محاولة جديدة لفكّ لغز الوجود من جهة ولدرء خطر الموت وإبعاده إلي الخلف من جهة أخري. وإذ يدرك الشاعر أن ما يفعله قد لا يفضي إلي النتيجة المتوخاة، ولكنه لا يملك سوي الاستمرار في محاولته من أجل تقليص المسافة ما أمكن بين الحقيقة والمجاز وبين الواقع المتحقّق والحلم الذي يحلم بتحقيقه. علي أن ما استوقفني في هذا السياق هو كون معظم إصدارات زوين السابقة تحمل عناوين غريبة وإشكالية، حيث ان بعضها مؤلف من حروف منفردة أو متعاقبة، وبعضها الآخر من أشباه جمل من كلمات مبتورة ومقطّعة الأوصال، كما هي الحال مع لكن أو بدءاً من، أو ربما أو لأني وكأني ولست .
وإذا كان لهذه العناوين أن تدلّ علي شيء، فهي تدل علي أن الشاعرة تري أن الشعر بوصفه نوعاً من البلبلة والالتباس وانعدام اليقين، لا بوصفه فرصة لتقديم الأجوبة الشافية والتثبُّت اليقيني من الظواهر والموجودات. تقوم مجموعة في محاولة مني علي شعرية الحالة لا علي شعرية الإنشاد والإيقاع والاحتشاد التراكمي. والحالة هنا هي حالة الإنسان في السفر، حيث يفقد المكان صلابته المألوفة، وينعدم الركون إلي المشاعر والأشياء والمرئيات... ثمة ما يدفعنا في وضعٍ كهذا إلي الشعور بانعدام الأمان وبضرورة استنفار الحواس إلي أقصاها بغية التثبّت من كل ما نصادفه أو نقع عليه.
وفي المجموعة التي لا يتجاوز عدد صفحاتها الثمانين، لا تضع الشاعرة عناوين مفصلة للقصائد، كما أننا لا نجد أنفسنا إزاء/ أمام قصائد من النوع المتعارف عليه، بل إزاء مجموعة من المقاطع التي ينفرد كل منها في صفحة مستقلة، لكنه في الوقت ذاته متصل بما قبله وما بعده، بحيث تبدو المجموعة برمّتها قصيدة واحدة موزّعة علي لوحات مشهدية وحياتية مختلفة. لا تشير صباح زوين إلي البلد الذي تقع فيه أحداث المجموعة ومناخاتها، ولكننا نستنتج من السياق أنه بلد غربي، أوروبي علي الأرجح، حيث نلمح إشارات متعددة إلي صورة رامبو ورسوم بيكاسو وموسيقي فيفالدي، والمقاطع موزّعة بين مقاهي البلدة التي قصدتها الشاعرة ذات واحدة من رحلاتها، وبين مقصورات القطار الذي استقلته في سفرها.
بين هذه وتلك ثمة رؤي ومشاهد ووقائع ووجوه بشر قابلتهم بالمصادفة قبل أن يتواروا بعد ذلك إلي غير رجعة، ومن بينها وجه تلك الفتاة التي شاركتها الرحلة في مقصورة القطار:
هذا يوم بعيد أذكره/ فتاة شمالية جلست قبالتي في المقصورة/ وجهها شاحب من خيبة عاطفية/ أو ربما من إرهاق يوم طويل/ وحاولت أن تقرأ ما طبع بالإنكليزية علي قميصي القطني/ كانت قد صعدت إلي القطار في المحطة الأخيرة/ حين صار المطر يشتد .
والأمر نفسه يحدث في إحدي محطات الشمال الأخري، حيث تتبادل الشاعرة النظرات العابرة مع امرأتين متشابهتين تقفان عند المحطة، ثم ما تلبث أن تفقدهما لدي مغادرة القطار باتجاه هدفه المنشود. لا يعدو الشعر في هذه الحالة كونه انتباهاً ذكياً ولافتاً إلي ما ينتبه إليه البشر العاديون، أو إلي ما ينتبهون إليه ثم ينسونه أو يعجزون عن التعبير عنه بالكلمات. صباح زوين من هذه الزاوية تربط مهمة الشعر باستعادة الوقائع المنسية والأحداث الغفل التي تبدو من سقط الكتابة وفائضها.
والغريب في مناخ المجموعة هو أن السفر نفسه يبدو حالة من أحوال الشعر بقدر ما يبدو الشعر من ناحية ثانية نوعاً من السفر في تيه الكلمات. وفي الحالتين تفقد الأشياء طبائعها الأصلية وملموسيتها الواضحة، فيما تتقدّم الظلال لتحتل واجهة المشهد، وتبدو الحياة كما لو أنها مجموعة من الرسوم المبهمة فوق جدار مائل، كما يحلو للشاعرة أن تعبر في أكثر من قصيدة.
ثمة من ناحية ثانية إشارات متكررة إلي صور الغياب كما الأحلام الهاربة والكؤوس الفارغة والشبابيك المغلقة والأباريق المهشمة وما يستتبع ذلك من نعوت وأوصاف تدل علي القلق والخواء والوحشة وفوات الأوان. وحتي زرقة السماء التي غالباً ما تؤشر إلي جمال الطبيعة وصفائها ترتبط عند زوين بنوع من الكتابة الغامضة و تشير إلي موت ما وفق تعبيرها الحرفي. علي أن الحزن الذي نتلمسه في صفحات المجموعة ليس ذلك الحزن السوداوي المفضي إلي القتامة والكآبة التامة، بل هو نوع من الحزن الشفاف وغير المفهوم الذي يولّده الجمال في النفس، أو الذي يحضرنا في أكثر من لحظات الفرح رهافة ونعومة.
ولعل صباح زوين تتخيّل أخيراً مَن يسائلها عن معني الشعر أو عن قدرتها علي كتابة مجموعة كاملة في رحلة واحدة وخلال أيام معدودة، فتجيب بنفسها عما يختزل الكتاب برمته: بضعة أيام تكفي لدفع لغة/ صورة قطار تكفي لبناء قصيدة/ مطر قليل يكفي لامتداد كتابي/ مشهد امرأتين يكفي لإيحاء طويل/ بضعة أيام في بيت تكفي لتملأني كتابة .
القدس العربي
24/01/2008