يقول غارسيا لوركا، في محاضرة له ألقاها في هافانا، محاولا تعريف سر من أسرار شاعريته، المسمى “الدوينده” أو الروح المبدع، انه “هو القوة الخفية التي قال عنها باغانيني إنها يحسب بها كل إنسان، ولم يعرّفها فيلسوف... وتجلّي الروح المبدع يستلزم دائما تغييرا مشعا لجميع الأشكال القديمة، ويهب إحساسا بالنضرة جديدا كل الجدة، كوردة تخلق حديثا،... كمعجزة، ويولّد في النهاية ما يشبه الحماسة الدينية.. صرخة عميقة إنسانية، تجريد صادق لهذا العالم، صاف صفاء الحدائق السبع (لوركا، مختارات من شعره، ترجمة عدنان بغجاتي، دار المسيرة 1980).
الروح المبدع هنا، مسألة غامضة أو قوة غامضة، تتصل من ناحية الموسيقى، ومن ناحية ثانية بالحماسة الدينية.. انها أساس الابداع الفني، وفي أصل الشعر في غموضه ونشوته العارمة، صرخة تواصل مع الروح من خلال الحواس... نسأل: هل استطاع الباحث والشاعر البحريني، د. علوي الهاشمي، من خلال كتابه “فلسفة الايقاع في الشعر العربي” (حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالتشارك مع وزارة الاعلام في البحرين، 2006) ان يقترب من فهم الايقاع، ويقرّبه للآخرين، اقتراب غارسيا لوركا من معنى “الدوينده ـ الروح المبدع”، أم ان الدوران على امتداد مئتي صفحة ونيّف، بقي دورانا في حلقة مفرغة ليس لها أول ولا آخر، غامضة غموض الشعر نفسه، وتائهة بين محاولات التعريف بالحدود، وهي محاولات منذورة للنقصان من حيث رغبتها في تحديد ما ليس يُحدّ، فضلا عن السعي للإمساك بما لا يمسك، فإذا كان الشعر في النتيجة هو “الايقاع”، فمن بقدرته القبض على الموسيقى؟ أو على انخطافات النشوة الدينية؟ او على نشوة الابداع التي هي مجانية ولا تقدّر بثمن؟
ما هو الإيقاع
لا يفتأ الكاتب، على امتداد القسم النظري من كتابه، يكرر سؤالا هو “ما هو الايقاع”؟ وهو، اذ ينتقل من تعريف لآخر، ومن افتراض لآخر، يثبت الاختلاف والتباين في وجهات النظر حول “مسألة” شديدة الخصوصية والغموض، ليس حولها اتفاق، ولكن، ما من أحد ينفي وجودها.... حتى لكأن الايقاع هو السحر، الحاضر بظاهره، الغامض بأصله وجوهره، او انه طرف من الغيب، او سر من أسرار الموسيقى... ومن كل ما لا يعرّف، لجهة الجوهر، ولكنه يتمظهر كما تتمظهر الروح في الجسد. بالتأكيد، ثمة صلة بين الموسيقى وآلاتها، الكمان، العود، الفيولون... الخ لكن الموسيقى ليست هي آلاتها، ولا حتى أصواتها.. وثمة صلة بين الشعر والكلمات والايقاعات (الأوزان او التوازنات) لكن الشعر ليس هذا وذاك. وبرغسون حين يعرّف الايقاع بأنه الجسر الواصل بين المبدع والمتلقي يلمس الأثر ولا يمس الجوهر... ت. س. إليوت يتقدم خطوة حين يرى ان “موسيقى الشعر ليست قضية سطر بعد سطر، انما هي كلية النص”، ويرى ان “الموسيقى هي موسيقى خيال بمقدار ما هي موسيقى صوت” تماما كما يرى د. هـ. لورنس “جناحين للنص”.. لكن الأكثر تمثيلا لمعنى الايقاع في الشعر، صورتان احداهما لإليوت، والثانية لأوكتافيو باث، أما إليوت فيقول: “وراء أشد الشعر تحررا، يجب ان يكمن شبح وزن بسيط، اذا غفونا برز نحونا متوعدا، واذا صحونا غفا”.. هذا الشبح المتحرك المتخفي الغامض، هو الايقاع. انه تبعا لفكرة إليوت، عفريت الشعر...
لا يبتعد أوكتافيو باث عن إليوت في تقريب فكرة الايقاع في الشعر، لمن يسأل عنها، ما هي.. يقول: “القصيدة هي المحارة التي تصدح فيها موسيقى العالم، وما القوافي والأوزان إلا ترددات وأصداء هذه الهارمونية الكونية”.. وجميع من حاولوا القبض على جوهر الايقاع في الشعر، أو في اللحظة الشعرية، انتهوا للقبض على أثرها المادي، المتمثل في الأشكال الفنية، سواء اتصلت هذه الأشكال بالأصوات وأداتها الأذن وحاسة السمع، أو بالأشكال والصور، وأداتها العين وحاسة النظر، والمحصلة الأخيرة اصطياد اللحظة الشعرية التي هي لحظة الايقاع، كما يصطاد الصياد بالشبكة روح الكون (ماكليش)... إن تشبيه المحارة الذي ابتكره أوكتافيو باث، تشبيه فذّ، من ناحية اتصال المحارة بشكل الأذن، وبموسيقى البحر من ناحية ثانية... فالايقاع في الشعر هو ناقل موسيقى البحر وموسيقى الكون الى محارة الكلمات، بداية من خلال الصوت (السمع) ومن ثم من خلال المخيلة. لم يفلح علوي الهاشمي في الوصول الى تعريف الإيقاع في الشعر العربي، أي في الامساك بما لا يمسك به، وأهمية كتابه ليس في النتائج والمناهج والاقتراحات، بل في عرض الأفكار وتتبعها، وحين انتهى الى بيدر الحصاد، انتهى الى الحصيلة التالية، وهي المحصّلة اللازمة لسؤاله المتكرر على امتداد 53 صفحة من الكتاب: ما هو الايقاع؟... “إن الايقاع يعني انتظام النص الشعري بجميع أجزائه في سياق كلي، او سياقات جزئية تلتئم في سياق كلي جامع يجعل منها نظاما محسوسا او مدركا، ظاهرا او خفيا، يتصل بغيره من بنى النص الأساسية والجزئية، ويعبّر عنها كما يتجلى فيها. والانتظام يعني كل علاقات التكرار والمزاوجة والمفارقة والتوازي والتداخل والتنسيق والتآلف والتجانس، مما يعطي انطباعا بسيطرة قانون خاص على بنية النص العامة” (ص53)... وكان قد مهد لهذا التعريف النقدي الطويل للايقاع، بسبع نقاط هي عناصره، على ما يرى، وهي:
- البنية الايقاعية هي انتظام محسوس او مدرك.
- لهذه البنية مستويان ظاهر وباطن (غالبا ما يشير الكاتب الى عبارتي الخفاء والتجلي المعروفتين لكمال أبو ديب).
- المستوى المستتر أكبر أثرا من الظاهر... ويربط به مصطلح الايقاع الداخلي.
- ترتبط البنية الايقاعية بالبنى الكلية المحيطة بها. خاصة البنية اللغوية.
- تتمثل وظيفة الايقاع في تنظيم وظائف الدماغ (يستعمل اكاتب كلمة المخ).
- الايقاع الصوتي (تجربة الأذن) هو المستوى البارز غالبا، لكنه ليس الوحيد. لذلك يستعير الكاتب لكشف سائر الايقاعات المتصلة بالعين (الصورة) والفضاء وسائر المدركات، عبارة “التوقيع” التي استعملها الدكتور محمد الهادي الطرابلسي في مقالة له حول مفهوم الايقاع في الشعر.
- الايقاع الصوتي يتداخل ويتشابك في داخل النفس، مع ايقاعات أخرى، حيث يتم في داخلها السري، ما أشار اليه عبد القاهر الجرجاني من “الجمع بين رقاب المتنافرات”.
ونسأل: هل هذا التعريف الطويل، مسبوقا بهذه النقاط المفصلة، كافيان للتعريف بالايقاع في الشعر؟ ونجيب بأن للمؤلف شرف المحاولة في تلمس الطريق لضالة صعبة وخفية لحدود الاستحالة. فالايقاع هو الشعر. والشعر ما هو؟... والنظرية النقدية العربية، او النظريات النقدية بمجملها، بما فيها النظريات الغربية، لم تستطع في لحظة من لحظات جلائها، تلافي الوقوع في الغامض والمستور والخفي، لمسألة الايقاع، بسبب ارتباط الشعر والموسيقى بالميتافيزيك. ان النظرية النقدية العربية للشعر، بما هو نسق وانتظام ووزن، للمخيلة وعالم التمثل، ليست ذات أصل نقدي أدبي، بل فلسفي. والأصح القول ان كلاً من ابن سينا والفارابي، تأسيسا منهما على أرسطو في كتاب الشعر، وأفلاطون، سبقا الى اعتبار الشعر هو انسكاب المخيّلة (والخيالات التشبيهية) في الوزن. وحين اعتبر الجاحظ ان الشعر في ما هو وزن، هو معجزة العرب وفلسفتهم واساس خلودهم، واستطرد الى استحالة ترجمته لأية لغة اخرى (إلا من خلال معادل وزني)، فإنه أسس ذلك على اعتبار فلسفي. لم يكن “الايقاع” في الشعر، مصطلحا مستعملا في الأدب النقدي والفكر الفلسفي العربي، القديم، إلا لدى ابن سينا. ان الوزن كان مصطلح الشعر، أما مصطلح الموسيقى والغناء فهو الايقاع، ما خلا ابن سينا، فإنه أشار الى ايقاع الشعر وتفرعه عن ايقاع اللحن الموسيقي، لجهة الوحدات الصوتية المتماثلة المتمثلة بالنقر... فالايقاع نقر زماني في الغناء، ونقر صوتي تفعيلي في وزن الشعر. لكن، كما ان النقر والنوطة لا الآلة في الموسيقى، تصنع الموسيقى (في ما هي روح مبدع بتعبير لوركا) كذلك فإن التفاعيل لا تصنع الشعر، ولا الوزن، لأن ما يصنع الشعر هو هو ذاك الروح المبدع.. معنى المعنى وروح الكلام. وقديما قال ابن الرومي:
“مستفعلن فاعلن فعول
مستفعلن فاعلن فعول”
بيت كمعناك ليس فيه معنى سوى انه فضول”.
هذا السر في إيقاع الشعر، الذي لا يحصر في شكل أو يحصر في حاسة، أو وزن أو تفعيلة، أو سوى ذلك، يجعل من الايقاع، بحق، كما يقترح د. علوي الهاشمي، “بنية إيقاعية” أي “مجمعا للمتنافرات” (بعبارة الجرجاني)، وهي بنية متحركة في الزمان والمكان، بل بنية متحركة من قصيدة لأخرى... وحرة في ان تنتظم أو تتفجّر.. فانتظام البنية الايقاعية قد يؤدي الى الرتابة... بل هو بالتأكيد انتظام ممل. ان سبب تفجّر البنية الايقاعية العربية القديمة، ووصولها الى النثر (من خلال تجارب قصيدة النثر)، هو الملل، على ما رأى د. إحسان عباس. وما وقع فيه علوي الهاشمي من انحيازه النظري الى نهايات البنية الايقاعية للقصيدة العربية، وتشظّيها في قصائد النثر، لا يبرره تطبيقه العملي لدراسته لتجربة الشاعر السعودي علي بافقيه في مجموعته الوحيدة “جلال الأشجار”، حيث تتجاوز البنى الايقاعية العربية وتتمازج، بين الايقاع البيتي، وإيقاع التفعيلة، والإيقاع النثري. وهو ما نميل اليه حقا. فالتطور الايقاعي للقصيدة العربية ليس تطورا إلغائيا بل هو تطور إخصابي. انه كثرة وليس قلة واختزالا. والقصد، حقا، في مسألة تطور البنية الايقاعية في امتداد الزمان العربي من الجاهلية الى اليوم، هو “اعتصار ماء الشعر من جميع أوعيته المعروفة” و”رؤية اللحظة الشعرية عارية في براري الحرية”، رؤيتها هكذا مكشوفة وعارية وضارعة، وكأنها أحد تماثيل جياكوميتي.. أو كأنها واقفة على رأس الإبرة الموجع.
إن التطور الإيقاعي للقصيدة العربية، وشرودها الإبداع في الزمان، يأخذ مرجعيته في هذه القصيدة بالذات، وفي أساس مشروعية الخروج عليها، من خلال ما سمي في نقد الشعر بالزحافات والعلل. انه الكسر المبدع دائما وأبدا، مولّد الإيقاع الجديد والمحرّض عليه.