يوسف حاتم

من سافو العسل والنحل الى بيليتيس المخترعةصدر حديثاً كتاب "الشاعرة الاغريقية سافو/ لا العسل تشتهيه نفسي ولا النحل" عن "دار كنعان"، ترجمة طاهر رياض وأمينة أمين، وكان صدر قبل أربعين عاما كتاب "سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان" لعبد الغفار مكاوي عن "دار المعارف"، وفي طبعة جديدة لدى سلسلة "آفاق عالمية". وتتزامن الحماسة لترجمة قصائد سافو الأغريقية مع اهتمام ملحوظ بكتاب "اغاني بيليتيس" ورواج الروايات الخليجية تحديداً، التي تتحدث عن العوالم السرية للمثليات في المجتمعات العربية، وتتقاطع مع احتفاء فرنسا بالذكرى المئة لولادة الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار، منظّرة النسوية الأولى، في خضم موجة الاحلام في الستينات من القرن الماضي.

تصدرت العلاقات الخاصة لدو بوفوار واجهة الصحف والمجلات الفرنسية، ونشرت صورتها عارية على غلافة مجلة "لو نوفيل اوبسرفاتور"، واستنكر انصار الفكر النسوي هذه الطريقة التي احتفت فيها المجلة بزعيمتهم، من خلال استخدام الجسد للاحتفاء بالفكر، لذا خرجوا في تظاهرة امام مقر المجلة منددين بما سمّوه التمييز الذكوري الذي مارسه القائمون على المجلة بنشرهم صورة دو بوفوار. وكان طبيعيا، ردا على ذلك، ان يطالبوا المجلة بنشر صورة لمؤخرة سارتر كما فعلوا مع مؤخرة عشيقته. تبدو شخصية دو بوفوار سجالية مثل سافو، فهي التي اصدرت كتاب "الجنس الثاني" (او الآخر)، وجعلت ألبر كامو يتهمها بإهانة الرجل الفرنسي. على ان الكاتبة الفرنسية النسوية كانت في المضمر في مكان آخر، فهي التي تقول في احدى رسائلها الى حبيبها: "اريد ان اكون لك زوجة عربية مطيعة" او أنها تريد ان تكنس منزله، وعلى هذا تبدو دو بوفوار بشخصيات كثيرة او انوات كثيرة. الأراء حول الكاتبة الفرنسية لا تختلف عن السجال حول الشاعرة الاغريقية الفظة والحنونة، والتي لا يزال لها وقعها في النسيج الثقافي والاسطوري. ففي حياتها من الاسطورة أكثر مما فيها من الواقع، ولها من الخيال نصيب أوفر مما لها في الحقيقة.

ما نستنبطه من قراءة سافو أن سيرتها اقوى من شعرها، او أن نجوميتها الشخصية والاسطورية تسبق جملتها الشعرية، وتقف في الواجهة وتبدو اثارها جزءاً من تفسير سيرتها وشاهدا على اقنعتها الحياتية. عاشت في الفترة بين 610 و560 قبل الميلاد، ونالت شهرة واسعة في عصرها، وفي العصور التي تلت، بما اكتنف حياتها من جرأة وغموض، وما اتسم به شعرها من تعبير حار عن الحب وعذوبة وقوة في العاطفة. بقي من أشعارها القليل، ولمصر فضل في ذلك. ففي عام 1897 وجد الباحثون في بعض توابيت الفيّوم، التي تحوي الأوراق، عددا من قصائدها المعروفة الى الآن.

"كانت سافو امرأة فذة عجيبة"، هذا ما نقله يول ديورانت في المجلد الثاني من كتابه "قصة الحضارة" عن المؤرخ اليوناني سترابون، أما ديورانت فيقول عنها "إن الأقدمين إذا ذكروا لفظ الشاعر فإنهم يعنون هوميروس، كذلك لفظ الشاعرة يُعنى به سافو"، وشهد عصرها، والعصور التالية لها في تاريخ اليونان اهتماما بإنتاجها الأدبي، إذ كانت تلحن أشعارها وتغنيها، وأضافت الى الأوزان الشعرية المعروفة في عصرها الوزن السافوني المعروف للآن، وكان سولون وهو واحد من المشرعين الأوائل، وحاكم أثينا، يقول عنها "أتمنى أن أحفظ شعر سافو قبل أن أموت"، وفيما كان سقراط أعظم الفلاسفة يسميها "الجميلة"، كان أفلاطون يهتم بأشعارها أيضا ويقدرها.

قيل ان أحداً من معاصريها لم يضاهها، باستثناء الكيوس واركيلوكس. كانت تكرَّم حينا، فيضع "الميتيليون" صورتها على عملتهم، وتُلعن حينا اخر بسبب ما أشيع من حبها للنساء. كتب عنها اوفيد قائلا:" ماذا علّمت سافو فتياتها، سوى ان يمزجن الحب بالنبيذ؟". حتى ان افلاطون اعتبرها عاشرة الموزيات التسع (ربات الفنون والآداب)، واستلهم اوفيد منها بعض رسائله، وامتدحها الكسندر بوب، واعتبرتها فرجينيا وولف احدى اهم شاعرات التاريخ. أما في الأزمنة المعاصرة ومع بقاء أجزاء بل نتف من أشعارها، فاستمرت كواحد من أكثر الأسماء شهرة واستحضاراً من بين أسماء العصور القديمة. اعتبرها البعض، أبعد من ذلك، كلغز سوسيولوجي - تاريخي، أديبة عرافة، أيقونة أنثوية، بل العمود الذي يرقص ويدور حوله الدارسون. ويصادف اسم سافو في الدراسات عن تاريخ الشذوذ عند النساء، لأنها من مدينة لسبوس، واسم المدينة مرادف كلمة الشذوذ عند المرأة (lespanism)، ومنسوب إليها، وقد ساعد في إطلاق هذه الصفة عليها علاقتها القوية المشحونة بالعواطف الجياشة بين تلميذات مدرستها، ومما يدعم هذه الشائعات ما بقي من كتابتها، وخصوصاً قصيدتها الى أفيس، ومما تقوله: "لقد أحببتك يا أفيس منذ زمن بعيد"، كذلك ما كتبته تحسد زوجها "إنه سعيد ذلك الرجل الذي يجلس بالقرب منك ويستمع إليك. وأنت تتحدثين حديثك الفضي وتضحكين". وكذلك "لأني إذا رأيتك لحظة قصيرة خشع صوتي من فوري، وانعقد لساني، وسرت في ضلوعي نار يحس بها من حولي، ولا تبصر عيناي منها شيئا وتطن في أذني أمواج من الصوت عالية ويتصبب جسمي عرقا فيجري أنهارا، وترتجف جميع أعضائي ويصبح لوني أكثر اصفرارا من لون العشب في الخريف، وتنتابني آلام الموت المترصد لي فأضطرب وأضل في سكرات الحب". تضيف: "لن أرى أفيس بعد اليوم ولا فرق عندي بين هذا وبين الموت". أما أفيس فتركت المدرسة وهي تقول "واحسرتاه ما أتعس حظنا أقسم لك يا سافو أن فراقي إياك كان على الرغم مني".

سيرة ناقصة
ولدت سافو في جزيرة ليسبوس، في الوقت الذي حكم نبوخد نصر بابل، وراح حكماء الإغريق السبعة ينطقون بحكمتهم الخالدة، وماج العالم واضطرب بتقلبات سياسية، ووسط هذه الأجواء بقيت سافو على عهدها تنشد أغاني الحب والحياة.

انتقلت قبل زواجها من كركيلاس الى مدينة ميتيلين عاصمة الجزيرة، وكانت هذه المدينة، على ما يروي مكاوي، مسرحاً للعواصف السياسية، استمرت عشرات السنين، بعدما استولى الطاغية ميلانكروزس على الحكم وقمع بوحشية الثورات الطويلة التي قامت ضده. وبرغم الحوادث المريرة والكالحة التي عاشتها سافو في خضم هذه المدينة، إلا أنها لم تترك أثراً في شعرها فقد ظلت تحتفظ بعالمها الشعري، وتدافع عنه كجزيرة خاصة، وترفض أن يلوّثه هذا الصخب السياسي الموقت والعابر. ويعزو مكاوي موقف سافو هذا، إلى نزعتها الإنسانية الخالصة، وكذلك إلى طبيعتها الأنثوية التي تجعل المرأة دائماً أكثر اهتماماً بمصائر القلوب منها بأخبار الحروب، وهي تقول في احدى قصائدها: "من الناس من يحبون جيوش الفرسان/ ومنهم من يرى ان جحافل المشاة او السفن/ هي اجمل شيء على الارض،/ اما انا فاجمل شيء عندي هو ما يحبه القلب".

عرف عن سافو انها لم تكن جميلة المظهر، بل ربما كانت اقرب الى القبح ببشرتها السمراء وقامتها القصيرة وملامحها الخشنة. وهي تعترف بذلك في بعص قصائدها اذ تقول: "ان كان القدر القاسي قد حرمني من جمال الجسد/ فإن نبوغي في الشعر يعوضني عن هذه العيوب جميعا". تزوجت سافو من رجل ثري يدعى سركولاس وانجبت منه ابنة سمّتها على اسم امها كلايس. كانت لها ثلاث صديقات. يزعم بعضهم ان علاقة الصداقة التي ربطتها بهن كانت مشينة.
ورغم انغماس سافو في الحب الا أنها لم تنقطع عن العمل السياسي، ونفيت في شبابها الى جزيرة صقلية بسبب نشاط زوجها السياسي. وبعد عودتها راحت تتعهد في بيتها مجموعة من الفتيات وتلقنهن فنون الرقص والعزف والغناء، وتدربهن على آداب اللياقة وإعداد الأكاليل وعقود الورد، وتشركهن في حفلات الزفاف والأعياد ومسابقات الجمال التي كانت تقام تكريما لافروديت، في المعبد المقدس، على شاطئ الخليج في الشمال الغربي لمدينة ميتيلين.

امتهان الجمال
لم يكن هذا "المعهد" الذي رعته سافو بدعة في ذلك العصر، بل كانت هناك معاهد اخرى منافسة. ولم تكن غايتها تخريج راقصات او مغنيات، او حتى كاهنات للمعابد، بل إعداد فتيات يهتممن بالجمال، ليقمن على خدمته. قيل الكثير عن طبيعة العلاقة التي ربطت سافو بتلميذاتها، وانها تعدت علاقة معلم بتلميذه. يلاحظ ذلك من اشعارها، المفعمة بمشاعر الحب والشوق. وربما كان هذا ما دعا عددا من الكتاب المعاصرين لها الى رواية الأقاصيص عن "شذوذها". كانت قيمة الحب عند سافو لا تقل عن اي قيم أخرى يعتز بها معاصروها من الرجال، ويؤكد انصرافها الى حياتها الخاصة عن الحياة العامة حرصها على استقلال المرأة في تلك الفترة المبكرة من التاريخ. وليس من قبيل المصادفة ان تقارن نفسها بهيلانة التي ضحّت ببيتها وزوجها في سبيل حبها وجرّت الخراب على طروادة في الحرب الطويلة الطاحنة بينها وبين اثينا.
كتبت سافو الشعر في وقت كان يسيطر على الأدب الاغريقي تأثير هوميروس والشعر الملحمي. مع ذلك فإن تقليد الشعر الغنائي كان أقدم ولعب دوراً مهماً في التاريخ الاغريقي. وعرف هذا النوع من الشعر عودة ناجحة خلال زمن سافو. قبلها عمد الشعراء مثل اريكيليكس، الأفضل بعد هوميروس، لاستعمال القصيدة الغنائية لتحدي القواعد الاجتماعية عبر الصوت الفردي، لكن في أعمال سافو الشعرية تبلغ العاطفة مشارف جديدة من الجلال الفعلي.
تخاطب جيلها في هذه الأبيات: "انظر هو ذا شعري منثور على رقبتي بغير عناية/ لا حجر براق يزين يدي ولا خاتم/ ردائي اليوم فقير، شعري عاطل عن الذهب/ وهدايا بلاد العرب لا تعطر خصلاتي/ لمن ازين نفسي، من الذي ارجو رضاه؟/ بعيدا انت عني، يا من له وحده كنت اصنع كل هذا".

ما تقوله سافو عن الموت شيء راعب وساخط وفظ، اذ يروي ارسطو مثلاً في كتاب "الخطابة" (الجزء الثاني) على لسانها ان الموت شيء فظيع، وان الالهة انفسهم حكموا بذلك على البشر، ولو ان الموت كان شيئا جميلا لماتوا هم ايضا. الاحساس بالموت ظاهر في اشعارها ويؤثر على النفس بمثل ما تؤثر كلماتها عن الشيخوخة وضياع الشباب: "الشيوخة توقظ الحزن/ الاقدام ترتعش، الركب يصيبها العجز/ الشيخوخة تحفر اثارها على الجلد في كل مكان".

يتكون بعض قصائد سافو من 100 سطر. لكن ما تبقّى اليوم من كل هذا ليس سوى شذرات، القصيرة منها سطر واحد، وأطولها أربعة سطور، والبقية اقوال مأثورة وعبارات وشواهد، واكتشفت في أوائل القرن العشرين مكتوبة على لفائف مومياءات من أوراق البرديّ. أما أين ذهبت مجلداتها التسعة، فذلك ما يرويه تاريخ إحراق الكتب. فقد أحرق المسيحيون كتبها في العام 380 ميلادية بأوامر من البابا غريغوري نازين، وأحرق كتاب آخر في العام 1037 بأوامر من البابا غريغوري السابع، وهو آخر حريق محا كل اثر من آثارها. وكانت هذه الحرائق من بين أكثر الحرائق مأسوية في تاريخ الآداب والفنون الإنسانية.

سبوتنيك الحبيبة
حكاية "سافو المسترجلة" تأخذنا الى متاهة الجنس والمثليات في الأدب والشعر العربي والعالمي. ففي روايته "سبوتنيك الحبيبة" (ترجمة المركز الثقافي العربي) يدخل الروائي الياباني هاروكي موراكامي في روايته، كما في معظم اعماله، الى عالم العلاقات الحميمة في الحياة المعاصرة. يجعلنا بجاذبية طريقته في القص نعيش وقائع الرواية كما لو انها قريبة منا، وشخصياتها موجودة بيننا. يصور موراكامي في سبوتنيك (اسم المركبة الفضائية الروسية الأولى التي يصادف هذا العام مرور نصف قرن على أطلاقها) حياة فتاتين وعلاقتهما الغريبة، يقول: "في اللحظة التي لمست ميو شعر سوماير احبتها، كما لو تعبر حقلاً عندما "بوم!" ضربتها صاعقة برق على رأسها. شيء كإيحاء فني". يفسر موراكامي لماذا لم تكترث سوماير لأن من احبته كان امرأة. ويضيف: "اخبرتني مرة بوجه رصين: "بصراحة تامة، الرغبة الجنسية تحيّرني". فهو يعتبر ان "الرغبة الجنسية ليست شيئا يفهم. هي موجودة فحسب". والرواية "ليست شيئا من هذا العالم"، لأنها تتطلب "نوعا من التعميد السحري لربط هذا العالم بالعالم الآخر".
تحيّر الرغبة الجنسية كما مسار الرواية، ولا تنفصل مثلية النساء عن هذه الحيرة. ربما لهذه الاسباب لا تفهم الفتاة العادية انخراط الفتاة المثلية في رغبتها. لكن "الزوجة المطيعة" سيمون دو بوفوار التي تقول: "لا نولد نساء، نصير كذلك"، فتحت الطريق لرؤية جديدة للمرأة، في قولها المعبر الحقيقي عن ثقافة الجنس. اما فرويد فاعتبر ان كل واحد يحلم داخل لغته، والمثلية النسائية حلم داخل الجنس، بل هي الحلم الذي يؤسس النص بدوره، والجماع والكتابة مرتبطان باللذة نفسها بحسب الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي. وفي الفكر الفلسفي، تعكس الخنوثة فكرة الوجود. الى هذا يجاهر بعض الادباء بالشذوذ ويعلنون تفوق الجسد الذكوري جماليا على جسد المرأة، ولكن في الرسم نلاحظ ان جسد المرأة يتفوق على جسد الرجل، اذ كثيرا ما يرسم الفنانون الفتيات المثليات في مشاهد لافتة يستهويها المجتمع الذكوري بامتياز. واذا كان التطرق الى احوال المثليات حاضراً بقوة في الثقافة الغربية، فاكثر ما يتكون الحديث عن قمع المثليات (والمثليين)، في العالم العربي والبلدان التقليدية، ووضعهن في خانة صاحبات الرذائل، وفي بعض المجتمعات يتعرضن للجلد برغم انه لا يوجد نص يمنع فعلهن. وكان التطرق الى احوال المثليات حاضرا في بعض الكتابات العربية، وخصوصا في رواية "انا هي انت" لالهام منصور و"مسك الغزال" لحنان الشيخ و"الآخرون" لصباح الحرز، و"رائحة القرفة" لسمر يزبك، وفي المدة الاخيرة بدا أن ثمة حماسة من الروائيات اصحاب الاسماء المحجبة او المستترة في الخليج العربي للكتابة عن المثلية.

عذاب بودلير
ليس العالم العربي وحده، الذي يحترف قمع المثليات ونبذهن وسحقهن. ماضياً، كانت اوروبا اكثر شرراً في قمع، ليس المثليات فحسب، بل الادب الذي يتحدث عنهن. فكتاب "أزهار الشر" لشارل بودلير كان عنوانه الاساسي "السحاقيات"، وحكم عليه لإدخاله النساء الملعونات من باب الشعر. الشاعر الفرنسي الذي تلقى الصدمات بعد وفاة والده وزواج امه، تزخر "ازهاره" بكلمات شيطان، أو هاوية، أو جثة، أو جيفة، أو ضجر، أو جحيم، أو خطيئة، أو ذنب، أو عهر، أو عذاب، أو ألم، أو سأم، أو سقوط. بالطبع، فإن الكلمات المضادة كالجمال، والمثال الأعلى، والأثير اللازوردي، والبحر اللانهائي، والله، موجودة أيضاً. ولكن تبقى الغلبة لقوى الشر والسقوط.
بودلير رجل، وكتب عن المثليات، اما الشاعرة املي ديكنسون التي تغزلت بصديقتها، وكتبت فيها الكثير من القصائد فعاشت حياتها كلها في البيت من دون ان تتزوج، وتلقّت تعليما متوسطا ولكنها قرأت كثيرا في المنزل. رغم عزلتها، ارتبطت بقصص حب لم تسفر عن شيء مع كل من بنجامين نيوتن وهو محام تمرّن على يد والدها، وظلت تشير اليه كـ"صديق علّمني الخلود". بعد ذلك احبت رجلا اسمه واسروث، لكنه انتقل في ما بعد الى بلدة بعيدة عنها وانقطعت علاقتهما الى ان اصبحت على صلة عاطفية مع ناقد لكنهما لم يتزوجا. وبعد عام 1862 أصبحت الشاعرة تدريجيا اشبه بناسكة. وفي العقد الأخير من حياتها لم تغادر بيتها قط، بل رفضت رؤية الغرباء وجعلت بيتها وحديقتها حدودا لتجربتها، وكانت ترسل الرسائل الى اصدقائها وجيرانها الى ان ماتت عام 1886 عن عمر يناهر ستة وخمسين عاما. كانت نشرت وهي على قيد الحياة سبع قصائد غفلة الاسم، ونشر بعضهم هذه القصائد من دون تفويض منها، وحين توفيت اكتشفت شقيقتها انها كانت كتبت ما يقارب ثماني عشرة الف قصيدة.

سيرة ديكنسون هيّنة، مقارنةً بسيرة الروائية فرجينيا وولف الصادمة التي تحدثت على الملأ عن مثليتها، من خلال علاقتها بالأديبة فينا سكافيل ويست. ولدت وولف عام 1882، تلقت تعليمها على يدي والديها وكانت تعاني حالات اكتئاب واضطراب عقلي وكان لأخيها غير الشقيق جورج تأثير كبير في اضطراباتها العقلية بمداعباته الجنسية لها. أصيبت اكثر من مرة بانهيار عصبي، وحاولت الانتحار اكثر من مرة الى ان انهت حياتها غرقا بعدما حشرت حجراً في جيب معطفها.
للفنانة التشكيلية فريدا كاهلو تجربة غريبة ايضا. كانت تضع الجمال والفن وسيلتين في كل معركة تدخلها. تعدّ احد رموز الثقافة المكسيكية التي غابت عن مسرح الحياة الفنية قبل نحو خمسين عاما، ولكنها بقيت خالدة كرمز. وتردد انها كانت تحرص على ان تبقي شاربيها الخفيفين وحاجبيها المعقودين في إشارة الى تمايزها. الغريب ان علامات الرجولة تنقص من فيض انوثتها الدافقة. ولديها صور فوتوغرافية في صباها ترتدي بدلات الرجال، كما رسمت نفسها على هذه الحال، وهي تتوحد مع هيئتها، حتى يكاد الناظر يشك في جنسها، وبعض النقاد يعزون ذلك الى مثليتها.

تزخر بعض النصوص الشعرية النسوية في وصف الاحوال المثلية، وكل مشهد له اقنعته ودلالاته ويبدو اشبه بتمزيق التابوات. تصف جويس منصور مثلا، في مشهدية امرأتين: "رفعتا تنورتيهما/ ملابسهما الداخلية/ زبانياتهما/ وتداعبتا بالفخذ، وربلة الساق والركبة". يعتبر الناقد محمد عباس هذا الشعر بمثابة "الرد الأنثوي على أسطورة الذكوري". وتتمثل بذلك، أدريان ريتش، التي طالما حلمت بصاحبتها قصيدة، وتمنت أن تؤاخيها علنا لتقولا حبهما على الملأ، فهي ترى أن المثلية أمر مفروض على المرأة بالقوة، ومن وراء وعيها أيضا، وكانت ريتش تزوجت عام 1952 وطلقت زوجها عام 1970 لتصاحب امرأة بديلة وتتغنى بتلك الصحبة شعرا، حتى غدت أشهر شاعرة مثلية في أميركا. تقول في احدى قصائدها: "يدك الصغيرة تعادل يدي تماما/ الإبهام فقط أكبر بعض الشيء، وأطول/ في هاتين اليدين/ أستطيع أن أثق بالعالم/ وبمثل هاتين اليدين/ يمكن أن أقاوم ما لا يتقى من العنف".

عام 1976، كانت ريتش أعلنت للملأ كونها مثلية. وفي مؤلفها "دم، خبز وشعر" 1986، تتابع معالجة القضايا ذاتها المتعلقة بالمرأة السحاقية والهوية والتمييز العنصري، إضافة إلى قضايا الشعر.

الاغاني المخترعة
ولما كانت بداية عجالتنا عن الشاعرة الاغريقية سافو "المسترجلة" والرقيقة القلب، ربما علينا ان ننهي كلامنا عن شاعرة "مخترعة" ومن غير وجود، نُصبت الهة للسحاق. فالنافل ان الشاعر الفرنسي بيار لويس (1870 - 1925) استغل النزوع الإستيهامي الايروسي المثلي، فألّف أكذوبة شعرية عنوانها "أغاني بيليتيس" ونسب مترجماته المصطنعة الى شاعرة بالاسم نفسه، لينصبها آلهة للسحاق، إذ ادعى أنها عاشت في القرن السادس قبل الميلاد واكتشفها باحث مختلق أيضا اسمه غوستاف هايم. يقول الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي ان كتاب "أغاني بيليتيس"، عندما طبع عام 1895 قدّمه بيار لويس كترجمة أمينة لقصائد غير منشورة ألّفتها امرأة تدعى بيليتيس، ورحبت به الأكاديميات المختصة بالتراث اليوناني كأكبر كشف أدبي. وبما أن الكتاب يتحدث عن هيام بيليتيس وغرامياتها مع عدد من النساء، شعر معظم القراء والمختصين أن الحلقة اليونانية قد تمت. ذلك مثلما هناك أفروديت إلهة للجمال، ها هي، أخيراً، بيليتيس إلهة للسحاق. غير أن عددا من الكتاب كاندره جيد وبول فاليري وكلود دوبوسي كانوا على علم بأن القضية كلها خدعة: "لا وجود لا لبيليتيس ولا لغوستاف هايم، وأن الكاتب الحقيقي لهذه "الأغاني" هو صديقهم الشاعر الشاب بيار لويس". ومع هذا فإن الأكاديميين أشادوا بالترجمة وبعضهم راح يضيف بعض المعلومات المتعلقة بحياة بيليتيس والبعض الآخر كتب رسالة الى بيار لويس معتبرا بيليتيس مثل الشاعر اليوناني الفينيقي الأصل ميلياغر موضحا أن "بيليتيس وميلياغر ليسا غريبين عليّ، إنهما من الآن صديقاي الشخصيان"! المثير أن بيليتيس دخلت معجم الأعلام اليونانيين مع شكر للمكتشف هايم والمترجم لويس. على أن خدعة كهذه لا تتم بسهولة وإنما تحتاج الى قدرات أسلوبية ومعرفة متبحرة بالآداب اليونانية واللاتينية، وتفهم حسي لمتطلبات جسد المرأة وأحاسيسه السرية. ورغم أن بيار لويس لم يبلغ الرابعة والعشرين عندما طبع "أغاني بيليتيس"، فقد كان معروفا في الوسط الأدبي عبر أشعاره وخصوصا عبر ترجمته لأشعار ميلياغر، و"مشاهد من حياة السراري" للوسيان اليوناني، واشرف على مجلة "La Conque" التي قدمت جيد وفاليري. كما أنه صاحب أعمال تتناول الجسد الأنثوي. كان يكتب "أغاني بيليتيس"، عندما كان في زيارة للجزائر فالتقى هناك بفتاة جزائرية اسمها مريم بنت علي، فتعاشق معها، فألهمته، لصوغ ملامح بيليتيس، بدلعها الطفولي، ولون عينيها، وضحكتها وشهوتها. يقول لويس في قصيدته "ثديا مناسيديس": "بعناية فتحت بيد ثوبها وعرضت لي ثديين ناعمين دافئين كما لو تقدم يمامتين حييتين للإلهة. احبيهما جيّداً، قالت لي، فأنا أحبهما جداً، إنهما حبيبان، أشبه بطفلين صغيرين. عندما أكون وحيدة أهتمُ بهما. ألعب معهما، أمتّعهما. أغسلُهما بالحليب. أرشّ عليهما مسحوق الزهر. وشعري الناعم الذي يمسحهما جد عزيز على أطرافهما الصغيرة. أداعبهما برعشة. أمددهما في الصوف ليناما. وبما أنه سوف لن يكون لي أطفال أبداً، كوني، يا حبيبتي، رضيعاً لهما، بوّسيهما مكاني، بما أن فمي بعيد عنهما".

مات بيار لويس في مسكنه الباريسي عام 1925، نصف أعمى، مشلولا تقريبا، مصابا بمرض عصبي ومعذبا بالأرق، متأثرا على الجانب النفسي وليس أقل منه على الصعيد الجسدي. توقف عن النشر منذ السادسة والثلاثين من عمره، وظل يعيش مرابطا في مكتبه بسكناه حي بولان فيليي، بين رفوف كتب عالية وخلف أستار سميكة منسدلة دوما على نوافذ آيلة الى السقوط تقريبا. وكان على ما يبدو أحد كبار الايروسيين الأفذاذ في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
أيتها الايروسية المؤلمة كم أنت قادرة على استفزازنا!

النهار
الجمعة 07 آذار 2008