تظهيرُ الهوّةِ بين المحسوس والمجرّد، أو شحذ المسافة بينهما، هو الهاجس المحوري في قصيدة سليم بركات، التي تخفي في ثناياها إيقاعي الرّفيع «the sublime» والجميل «the beautiful» في آنٍ واحد. والرّفيع يتجلّى في استنطاق المخبوء والسرّي، وإيصال المجاز إلى ذروة بلاغية شاهقة، والجميل يتمثّل في ابتكار طقس رومانسي، قائم على استنهاض رموز الطبيعة، وإعادة تسمية أشيائها، عبر فكّ عقدة لسانها. الرّفيعُ يطلّ على اللانهائي، الغامض، والمعتمِ، والجميلُ ينكشفُ على الأرضي، الواضحِ، والنهائي.
هاتان السمتان، الكلاسيكيتان في جوهرهما، تميزان شعرية بركات منذ دواوينه الأولى، والتي تصقلها، إضافة إلى ذلك، رحابةُ رؤيا الشاعر، وقوة عاطفته، وفخامة بيانه. وإذا عرفنا أن بركات ينتمي إلى تقليد الشعر البلاغي الذي يُعنى بالفصاحة اللغوية، على غرار شعراء مثل ميلتون وشللي وغوته وأبي تمام وسعيد عقل وأدونيس، ندرك سرّ الانتباه الشديد الذي يوليه لكلّ فاصلة ونقطة في نصه المتداخل، المكثّف، حيث لا ثغرة، ولا حتىّ هفوة يمكن أن تصيب المعنى في مقتل، ليبقى الدالّ الشعري حرّاً ونائياً ومتوحّشاً. هذا الاتجاه البلاغي القوي يعزّزه الشاعر أكثر عبر تفعيل الاختلاف الدلالي بين العادي والخارق، الواقعي والأسطوري. فالطبيعة في شعر بركات ليست سوى عتبة لمعانقة المطلق، وربما ذريعة لاصطياد الغيب.
في ديوانه الجديد «شعب الثالثة فجراً من الخميس الثالث» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2008) ندخل منذ اللحظة الأولى في فلك هذا الحوار بين القريب والبعيد، التاريخي والأسطوري، ونقلّب عنوان المجموعة على وجوهه جميعها، باحثين في المتن عن قشّةٍ نتعلّق بها، علّنا نكتشف، في هذا البحر المتلاطم من الاستعارات، هوية هذا «الشعب» الذي يصحو، جدلاً، في الهزيع الأخير من اللّيل، أو في الهزيع الأخير من الدلالة، وتحديداً في الثالثة فجراً، من الخميس الثالث. نبحث، ولا نعثر على دليل حاسم، ولا نجد سوى مواعيد بيض، ممحوة الدقائق، يبرق منها لهبُ الشعر وضؤه المقدّس. لكننا، مع ذلك، نجد فيضاً من إشارات تومض في البعيد، تجعلنا نتتّبعُ، حذرين، رحلةَ هؤلاء الذين «يغرفون رغوةَ الهاوية بأصابعهم.» ص (47)
وفي الديوان، المؤلف من فصول ثلاثة، غير مرقّمة، أطولها هو الأوّل الذي يغطي أكثر من ثلثي الكتاب، نقرأ في الافتتاحية: «لن يتوقّفوا هنا./ لن يتوقّفوا في أيمّا مكان./ كثيرةٌ عرباتهم»، (ص7) لنجد أنفسنا ممسكين بطرف الخيط الأول، الذي يقودنا في رحلة غامضة، مع هؤلاء البشر الذين فرشوا أرواحهم في العراء الفسيح دروعاً من ظلّ: «هم عزيفُ الدروعِ في الريحِ/ البنّاؤون الهياكل بآلات الظلّ.» (ص8) هم ولدوا في اللّيل، ومعدنهُم الأول ظلامٌ كثيف: «عدمٌ حطبٌ في مواقدهم إذ يتدفّأون من سقوطِ النور جليداً على كشوفِ الليل - سريرهم الأول». (ص16) وهم منذورون لقتل متواصل، لا يحبّهم شيء، ولا يحبهم أحدٌ، «مرهقون لا يُقتَلون إلاّ في عرس، لا يُقتَلون إلاّ في الهزيع الثالث للّيل». (ص25) وهم أيضاً نقيض الوضوح، ونقيض المرئي والمعلوم، يقيمون في عماء الهاوية، أو في قلق المعنى وذهوله: «دوّخوا الماء. خليقٌ بهم أن يدوّخوا الماء. أن ينكّلوا بالماء في المعاني. /أن يرهبوه قليلاً /بما أفشتُ الحصاةُ للحصاة». (ص26) ومثل مؤلّفهم، الذي لا يملك سوى فيض أسماء تعيدُ ابتكارَ أشياء الطبيعة، تراهم يفيضون على ذواتهم، مسرفين في التشبيه: «أسرفوا في كنايات مقليةٍ بشحم أسدِ البحر. أفاضوا في بيانٍ يكسّرُ بأسنانه جوزةَ النهاية». (ص28) ولأنّهم مصنوعون من لدن الحرف، ومن صفاء الأبجدية، تراهم يقيمون في البرزخ اللامرئي بين المحذوف والمدوّن: «يخلطون الهياكلَ العظامَ بعدسِ الحروفِ وجريشها». (ص30)
هنا نجد أنّ الموغل في حسّيته يتجاور مع الموغل في روحانيته. وماذا يفعل هؤلاء الأرضيون سوى أن ينتصروا على اللانهائي، عبر احتراقهم في لهبِ الأصل: «هم أبكوا الخوفَ في صعودهم الأدراجَ اللهبَ إلى أمّهم الطين. أبكوا الندمَ. أبكوا المواعيدَ يضربهُا جرحٌ لجرحٍ آخر». (ص32) ولهؤلاء فصاحةٌ كاسرة تقبض على الشّفيف في حلم الوقت، يعبثون بالزمن، وجوهره السديمي، فهم، «بقفزاتٍ كطباع الماء، روّضوا السديمَ الجامح». (ص34) وهم، لا جهة لهم ينطلقون منها أو يتجهون إليها، يراوغون المكوثَ، ويبقون على سفرٍ دائمٍ، «يؤكّدون جحيماً بعد جحيم، أنهم سيخونون حيث شاؤوا، حيث ينضجُ الرعدُ حلواً في الفاكهة». (ص37) بل يقيمون في التقطيع والتمزيق والتمرّد، و»إن مضوا، لا يرجعون». (ص58) كلٌ يحمل قدرَ أورفيوس بين عينيه، وكلّ يدحرجُ صخرةَ سيزيف، ضد مشيئة المكان والزّمان: «عمداً أسقطوا السماءَ من أيديهم على العتبةِ الحديد. قطّعوا الوقتَ بشحمِه ولحمِه. علّقوه هيكلاً عظاماً على شجرة الأصل السّاحرِ، إلى جوار جهاتٍ معلقة من أثدائها». (ص37) يحملون النقائض على ظهورهم، ويقيمون دوماً في الطارئ والمستحيل: «يتزاحمون في عبور البرق بآنساته تحت قوس الشمال. طيبّون من فرطِ الحرائق»، (ص39) وبركات، بين الحين والآخر، يطفو بالدلالة إلى الســـطح، ويحدّد سمتَ التأويل، لكنه سرعان ما يغوص في الأعماق، محولاً التأويل تمريناً في استحالة القراءة، فنكتفي بمتعة الإصغاء لصليل المفردات بين السطور، ونعجب كيف يخفّ وزن الجوهر تحت سنابك كنايات الشاعر، وكيف يشفّ المعنى مترسّباً، مثل «ثفل الحقائق في أقداح الصور»، (ص45) بخاصة أن بركات خبير بأحوال شعبه، وطبائعه الخبيئة، وانصهاره الكلّي بالنبات والحجر والطين: «جرّوا ظلال التنّوب، والمرّان والقيقب بكلابيب ظلالٍ إلى منحدرٍ، وراء المغيب المترنّح في الحلبة من نفاق الشمس». (ص45) وبركات خبير أيضاً بالتسكّع في مفازة التاريخ، أو في بياض الميثولوجيا الجمعية، على غرار شعراء «أسطروا» مأساة شعبهم، مثل ويليام بتلر ييتس ومحمود دوريش، ناسجاً، بخيوط اللامعقول، نسيجَ أسطورته المتخيلة عن بشرٍ طارئين: «يرتشفون الأفق ذائباً، بشفاهٍ شُرم، من الأقداح». (ص47)
مع ذلك، يبتكر سليم بركات شعباً على طريقته، ويخترع له العراء مسكناً، ويختار له لحظة التكوين الأولى أصلاً وفصلاً: «معهم ذبابةُ القِدَمِ يتصيدُ بها الغامضُ، في شصّه، حنكليسَ الأرواح». (ص48) وعلى رغم صلادة القشرة الخارجية، نجد هنا جوهر الكلمة شفافاً، يضمر روحاً على وشك البكاء أو الانكسار. وبركات يبري قلمَه بسكّين الدهشة، متعمداً اصطياد روح في كلّ دلالة، رافضاً السقوط في التكرار، واصفاً أحوال شعبه البطر، الذاهب في الحلم حتى حدود الخطر، وحتى خطّ الزّوال الأخير: «يقايضون شهباً داعرةً، في حانات الفلكِ الداعرِ، بميتات مهشّمة كالبطيخ على أكتاف الحمّالين». (ص51) هكذا، هنا وهناك، نلمس، في المقطع الواحد، جملاً مضبوطة ضبطاً رهيباً، متوازنةً في دلالاتها، موزونةً في تشكيلها ونبرها وإيقاعها. وحالُ الشاعر هو حالُ البنّاء المرتاب في كلّ شيء، يقيس الفضاءَ ويزنُ المسافةَ، ويعاين الميلانَ، قبل أن يضع حجراً فوق حجر، وكناية فوق كناية، في معماره الشعري.
ولأنّ شعب الثالثة فجراً يقيمُ دوماً على الحافّة، حالماً بتناغم البعيد والقريب، نراه أيضاً يلتصق بأشياء الطبيعة، ليقيم صلحَ الطير مع الطير، والنبات مع النبات، والنقيض مع النقيض: «مرهقون قليلاً مذ أنجزوا صلحَ الحور والبتولا بعد خصومة الطيرِ العابرِ؛ مذ أصلحوا بين الزيزفون والتنّوب، بعد خصوماتٍ مزّقت الأعشاش». (ص54) وهؤلاء الذين يفهمون طباع الطير، يلتصقون أيضاً بالمحسوس، ناهضين كأطياف من شقوق الأسطورة، متوهّجين في اللغة الرفيعة، العابثة بالمعاني، العابثة بالطير والشجر والحجر، وبالغيب في أسمى تكويناته الحسّية: «مثلومٌ شرفُ الظهيرةِ متكوّمة تحت شجرة الأكيدُنيا، وهم يسردون للظهيرةِ دخيلةَ الكناري الصامت». (ص56) والرغبة هنا هي استنطاق خرس الطبيعة، وترجمة صمتها، وربما القبض على أسرارها.
هذه الرغبة في القبض على السرّ، تدفعنا إلى إكمال الرحلة مع هؤلاء الذين غُلِبوا في الخنادق كلّها، وإن مضوا، لا يرجعون، ما يدفعنا للقول إن «شمال» بركات السوري، بجباله وسهوله وأكراده، وبطش كلّ شيء فيه، وحنان كلّ شيء فيه، حاضرٌ بقوة في نسيج ديوانه الجديد، مستفيداً من ذاكرة سريالية هائلة، تعرف كيف تعيد إنتاج واقعية سحرية جديدة، ترصد عوالم خرافية، لأناس يقيمون أصلاً في الخرافة واللامعقول «يعلّقون خيولهَم من أذنابها إلى سحب الليل، في الخميس الثالث - خميس الرؤوس المسلوخة حتى أشفار أجفانها». (ص61) كأن هؤلاء هم غجر التاريخ كلّه، منذ فجر التاريخ، لا هوية لهم، ولا وطن، سوى الجهات الثماني، المستحيلة. وهم، ربما، هنود حمرٌ جدد، سُلخت فروة أرواحهم حتى شفرة أجفانها. هنودٌ مكلومون يقيمون في الرّمز الغامض، عند خطّ الزوال الأخير، مثل قساة يعلّقون خيولَهم من أذنابها إلى سحب عابرة. أرواحهم بيض، هشّة، سريعة الكسر، يعضّون بنواجذهم على عذوبة النهاية. وهم دائماً «مكسورون كقلبٍ مكسور، كزجاجٍ مكسور، كالجوزة المكسّرة تحت عجلة العربة، في عبورها حقول الموتى». (ص62) يصغون لمرور العجلة فوق جوزة أيامهم، ويرهفون، فترهفُ اللغةُ، نحتاً وتدويراً وصقلاً، وتكتملُ حياةُ القصيدة، التي لا تقبض إلاّ الكسر الرهيب في «خميسِ أيامهم المنكّهة بزفير الهجرات». (ص68)
من هذا الكسر في الميثولوجيا الجمعية، تتشكّل قصيدةُ بركات، ومضةً إثر ومضة. تحلّق في سماء المجاز، مستلهمةً اللانهائي في الطبيعة واللغة معاً. تبتكرُ فصاحتها الرفيعة، عبر صقل نحوها وصرفها وإيقاعها، مخترقة هيبة اللغة المستقرّة، ومتجاوزة تاريخها وفقهها وذاكرتها القاموسية. هذا الإتقان يتيحُ لبركات ابتكار لغة لا يتكلّمها أحدٌ سواه، ولا يكتبها أحدٌ سواه، لغة تنطقُ بأكثر من لسان، عن شعبٍ أخرس، يتناثرُ في الجهات «الثماني»، ويقيس حياتَه بالمرايا الهاربة.
الحياة
01/03/2008