في "بابلو نيرودا، قصائد مختارة" الصادر اخيراً لدى "دار النهضة العربية"، يقدّم الشاعر اللبناني بول شاوول الشاعر التشيلياني بعيداً من صورته كمناضل سياسي وخارج الاطار "الأحادي" الذي وضعته فيه "الطليعيات" الشعرية والنخبوية والأحزاب والتنظيمات اليسارية ليتلاءم مع التزاماتها الثورية وتوجهاتها الايديولوجية. في جهدٍ، اذا كان ينطلق من هاجس اعادة الاعتبار الى عمل أحد أكبر شعراء العالم والاضاءة على ما أُغفل من شعره لأسباب ايديولوجية، وانقاذه تالياً من الصورة الاختزالية التي وضعته فيها الثقافة العربية، فإنه يصبّ ضمن توجّه نقدي وتقويمي يعيد النظر في تلك المراحل التأسيسية بأفكارها ومواقفها ويقيناتها ورؤيتها للأدب والشعر والحياة بعامة.
كيمياء
في مقدّمته للمختارات التي ترجمها (من الفرنسية)، يصالح شاوول نيرودا الماركسي العقلاني مع نيرودا العاطفي والغنائي، متحدثاً عن "العاطفية الواعية" التي واجه بها العالم، ومعيداً وضع غنائيته هذه ضمن اطارها الصحيح في تقاطعاتها مع التيارات الجمالية والمدارس الشعرية من الرومنطيقية الى السوريالية فالرمزية. ويشير شاوول، الذي نكتشف معه من جديد معنى أن يترجم شاعرٌ شاعراً يتواصل معه "من داخل"، الى البعد النقدي في هذه الغنائية التي عرفت كيف تخرج من الحدود الذاتية الضيقة الى ما هو ارحب: "الى الشارع الى المصانع، الى السجون الى المنافي، الى الفقراء... الى التفاوت الاجتماعي والديكتاتورية". انها غنائية عرفت كيف تفيد من موروث شعري كامل يجد جذوره في اميركا اللاتينية واوروبا، وذلك في عملية يحرّكها "الوعي الحاد بالتاريخ اكتسبه من انتمائه الايديولوجي (...) والوعي الحاد بالاسطورة اكتسبه من تراثه اللاتيني، وهو يمرّ بكيمياء العناصر اللغوية والصورية والايقاعية".
ما يسميه شاوول كيمياء العناصر اللغوية والصورية والايقاعية، سيلمسه القارئ على طول القصائد المقدَّمة هنا بعربية بسيطة ورشيقة تحاكي لغة الاصل في بُعدها عن الغموض والوعورة والالتباس. هكذا نقرأ نيرودا على طول الكتاب تحت ضوء جديد تساهم في تكريسه اختيارات شاوول الذي يقترب من عمل الشاعر التشيلياني بأسلوب لا يخضع للمتعارَف عليه في تصنيف اعماله، فلا يترجم مثلاً من "النشيد العمومي" الا قصيدة واحدة ليقدم نماذج تغطي تقريباً مجمل مسيرته الشعرية مع إيثار واضح لقصائد الحب أكثر من سواها، فيعيد الشاعر اللبناني الاعتبار الى غنائية وعاطفية ورومنطيقية أنكرتها في الماضي وتنكرها اليوم على الشعر بعض الاتجاهات النقدية والشعرية، وهو الامر الذي يتوقف عنده في مقدمته في شكل صريح. هكذا سيجد القارئ قصائد مفتوحة على الشرط الانساني بعامة، تحكمها رومنطيقية لا تتمدّد في انفلاش أثيريّ بقدر ما نشعر انها حسية ومشدودة الى الداخل. رومنطيقية "ترابية" اذا جاز القول، أصيلة ومركّزة ومرتبطة بالارض ارتباطاً عضوياً حميماً: "ايتها الصبية، الصبية الرشيقة، لا شيء يقربني منك./ كل شيء يبتعد عنك، كما في ظهيرة مكتملة./ لك طفولة النحلة الهاذية،/ قوة السنبلة، ثمالة الموجة./ مع هذا فقلبي القاتم يبحث عنك،/ أحب جسدك الحبور وصوتك الحر والنحيل./ آه، يا فراشتي السمراء، عذبة وحاسمة./ أنت قمح وشمس وماء وخشخاش"، على ما يكتب الشاعر في احدى قصائد "عشرون قصيدة حب".
إتجاه جوّاني
مهما تنوّعت موضوعاتها وتيماتها وأجواؤها، تتخذ القصيدة لدى نيرودا من الطبيعة مرجعاً عضوياً وتجد فيها نقاط استدلالها الى الحياة بتحولاتها. لا تحلّ الطبيعة هنا بعناصرها وكائناتها فحسب، بل كمعطى ثابت وأكيد، كمحور تنجذب اليه معطيات الحياة كافة، كمقياس في حياتها وموتها المتعاقبين الى ما لا نهاية: "العاشقان السعيدان لن يعرفا لا النهاية ولا الموت،/ وغالباً ما يولدان ويموتان بقدر ما يعيشان/ يمتلكان ابدية الطبيعة".
ها هو العاشق يقول لحبيبته في عبارة شديدة الدلالة: "أحبك كالنبتة التي لا تزهر/ التي تحمل في ذاتها، خبيئاً، ضوء هذه الازهار،/ وبفضل حبك يعيش غامضاً في جسمي/ العطر المهموم الذي يفوح من الارض". في هذا الحب الذي يستدعي في جسم العاشق عطر الارض، نوع من العودة الى الرحم الاولى من خلال الارتباط العضوي بالكائن الام الاول الذي هو الطبيعة. فلنقرأ ايضاً: "(...) اذا أفقت وبكيت/ فيعني وانا نائم لست سوى طفل تائه/ يبحث عن يديك في اوراق الليل/ واحتكاك القمح الذي تصلينني به".
هو حب من قمح وخبز وشمس اذاً، يقدّمه الشاعر في نبرة لا تخلو من حزن وكآبة ومن ألم يعبّر عنه في لغة صلبة ومسنونة في عمق رومنطيقيتها التي تبلغ احياناً حدود السوداوية: "في الحب، لا تجدي العيون المغلقة نفعاً،/ ولا الاسرّة العميقة، عندما ينتن الجرح،/ حيث يجب خطوة خطوة الفوز براية./ الحياة دبق، كوليرا او نهر/ وتفتح نفقاً دموياً حيث تراقبنا/ عيون عائلة ضخمة من الآلام". انها لغة تقول الحب والألم والحنين في صور شفافة وصلبة في آن واحد، نصير حيال عالم كل شيء فيه "يمشي نحو الصلابة"، اما السماء فـ"تمضي الى تحت، مدركة الجذور". هذا الاتجاه "الجوّاني" الذي تسلكه القصيدة بلغتها ونبرتها وعوالمها هو ما يسمّيه الشاعر في مكان ما "درس الحجر"، الحجر الذي هو المعرفة والثبات والذاكرة، الدليل الى تلك الارض التي نسيناها ساعة وُلدنا فـ"اكتسبنا/ النسيان، نسيان احلام الريح" و"لم يتبقّ لنا سوى قليل من/ مذاق الدم والتراب/ على اللسان".
النهار
8 يناير 2008