يخوض الناقد والصحافي المصري سيد محمود في كتاب «فتنة السؤال» محاولة جديدة في تحرير الحوارات، التي تنتهي إلى كتب. محاولة أقرب إلى مغامرة الكتابة الإبداعية نفسها، في بحثها عن رؤية مغايرة وشكل مبتكر.
يتمثل صنيع سيد محمود في هذا الكتاب (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في تأليف كتاب كبير، من مجموعة حوارات أجريت مع الشاعر البحريني قاسم حداد، طوال العقود الأربعة المنصرمة.
لم يتبنَ محمود التقليد نفسه الذي اتبعه بعض الصحافيين أو الكتاب في تعاملهم مع أرشيف الشعراء وكبار الأدباء من الحوارات، إنما راح يبحث عن أسلوب جديد، بعيداً من «التجميع»، الصفة التي تستوعب عدداً كبيراً من الكتب التي تتضمن حوارات، في بحث عن الإنجاز السهل والسريع.
ينمّ «فتنة السؤال» عن جهد كبير بذله المؤلف، حذفاً وإضافة وتبويباً واستحضاراً لنصوص ومقولات فريدة، لشعراء ومتصوفة وسواهم، فضلاً عن إفراده مساحة جيدة لنصوص شعرية، تُنشر للمرة الأولى لقاسم حداد، تعبّر عن شفافية وفنية عالية.
جعل سيد محمود من كتابه هذا مَطَلاً على تأملات صاحب «يمشي مخفوراً بالوعول» ورؤيته إلى عدد من القضايا الأدبية والثقافية، وإلى تجربته الشعرية خصوصاً، أسئلتها وإشكالاتها، محطاتها ولحظاتها الرئيسة. يشبه كتاب «فتنة السؤال» ورشة عمل جادة، أو لقاء مفتوحاً حول تجربة قاسم حداد، بتنوعها وشمولها وفتنة أسئلتها وعمق الأجوبة فيها.
ولعله أقرب إلى حوار داخل حوار، بتعبير الناقد صبحي حديدي الذي قدم للكتاب: «يضيء مفهوم الحوار في حدّ ذاته، بقدر ما يدير حوارات (متبادلة، وليست البتة في صيغة سائل/مجيب فقط) بين قاسم حداد ومحاوريه».
لم يشأ المؤلف لكتابه أن يكون مجرد حاضن لمجموعة من الحوارات، أنجزها شعراء وكتاب وصحافيون، ونشرت في صحف ومطبوعات مختلفة، مع واحد من أبرز الشعراء العرب، ومن بين أكثرهم حضوراً في لحظته الشعرية الراهنة. طريقته هذه منحت الحوارات حياة جديدة في كتابه الممتع، عندما راح ينزعها من سياقها الفردي ولحظتها الزمنية، ويزج بها في سياق ولحظة مختلفين. وكان لافتاً أن يشكر سيد محمود المحاورين قائلاً إن «لأسئلتهم الفاتنة إسهاماً أكيداً في تحقيق هذا الكتاب»، فكأن الحوارات تتحول إلى إسهام، وهو يستخدمها شأن أي مؤلف يستفيد من مواد ومعطيات أخرى لإنجاز كتابه. وكأنما الحذف والإضافة وإعادة البناء والتصنيف والاستهلالات، واقتراح نصوص من تجربة الشاعر للنشر هي المتن، لأن هذه الطريقة أضفت طابع الجدة على الأسئلة، في اشتباكها وتداخلها مع أسئلة أخرى. ووفقاً لطريقة سيد في تأليف الكتاب، فإن الحوارات مقدار ما تخص أصحابها، أصبحت ملكاً له، وطوع رؤيته في إنجاز هذا الكتاب.
تغوص أسئلة الكتاب وملاحظته عميقاً في أغوار النص الشعري، وتمس صلب التجربة الأدبية والإنسانية لصاحب «أيقظتني الساحرة». تستدرج الأسئلة أكثر مناطق التجربة الشعرية وعورة وتخفياً وبعداً من القارئ الفطن، ناهيك عن القارئ العادي. ومع ذلك لا يقدم قاسم حداد أجوبة تشفي غليل المحاور ناهيك بالقارئ، بل يترك الأسئلة معلقة، على نحو أدق يؤججها، ويفتحها على احتمالات وأسئلة أخرى. يترك الأسئلة تناقشه، تضيئه وتجادله، ولكن هو من يمنحها الحضور بأجوبته وملاحظاته الذكية والفاتنة.
يكتفي سيد محمود أحياناً بسؤالين من حوار بكامله. ومثلما يعطي نفسه الحق في حذف سؤال ما، فإنه يمارس الفعل نفسه مع بعض الإجابات، في سعي إلى تقديم «الإجابة الأعمق» التي تضمن للقارئ حقه في الإلمام الكامل بظروف التجربة قدر الإمكان». وأحياناً لا تقنعه إجابة ما، فيقترح أسئلة جديدة، ليحصل على ما يريده من إضاءة، أو إضافة حول مسألة أو قضية جوهرية، لم تُعطَ حقها كفاية في الحوارات.
يتوزع الكتاب في عشرة فصول تتخللها عشرة نصوص شعرية، ويستهل الكتاب بعبارة لقاسم حداد نفسه: «لا تثقْ، واسأل الشكَّ، وامشِ على شوكِهِ» وأخرى لأدونيس: «أطرح الأسئلة، إنها قوتك الوحيدة». يقول سيد محمود حول فكرة الكتاب: «لقد ألقى علي قاسم حداد بمسؤولية كبيرة اتضحت لي وأنا أقلّب أوراق هذه الحوارات في مادتها الأولى، قبل أن أعمل على تحريرها لتنتهي إلى وضعها الحالي». ولئن حاول محمود تفادي «ثغرات في كتب مماثلة حررها زملاء عن شعراء آخرين، وكان نصها الكامل يقوم على حوارات صحافية، بدت في القراءة الأخيرة تنتمي إليهم أكثر مما إلى أصحابها الأصليين»، لعله يقصد هنا كتاب «اغتصاب كان وأخواتها»، الذي حرره الشاعر خليل صويلح ويضم حوارات مع محمد الماغوط، فإنه لم ينج بدوره إذا ما أخذنا الأمر من زاوية إيجابية. فالاشتغال الذي مارسه على تلك الحوارات، حولها في خاتمة المطاف إلى عمل يخصه هو، أي ترك بصمته واضحة في هذا الجهد المميز. لكنه يذكر أن فكرة الكتاب كانت لأحد أصدقاء قاسم حداد، ويدعى أحمد المناعي، غير أنه لم ينجزه فتولاه هو.
قضايا عدة ومواضيع شائكة وإشكالية خاض فيها قاسم حداد ومعه محاوروه، سواء منها ما يتعلق بتجربته الشعرية أم ما يتعلق بالكتابة عموماً، وهناك ما له علاقة بتجارب عايشها قلباً وقالباً كتجربتي النضال والسجن.
يقول صاحب «قبر قاسم» عن الكتابة إنها تشبه الإنسان الذي «يكتشف أنه لا يحسن صناعة أي شيء في الحياة، وليست له خبرات سوى أنه يستطيع أن يعبّر عن نفسه في شكل من أشكال الأدب أو الفن». وبالتالي فإنه لا يتخيل نفسه بعيداً من الكتابة، «بل لا يمكنني أن أتخلى عن الكتابة لأنها سلاحي الوحيد، وحصني الوحيد، وقوتي الوحيدة». أما عن فكرة اليسار الذي انخرط في صفوفه، فلا يرى فيها وصفاً أيديولوجياً أو سياسياً، «بل أشعر بأنها موقف إنساني وحضاري في الحياة والكون، وهذا ما يمكن أن يفسّر لنا إمكان العثور على درجة من «يسارٍ» ما، في سياقات أيديولوجية وسياسية مختلفة. وهذا تحديداً ما أحب أن أسميه «العمق الشعري» في فعل النضال وشهوة التحرر وطبيعة تغيير العالم. ألم يقلْ رامبو بشيء من هذا في أيامه؟». ويعتبر أن تجربة السجن منحته القدرة على أن يتأمل حياته كلها، وأن يراها بصورة أكثر وضوحاً، «في تلك التجربة شعرت بأن ثمة إعادة تكوين عميقة لكياني الإنساني والروحي والمعرفي. ما دعاني أنتقل إلى الشعور العميق بالمعنى الحقيقي لقضايا كثيرة مهمة مثل: الحرية والصدق والعدالة والأخلاق والفكر والفن. كل ذلك في أفق رحب من الحرية الذاتية المطلقة، هناك كنت حراً بالفعل. تعلمت قيمة أن يكون الإنسان حراً وأهمية أن يحافظ على هذه الحرية في مواجهة العالم كله، ولا يتنازل عن هذه الحرية مقابل أي شيء».
«فتنة السؤال» كتاب يليق بالاثنين: قاسم حداد، صاحب التجربة العريضة في الشعر والحياة، وسيد محمود، الناقد والصحافي الذي يبذل جهداً مميزاً في ما ينجزه، ولعلنا نتذكر كتابه «دم الطلبة: عن تجربة اللجنة الوطنية للطلبة والعمال في 1946».
الحياة
04/04/2008