الشاعر إبراهيم عبدالعزيز الحسين يرسم في ديوانه النثري الجديد (انزلاق كعوبهم) معالم قطيعة، ويحدد ملامح نأي جديد ممكن بين الأشياء وتاريخها. لا سيما الماضي حيث تجيد ذاكرته بناء المفردات ضد النسيان، لتبقى الحياة في البعيد وكأنها الزمن الغابر لسيرة مشتهاة، أو خلاص منشود من مثبطات كثيرة، وآلام عظيمة وموجعة.
يحاول الحسين في ديوانه فتح نافذة جديدة على عوالم أخرى، ذات أبعاد أكثر نأياً عن ممارسات يومية معتادة، ليحاول جاهداً وبلا مواربة أن يكون أعمق في تفاصيل وجده اللاعج.. حتى يشرع في نص (غيابها) إلى الاسترسال الممنهج لبناء قاعدة قولية باذخة تؤسس هذا الفهم الأولي لمعنى النص النثري الذي يتعاطاه المبدع إبراهيم الحسين.
فالنص لدى الحسين يأخذ بعده التكويني المترامي رغبة في خلق مشروع كتابي تلج في تضاعيفه جل المفردات المفيدة للنص الشامل حتى أننا نرى أن نصاً ك(الشجرة أو الأيل) واسع الخصوصية لكي يلم الكاتب فيما يبدو بأدق تفاصيل الخطاب الموجه إلى الفنان (محمد عمر بشارة) الذي باغته هذا السيل من المقولات التي تربي المعاني لكي تجتاز بعدها الضيق إلى ما هو أرحب.
في الثلث الأول من الديوان هواجش حكاء مفوه لا يكل من ترديد مقولاته المفعمة بيأس النوايا، ولا يمل من اجتثاث شجيرات الفأل.. تلك التي يزعم الأمل أنه سيتفيؤها في هجير ماء على نحو قصيدة أو نص (حزن المثقفين بكامل لياقته). فالشاعر الحسين يذهب مباشرة ودون موارية إلى مكاشفة الواقع. الذي تعيشه فئة معينة من المجتمع وهم أهل القربى لديه في هم الكلمة، في وقت يحترف جل المبدعين ضَوْغَ حكايتهم الشعرية نحو الدهماء، والبسطاء والمسحوقين فليس هناك أشد عمومية من شاعر يعاني مرارة الفقد، ولا بساطة من فنان يتجاذب مع الحزن مواويل الليل الموجعة.. أما السجل والسحق للمبدع فحدث يا إبراهيم ولا حرج على نحو ما رمت في ثنايا بوحك:
(من اللائق أن أتسامح مع ظلمة الليل، وبياض الأوراق، ومنه أيضاً أن اعتذر للحبر عن كل ما نجم عني..) (الديوان ص56).
فالشاعر الحسين يشير إلى همه اللدود ذلك الحبر الأنجل الذي ثبت أنه مؤرِّقُ الحياة، وباعث اليأس، ومطيل عمر الحزن..
الديوان يسير على هدي بوصلة قديمة تشير دائماً إلى جهات الحزن الأصلية.. تلك التي يعنى الخحسين في تفاصيلها رغبة منه في الخلاص من منغصاته أولاً.. وتالياً دَيْنٌ يقضيه للآتين، ليذكرهم وعلى نحو دائم بأن طرق الشعر غير معبدة، بل وغير مأمونة المسالك.
يلامس إبراهيم الحسين في ديوانه (إنزلاق كعوبهم) حدود النص السردي لنراه وقد أفرد مساحة للنص القصصي في رغبة نافذة إلى تجسيد رؤية الموقف على أكمل ما يكون فليس أقوى من أن يمتزج نص شعري بقصصي حتى حدود الامحاء بين فوارق قد تضر بها بعض خسالات التكوين التنظيري المتهاوي.
فالديوان رحلة ليست استجمامية إنما هي مسيرة نحو عمق النسيان لاستعادة ما لم ينس من تلك الحكايات والمواقف والذكريات على نحو نص (حينما زينوا رقبتك بالنسيان(.. فهي المسيرة الحتمية لأي مبدع حقيقي، لأن الشعر عادة لا يستجم إنما يذهب للاستشفاء من أسقامه وآلامه.. فليس أول من ذلك على ما فعله الشاعر (الحسين) في هذا الديوان النثري حينما استنبط لنا من سواد أحزان أهله وجيله وأصدقائه غُر الكلمات المضيئة، ليهجس بحنين دافئ إلى ما كانت عليه براءة قصد، ويفاعة مسلك وردي يخاطئ للحنين نأيه الأنجل.
في القصائد الأخيرة من الديوان بيان لثأر كيف يقيمه الشاعر الحجة على أحزانه، فأنجح طريقة لاسترداد مملكة رشده هو حثو جمر الحكايات عن خابئة الليل التي تنائى بالسمار كل إلى مرقده.. فها هو يؤرخ لخسران الاخضرار:
(وجه سمائي أجرد
راحتا كفّي.. عضّها المُحل
وعشب روحي
خسر كل أخضره
كلها صارت
ترى اللهب مستقبلاً)
(الديوان ص103)
يختم الشاعر إبراهيم الحسين ديوانه بقصائد نثرية على هيئة رسائل قصيرة متوامضة تذهب إلى المعنى، ليحيك الشاعر من أحزانه سترة يزعم ويحاول عبثاً أن تيه من غبار الزمان، وصقيع عواطف لا أثر بعدها للدفئ، ولا معنى لها في قاموس متى تعود يا قلبي.. الحزن صار قدري؟
والمقطع هذا لا علاقة للشاعر فيه كنص إنما هي رؤية تعاضد الفكرة الرئيسية..
في خطاب الحسين الشعري ذهاب موجع للحزن لكنه زن على (مآل).. لا قد فيه ولا هم يحزنون.. مآل حياة أصبحت مسخاً، وأضحت هاجساً، وأمست هماً، وباتت على الطوى من أي معنى.. فلله در القصيدة التي تقفز من قمة الشعر إلى حضيض الهاوية إصراراً على الموت إن كانت الحياة هكذا على هذا النحو المؤذي.. أليس يا إبراهيم هذا ما ترومه في ديوانك (انزلاق كعوبهم).
الجزيرة الثفافية
21 ابريل 2008