يتسم كتاب الشاعرة السورية هالا محمد "كأنني... أدق بابي" الصادر لدى "دار رياض الريس للنشر"، بالهدوء والتأمل، بعيداً عن الضجة "الجسدية"، وبعيداً أيضاً عن التكلف الذي تغرق فيه بعض الشاعرات الجديدات، بحثا عن "جرأة" لإغواء القارئ أو للفت انتباهه وايقاظه من غفلته. فهالا محمد، الآتية من الاخراج السينمائي تقول: "تتقلص أشيائي فجأة/ يصغر عالمي/ لا أملك سوى هذا الجسد/ الذي مهما ادعى.../ لن يكون وحده... امرأة". ترفض القصيدة ان تكون المرأة جسداً فحسب، لأنه ينقصه الاكتمال والمعنى، ولذا تقول اشياء اخرى، اقوى من مشهدية الجسد. هي الحياة والنظرة والحب والألم والفقدان، وإن كانت مجردة، ومن هنا وهناك في حياتنا اليومية او في يومياتها. تكتب عبارات "حسية" ودافئة او مواقف من لحظات عابرة، وفي كل ما تتناوله ثمة حزن مخيِّم يرافق القراءة.
تعلن هالا محمد "يا حبيبي لا مكان لي سوى اللحظة"، واللحظة هي الشعر، هي دقّ الباب، او النظرة او المشهد العابر او السعال او الذاكرة. والشاعرة اذ "لا تجرؤ على التحديق في عين القدر"، تغويها "شياطين الوحدة"، ويضنيها "الخلود" الذي هو وهمٌ بوهم. تحب حتى "الخسارة"، والحب يترك في ذاتها "اثرا"، وهي ترتجف من شرور احبّتها، إذ "تبدو في عيونهم عنيدة كالنسيان". في ازاء هذا، تعتبر "حب الآخرين كذبة لا بد منها/ كي لا نلحظ كيف لم يبق سوى الوحدة من العمر". لكن الربيع يفضح حاجتها "للحب تحت سمائه". الهدايا ليست مقدسة بالنسبة اليها: "هي زجاجة عطر يا بني... ليست مصحفا"، لكن "الحب/ ترتجّ له المدينة كمدفع الافطار في رمضان".
تتبع هالا محمد احتمالات احزانها، تكتب ذاتها، ذكرياتها، وتكتب ذاكرتها ويومياتها وتأملاتها ولحظاتها وغرفتها. مجمل شعرها "فكرة" دافئة نشعر بها، فتعلن "انا فكرة تظللها قبّرة". يبدو لنا ان شعرها او "فكرتها" يأتيان نتيجة احتراق داخلي يوحي أحزاناً معتقة ورائحة تبلل الرأس بالذاكرة. تكتب هالا محمد اللحظات المحفوفة بالانكسار او الخسارات او الذوبان او اللحظات الجميلة، وهي تقسم كل صباح "على حب الحياة"، لكن ينهكها هذا القسم على نحو ما يضنيها الخلود، فتأوي الى الفراش، وتتظاهر بأهمية انها تخبّئ رأسها، وتقلّبه على المخدة، فيخشخش ببضعة أسرار عتيقة نسيتها. الخوف أيضاً، يجعل قلبها فأراً يقرض شرايينها. هكذا، فإن الاشياء ايقاع لأشياء اخرى. الاشياء تدقّ باب الاشياء.
تكتب هالا محمد لأن "الكلام اخترع الكتابة/ كي يبقى الأثر". الاثر هو الشعر بذاته او الحب بذاته، وهو ما يتبقى، وهو ما لا نراه ونراه، اي نكتبه، وهو الحبر على بياض الصفحات، وهو اللحظة مقبوضاً عليها بالكلمات.
تحذر الشاعرة لأن "كل شيء قابل للكسر"، و"الخوف يقطع الزمن الى مسافات قصيرة كاللهاث". ما تقوله الشاعرة يبدو أقرب الى أثر تضفي عليه شكلا فنيا، أي أنها تسعى الى نقله من الذهني الصرف الى ما يمكن ان يوصف بأنه كلام شعري. ففي قصيدة تحمل الرقم "اثنين"، نسيج شعري، ثمة في تصويره حالات نفسية وفكرية واجواء من شعور بالفقد. تقول: "استيقظ عند الفجر.../ على رؤوس اصابعي./ اسرق نسمة من النافذة/ هدوءا من البيت/ لمحة من الشارع الرمادي العاري/ بأشواقه.../ كنهر يسبقه ماؤه/ ويهرم وحيداً بين الضفتين/ مع فنجان قهوة ساكن/ بطعم الحذر/ ابدأ... هذا اليوم/ بما فيه من احتمال خسارات/ وراء كل دقة ساعة/ وراء كل نبضة/ خلف كل نظرة عين/ لا أرغب في التحديق فيه".
في القصيدة السابعة تقول الشاعرة "كصحراء.../ تقبض على احتمال السراب/ على خيال وردة حمراء/ على صوت في باطن الرمل/ يروي... انه الماء.../ كالانتظار.../ انا/ تعبرني بإلفة/ كأنني اللحظة.../ اللحظة". النظر يربك الشاعرة، ومن دون ان تنعم النظر يذوب قلبها، فالنظر "ملح القلب". على ان العالم يبدو "ضيقا... بحجم العين/ نظرة صغيرة/ اخيرة/ ليست للوداع/ هكذا... احتراما للنظر". العالم، بمعنى آخر، صورة تنسرب الى مكنون الذات، والشعر ما يبقى من اثر النظرات والانفاس والاصوات والغرفة والمقدسات والاصدقاء.
تقول الشاعرة: "يربكني النظر/ ليس ينظر كمن يرى/ يسبر العين/ يقع على سر/ دفين/ يراه (فيراه) يغضّ الطرف (كمن لا يرى) ما يرى (يربكني النظر) كمن يرى (ما لا يرى) كمن يدفن سرّه (فلا يرى) ولا يرى/ كمن ينظر (ليرى) ما ليس ينظر". وهي تجد "هذا الموت البطيء يتلذذ بجمالك/ وانت لا تراه"، وتنشد: "يا الله/ شكرا لأن الموت/ لا يرى". نقرأ في القصيدة الرابعة عشرة: "كم هي صعبة دورة الوجود/ ولا نكاد نستلقي/ لتبدأ./ دورة التراب". وهي لا تحتمل النافذة المفتوحة على الغربة، انها كالجدار ترى منها الاشياء.
تبدو مجموعة "كأنني... أدقّ بابي" اقرب الى قصيدة طويلة متعددة الصور او "بيت بأحاسيس كثيرة". وهي لا تعطي اقسامها عناوين. عوض ذلك فقد تعطيها أرقاما تبدأت بالرقم واحد وتنتهي بالرقم 68. ويمكن وصف الارقام باللقطات الراسخة في ذاكرة الشاعرة.
النهار
5 يونيو 2008
إقرأ أيضاً: