دأبت الشاعرة سوزان عليوان على اصدار مجموعاتها الشعرية على حسابها الخاص، وهي تحمل نسخها مثل الورود، توزعها بيدها على الأصدقاء والمهتمين، او ترسلها بالبريد فتعبّر من خلالها اكثر عن فردية الشعر بوصفه "فنا اقلوياً" اذا جاز التعبير، وخارج اطار الكليشيهات الايديولوجية والبيانية. لم تجعل سوزان عليوان كتبها في اسر دور النشر او شركات التوزيع أو المؤسسات، وربما هذه ميزة من ميزاتها او فرادة لافتة. على أن اصدار كتبها خارج اطار المؤسسات لم يمنعها من ان تكون في الواجهة او "حاضرة بانكفائها"، على ما كُتب عنها، وإن تكن متخفية عن وسائل الاعلام. فهي اصدرت حتى الآن عشرة دواوين، وفي ذلك اشارة الى اهتمامها الملحوظ بكتابة الشعر.
تسمي سوزان عليوان كتابها الجديد "كل الطرق تؤدي الى صلاح سالم"، وللمرء ان يسأل من يكون صلاح سالم، وخصوصاً ان العنوان شبيه بالمثل العامي "كل الدروب تؤدي الى الطاحون"، او "كله عند العرب صابون"؟ صلاح سالم على ما نعلم، شارع مصري سمّي على اسم احد "الضباط الاحرار"، وان تكتب الشاعرة عن هذا الشارع ففي ذلك إشارة إلى سنواتها القاهريّة ربّما، حيث عاشت وتعلمت مثلما عاشت في بيروت الاندلس ومناطق اخرى من العالم، وهي تستخدم الشارع منطلقا لشعريتها فتؤنسن الاشياء: "صلاح سالم يصغي/ نظارة سوداء/ كتفان بنجوم كثيرة/ في صدأ نياشينه/ ما يضيء خسائرنا/ ما لم تقله الوردة/ في وحلها تدركه الدموع".
واذا كانت الشاعرة تتخذ اسم الشارع عنوانا لكتابها، فإن الحيز الجغرافي لا يؤدي دور البطل في لغتها الشعرية، وليس المكان هو هاجس الكتابة لديها، فهي تختار الشارع نقطة لاتجاهات لا تحصى. ربما تكون الطرق المؤدية الى صلاح سالم مثل طرق الشعر نفسه، فالشارع نقطة لاتجاهات واجواء، والشعر حلم لا ينتهي بمسافات بعيدة، وسفر مسكون بصور وافكار تكتبها شاعرة مسكونة بغرابة جميلة متعددة الوجه، ومسكونة بأماكن لا تغادرها، حيث تؤنسن الاشياء في الشارع والمباني وحبل الغسيل والباب واشارة المرور والاحذية: "سيدي ووالدي/ اليتيمة قبل ميلادها امي/ الحائمون حول حدقة البئر بقميصي/ اصدقائي الثعالب/ القساة الذين بنسيانهم أتسلّى/ على طرف جناحه وردة/ في قبضتي سكين اقترب/ اشباح كانت اشيائي/ دميتي المدلاّة/ الشارع الممتد من فيء رموشها الى شرفتك/ تلك الدموع الملألئة/ مثل ماسات سوداء على اسفلت شائب".
عدا عنوان الكتاب، ترسم سوزان عليوان، غُلُفَ دواوينها بريشتها الخاصة، في رسوم اقرب الى احلام الاطفال على الورق، حيث قليل من الألوان القزحية الرهيفة والحميمة والمعبرة. حتى في شعرها، لا تميل عليوان إلى صخب الألوان، ولا إلى صخب الكلام والمعاني بل تكتب اشارات عن المدينة وهمسات ميتافيزيقية منها. يكفيها أن تُعبِّر وترسم بالريشة وبالكلمة صخب النفس الإنسانية. فهي تنشئ في كل قصيدة، وفي كل ديوان: مدينة تزينها وتتحكم ببوابتها، وتتجانس مع طقسها الوجداني والإنساني، وحتى الفكري.
ديوان سوزان عليوان الجديد قصيدة واحدة طويلة تبدو كأنها اشارات الى روح الشارع وروح كائناته وفضاءاته البعيدة. الشارع رمز فحسب لأشياء اخرى. بل ان الديوان اشارات الى روح الانسان المتشظية واحلامه المتصدعة في التفكرات والمناخات والعدم والحزن والق الكتابة. الديوان يقوم على قصيدة واحدة، لكنه يتشكل من فصول. كل فصل يتبلور لوحة خلابة من الصور والمعاني. نلمح الهم الإنساني الذي هو هاجسها الاول، وهو شغلها الشاغل، فلا تتحدث عن نفسها، بل عن البشر والحياة، فتكتب بعض المقاطع في اطار "الأنا"، ضمير المتكلّم للجماعة الذي يسبغ على القصيدة لمسة ملحميّة، فكأن القصيدة لتبوح بأوجاع لا تقال.
نصوص سوزان عليوان القصيرة وردة من كلمات ملونة، فهي ترسم بالكلمات والصور الغريبة، صوراً متوالدة من تداعيات ومشاهدات وتراكمات وتجارب باتت نسغ الرؤيا وأدواتها الطائشة، فتصير لغة موازية، تعيد قول المشاعر والأحاسيس المكبوتة.
تقسو سوزان عليوان كي لا يكسرها حنانها. تكتب الحزن الذي ربما يحرك اعماق الشاعرة اكثر من الفرح، وقد يكون دافعا الى الكتابة، بل هي تجعل للحزن "سحره" بعيدا من اللغة الكربلائية، وهو حزن رائق. تقول: "لو أن الأيام بيننا/ لإعادتنا لعبة البكاء أطفالاً/ لصنعتُ للصغيرة رجل ثلج/ بلمسة من قسوتنا يذوب"، "كثيرة هي الكلمات التي ابكتني وكففتها". يتلاشى الواقع في القصيدة، لينبعث بسورياليّ: "راحتي لوحة لديدان"، "قبور انيقة تليق بعظامنا"، و"الموت مثلنا يتعب"، "وسط الاشباح الغائمة غارب/ يخلع معطفه/ يرقص/ راسما بين اصابع ظلي/ مفتاح حياة".
تقول الشاعرة بكثير من التكثيف: "ليسَ الأسى/ النافذة جرحُ جدار/ الباب مرآة مغلقة/ تعلمين/ في العثرة حجرٌ يُرشدنا/ أيّهما القفص؟/ مَن منا العصفور؟/ ومن أينَ يأتي العابرون لعُقَدِنا/ بهذا الكره الراسخ للأقنعة والستائر؟/ حزنٌ بكثافة حاجبين معقودين/ عينان مغمضتان على غصّة/ نصفُ ابتسامة/ طوقُ ذراعٍ/ أقواسٌ بأقطابها أقاوم/ جاذبيَّةَ فوهةٍ سوداء/ انكسرتُ مرّةً/ انكسرتُ مرّتين/ كلّ موتٍ يتكرّر/ كلّ الطرق تؤدّي إلى صلاح سالم".
في كثير من القصائد عناصر تعطيها قدرة على التأثير في النفس، تقول: "كفن يعجز عن اعتياد القسوة في قطنه"، و"الحرب ليموت بعضنا"، "طواحين الهواء لأن الازهار الى زوال". تتسم بتصويرية لا تقتصر على الحسي بل تبدو نتيجة نسيج يتألف منه ومن المجرد ومن المباشر اليومي والمجازي والرومنطيقي. تصهر الصور في العواطف واللغة الحميمة الدافئة والحلمية والسوريالية، بل ان الهدوء يسري في الكلمات المستلة من مشاهد يومية ليست بعيدة عن "الذهنية"، فيتحول كثير من القصائد إلى صور تفيض منها المشاعر وحتى الأفكار، بأنها تراوح بين الرومنطيقي والميتافيزيقي وخصوصاً حيث تتحدث عن "وحدة" بين الكائنات الحية والأشياء، او عن "العالم والمعنى" اللذين يضفيان "العابا مكسورة".
النهار
4 اغسطس 2008