بقلم: ماجد السامرّائي
(ناقد عراقي)

ببلوغ قصيدتها الحرّة الأولى عامها الستين رحلت نازك الملائكة بعد صراع مع الشيخوخة والمرض دام نحو عشرين عاماً. ولعلّها المصادفة وحدها التي جمعت بين تلك القصيدة - الولادة الجديدة وبين المكان الذي اتخذته مستقراً للسنوات الأخيرة من حياتها. فقد كتبت قصيدتها «الكوليرا» العام 1947 إثر ما قرأت وسمعت من أخبار مؤلمة عن كارثة وباء الكوليرا الذي اجتاح مصر في ذلك العام، حاصداً مئات الأرواح، وودّعت الحياة في مصر...

يكمن مفتاح الشخصية الفنية لنازك الملائكة في العلاقة التي انعقدت عندها منذ وقت مبكر بين الشعر والنقد (أو التنظير الشعري). فهي وإن كانت، بداية، قدّمت من نفسها شاعرة ذات نزعة شعرية عملت من خلالها على خلخلة التقليد والتقليدية في الكتابة الشعرية برؤية تجديدية عبّرت عنها في ما وجد فيه بعض النقاد والدارسين لشعرها وفكرها النقدي «بيان الحداثة الأوّل»، متمثلاً في مقدّمة ديوانها «شظايا ورماد» (1949)، إلاّ أنها في ما كتبت من بعد ستقدّم رؤية تجمع فيها بين النظرة الفنية إلى العمل الشعري والمحدّدات التقنية (الوزنية)، جامعةً بين براعة الحسّ الفني في بعديه: الإرسال، في ما كتبت من شعر، والتلقّي، في التعامل نقدياً مع الأعمال الشعرية (التجديدية) للآخرين، وقد وقفت من الكثير منها موقفاً صارماً مؤسّساً على الرفض أكثر من تأسسه على القبول.

كان التمرّد على القاعدة البداية في ثورة الملائكة الشعرية. وكان اندفاعها بمثل هذه الثورة اندفاعاً رومنسياً صرفاً. ولم تكن في ثورتها تلك تستثني شيئاً من «تقاليد القصيدة» التي ثارت عليها. ومع أن عالمها الشعري كان يومذاك عالماً مثالياً فإنها كانت كثيرة التمعّن في أعماقها الداخلية وفي استجلاء صفحات من روحها تمثّلت فيها الطبيعة الإنسانية كما تحبّ أن تراها. لذلك سيتواصل عاملان ذاتيان في حياتها الإبداعية أشدّ التواصل، وهما: الصراع، والاضطراب. فإذا كان الصراع قد اندفع بها نحو شعر قائم على المغايرة ونشدان التغيير، فإن الاضطراب هو ما سيطبع موقفها الذاتي أمام الوجود الذي وجدناها تكترث له كثيراً.

وإذا كان ما «يشغل الشاعر الرومنسي دائماً هو الإحساس الفردي»، كما يرى إدمون ولسون، فإن نازك الملائكة ستندفع في اتجاهها هذا بإرادة فردية، ساعية إلى ابتكار أسلوب جديد للتعبير الشعري رأت - حينها - أنه يحتّم اعتماد لغة جديدة، وشكل شعري جديد، ما جعل الذي حصل على يدها وأيدي زملائها الروّاد «ثورة شعرية» اعتمدت التغيير والتأسيس. ولم تكن هذه «الثورة» - كما أعربت عن ذلك في مقدّمة «شظايا ورماد» - مقحمة من الخارج، ذلك أنها تلقت من الشعراء الرومنسيين، الذين كان لهم فعلهم العميق في تكوينها، أن الشاعر هو «نبي رؤية جديدة»، وأن عليه إذا ما أراد أن يتقدّم بعصره، وبذاته في عصره أن يتقدّم بخطوات جديدة.

وإذا كانت نازك ستشير، صراحة وضمناً، حين كتبت عن الشاعر علي محمود طه (1965)، أنها قاربت هذا الشاعر إلى درجة كبيرة، فإننا ن�