كي أشرّع القلب والأفق علي أوراق شاعرة، أجدني أتلعثم وخاصة حين الشاعرة أوراقها توشوش، تغضب، تثور، ترسم، تتمرد، تصنع الأطفال وترقب معجزاتهم، ترقب الشارع وأطفاله، أشكال الظلم ومظاهر استنزاف الإنسانية سواء بالحرب، أو بالضلال عن الحق والخير والجمال والفضيلة، في بلاد تصفها بـ (بلادي يا امرأة مقتولة/ بسيف جلاد جاهل/ قاحل الوجدان/ بلادي يا عطشا/ ترويه الدماء) وأيضا حين تقرّع الأوطان التي لا تحتفي بالطفل كما يليق به)كلّ وطن لا يعي أهمية الطفولة هو وطن الحروب الدائمة)..
تذهب في الحب والجسد والإنسان ما يتأتى للكلمات من ملكوت، يختلط فيه الشعر بالنثر، بسريالية وتيه، بعمق وجودي، حزين جليل متناقض..
فلنتأمل الشاعرة اللبنانية، إنصاف الأعور معضاد، حين تومض قناديل تتوهج، تشتعل، تذوب، تكتب ما يحرّر لغتها، ضوءها، حبها:
(أرفع ضوئي إليكَ/ مؤكدة اعتقادي أنني أقيم فيكَ خارج عقل البشرية
أتحدث إليكَ ولا أجد لغة تشبهكَ
بلغة النور أتحدث إليكَ
بلغة العصافير أتحدث إليك
بلغة الريح أتحدث إليكَ
أحملُ جسدي المنقرض المزايا
أسأله عن لحظة دخولي فيه
حيث الإيمان تضيئه لحظة الحظ...)
ûûû
الشاعرة الأم المتمردة الإنسانة، إنصاف الأعور معضاد، ترفع صلواتها، تحدثنا عن (الحب اليابس) تحول السياسة إلي شعر والشعر إلي أيقونات، والحياة إلي قصاصات من الحب والحلم والحزن الذي يقيم بين مجموعات الشاعرة.
***
علي غلاف مجموعتها الشعرية الصادرة عن دار المناهل للطباعة والنشر/ بيروت/ عام 2001، متضمنة أعمالها الشعرية الستة الصادرة سابقا، وكان أولها في بداية الستينات، يكتب الناشر)هذا الأدب (الإنصافي) حمل صاحبته لتحويل السياسة إلي شعر: الأطفال كل الأطفال، أصابع تصنع المعجزات، إنها شاعرة متمردة، أمّ إنسانة...تقف أمام قصائدها مدهوشا، تحمل عالمية الحزن ولا يسعك إلا أن تردد معها(أيها السيد، كل الأجساد أرقام تضاف إلي أرقام)أما الرفض عندها فهو موقف من هذا العالم.. سحرها الذاتي يزيد تجربتها نقاء وجمالا.. هذا الصفاء أعطاها بعدا لا يصله إلا من نفخت بأشرعته رياح العرفان... إنها إحدى درر الشرق في تاج لبنان)
***
الشاعرة إنصاف مواليد، قرية القلعة، أم لفادي وسامر، بدأت رحلتها مع النشر منذ الستينات، هاجرت مع عائلتها إلي أوروبا أثناء الحرب في لبنان.. وعادت تقيم في لبنان منذ سنة 2000/ بلدة بزبدين، المتن الأعلى. تدير ملتقي ثقافياً في بيتها وتكرم أصحاب القدرات والكفاءات المبذولة في خدمة الإنسان.
تشير في مقدمة أعمالها الشعرية (عشتُ كل حياتي مناضلة مقاومة في عالم أري كل ما فيه يتصادم وينقسم.. أنجبتُ وتجربة الأمومة جعلتني انقطع عن الكتابة خمس سنوات، لكنها كانت تجربة غنية بالنسبة لي شعرتُ بهموم أطفال الطريق)..
تتوغل تجربتها الكتابية ونصوصها صوب مكنونات الوجود والموجودات، بشغف وعنف وحنان لا يتأتى إلا لأصحاب الروح العالية المشرقة حتى في حزنها (الروح هي البساطة الإبداعية النورانية، الخارجة عن البداية وعن النهاية، والجسد مظهر لقوة الروح، لبساطة الروح وسرها في الوجود والموجود)
***
أما إذا قدر لنا أن نُشرك الشاعرة في تحقيق صحفي كما يجري بين فينة وأخري ونسأل الشاعرة بعض أسئلتنا العتيقة حول هوس الكتابة: لماذا تكتبين يا إنصاف؟
فإنها ستجيب: (الكلمة سيف النور، والكتابة هي الجبهة الدائمة الحركة)..
(أكتب وانتظر أن تقف السطور تلملم دموعي، تهدئ خاطري، تضمني، تحميني، وأري شموع أرواح العالم تتقد تحت الكلمات والجثث ترقد تحت الأرض وصراخ اليتامى يرتمي هنا وهناك والأطفال كل الأطفال أصابعٌ تصنع المعجزات (بهذه الكلمات تفتتح رحلتها الشعرية في ديوانها) الله والحب اليابس) وتهديه إلي زوجها.
***
أعمال الشاعرة:
في هذا المجموعة الشعرية وفي 400 صفحة من القطع العادي ــ الكبير ــ نطالع ما كتبته الشاعرة عبر رحلة طويلة وغنية، ومسلسلة كالتالي:
الكتاب الأول: الله والحب اليابس، الطبعة الأولي صدرت عام 1969/ منشورات عويدات
الكتاب الثاني: هي الأولي هو الأول، الطبعة الأولي عام 1974/ دار العودة
الكتاب الثالث: الوهج، الطبعة الأولي عام 1977
الكتاب الرابع: كل قادم هو، 1982/ عن الأفاق الجديدة
الكتاب الخامس: اشتعال، نشر كاملا في جريدة السفير 1987
الكتاب السادس: الكرة الجسدية يطبع لأول مرة في هذه المجموعة، نشر كاملا في جريدة النهار البيروتية عام 1992، شاركت به في ملتقي المرأة والإبداع.
ترجمت بعض نصوصها إلي اللغة الفرنسية، كتبت قصصا للأطفال، تمارس الرسم بغير احتراف.
صُنفتْ بين شعراء المقاومة 1972، في كتاب ضمّ نخبة من الشعراء.
صدر لها مطبوع شعري عام 1960، ليس ضمن هذه المجموعة.
***
نصوص الشاعرة:
أقتطف بعضا من قصيدتها الطويلة (الله والحب اليابس) هذه القصيدة التي تطلق السؤال والشعر بين مفاصل الروح والمادة في صراع أزلي، في جملة شعرية نزقة وحنونة، عميقة ومتشعبة البعد والدلالة، في حُلّة جعلت كثيرا من الشعراء ــ الكبار ــ يتوقفون أمام هذا النص تحديدا وأمام تجربة الشاعرة، شهادات متفرقة تجتمع في مقدمة المجموعة لكثير من الشعراء: عمر أبو ريشة، محمد الماغوط، جبرا إبراهيم جبر، وضاح شرارة، سركون بولص وآخرون..
الله والحب اليابس:
الله والحب اليابس
والذراعان القاسيتان
تدغدغان البساط الأخضر
السحابة الشاردة
لملمتْ دموعها
من الأوقيانوسات
من الخفاء
....
طويلتان ذراعاكَ
عمرٌ محمول بين عظام البشرية
برتها الأنعال المتسابقة إلي المصانع
لتحمل الراقصين
تتضارب أقدامهم
حفاة عراة
يهزمون الحب
.....
.....
القصيدة طويلة تختمها، حيث ألوان وثنائية الحياة والموت واللاجدوى:
الله والحب اليابس
الغصن الأخضر صار حطبا تلتهمه المناجم
الصنوبرة الرشيقة/ أناختها فكرة سوداء/ ليصنع منها صناديق للمسافرين
....
الله والحب اليابس/ والذراعان القاسيتان/ تلوحان علي المفارق/ كأوثان مهجورة
لم يعد ثمة شيء محزن/ الأحشاء صقيع/ لا تدخل إليها الليونة/ إلا من باب القدر
حين نسمع له قرقعة/ وصمتٌ كئيب
الله وحفار القبور
يغرسون في الأرض بذور حقولهم
رحمة بتعطيش جسد الأرض
رحمة بالحياة.
***
تستنكر قسوة هذا العالم وتتهمه بقتل روح الأم وجسدها، وحيث الأمّ هنا أكثر من أم بيولوجية، بحزن وقلق تستفز الجملة وتحبّر قصيدة بعنوان (قتلوا أمي قبل أن أولد) في ديوانها الأول:
قطعتْ من العمر كثيرا/ نهشها ذئاب المواعظ/ ولم تزل تضيئ الشموع/ تجسد الخضوع/ وبقينا يا سيدي منثوري التاريخ....
يا البعيد الملتصق بالقلب.../data/stories/news/2003/05/27-5/col/والبؤساء في الأرض/ ملح الأرض/
عند هبوب العواصف/ أطارد الملاحين/ رائحة الملح في عيونهم/ ورائحة الموت في دمائهم/
بشر الخيبة/ قتلوا أمي قبل أن أولد.
***
تقتنص الشاعرة صورا فذة تجاور مخيلة ناضجة ومتدفقة، تفرد من عالم الغربة أغصانا وأوراقا، هي التي عاشت هجرة وابتعادا عن بلدها الأم فتقول في قصيدة بعنوان (أطول ليل (في مجموعتها) هي الأولي، هو الأول):
الغربة امرأة تنام في كل زهرة
لا تعلم لماذا تقول نعم؟
لكنها أطول ليل في تاريخ الوجود
تكتب تاريخ رجل
وتنام في سحر الهزيمة.
***
الشاعرة إنصاف تكثف جملتها في اختزالات صورية يصعب اختراقها بسهولة في بعض اللقطات، وأحيانا تقع في المباشرة والاسترسال في بعض النصوص الطويلة، كما وأعتقد أن مجموعاتها الأولي أكثر حبكة وزخما من الأعمال التي صدرت لاحقا. يلاحظ اعتماد الأسلوب الدائري التشابكي في نصوصها إذ تعود دوما إلي خطوط البدايات، وهذا شائع ومطروق في كتابات شعراء كبار حيث هناك بؤرة تتشابك صوبها محاور عدة، وهذا يظهر جليا في نصها الطويل الذي حمل عنوان (الكرة الجسدية) والذي يتجاوز الـ 15 صفحة، حيث تنطلق في عالمها الخاص وتشتبك بالعالم، تقيم وليمة للجسد والروح، وتدير جملا شفيفة وصراعا وتغور في طبقات الذاكرة والكون، تجنح نحو صوفية وتسام روحي وترتبك، وكأنها في هذا النص تتعود لتتقاطع مع بداياتها، وذات الأسئلة والعوالم اللامحددة واللامتناهية، التي تظهر في نص (الله والحب اليابس)
تطلق الخيال وتتأمل بكلمات من الروح قوة الحياة وقوة الموت، والمجهول:
الموت قبل الحرب/ في الحرب/ بعد الحرب
يبدو في داخل الكرة الجسدية
معلقا بموعد، يحدوه قتل موعد آخر
والعقل شعاع يطرح في حالة الوزن
وفي حالة انعدام الوزن....
....
....
كيف تشرح امرأة ذاتها في توحيدها
في أبهي حالات الجسد؟
حيث تنتفي الأنوثة
وتنتفي الذكورة
وكما تحترق أرواح الجنّ المأمورة
يشتعل زيتي نذورا
لمرور لحظة حظ تنمّل عظامي لحظة مرورك فيها....
.....
رغم كل الإبداعات
الكل ينقسم حول العقل/ يجتمع حول العقل الواحد
ينقسم حول الروح/ يجتمع حول الروح الواحد
ينقسم حول الجسد/ يجتمع حول النفس
وأنا الكل والواحد.
***
الشاعرة في مقدمة لأحدي مجموعاتها تشير إلي موضوع النقد والتهميش الذي يحزنها ويؤلمها ويجعلها حتى تفقد الأمل في أي تغيير ممكن في الأفق القريب والمنظور، إذ إنها تعول علي الكتابة والثقافة كقاعدة إنسانية ورحلة نحو عالم أفضل ممكن ذات يوم، وحين تتحدث عن الشعر والكتابة، تصرّح أن النقد لم يتناول الشعر الحديث كما يجب، وعن أحلامها وعيشها تحكي:
(لقد تضاعف حزني يوم رحلنا عن لبنان بسبب مأساة الحرب، لنحمي طفلين من الإنسان، نعم الإنسان.... لأن كل وسائل التعذيب والتغريب يمارسها الإنسان، ثم يغسل يديه بدموع الأطفال!
وإذا كان إنساننا سيعيد بناء نفسه، وإن كان سيفكر بما نسميه فضائل إنسانية، عليه أن يدرك أولا، وبكثير من الوعي أنه لن يكون إنسان محترماً في كل الأوطان، إن لم يكن عنده وطن محترم بين الأوطان... رغم أن للشاعر والكاتب والفنان عالمية الانتساب... ولهذا سيبقي الانتظار علي مستوي طموح الشاعر ووهج الشعر وتمرد الشعر وحزن الروح)
***
بعد هذه الوقفة والنصوص والكلمات المختارة من مجلد في 400 صفحة لشاعرة تكتب وتنشر منذ الستينات، في تجربة يتقاطع هاجسها كثيرا مع عوالم منشغلة بعمق وطرح إنساني ناضج مع غيرها من الشعراء(الكبار) والذين اسمهم يبقي حاضرا ومتداولا بحزم، هل يسمح لي الناقد والمثقفون، أن أقول في جملة حزينة: لماذا تقفلون الأدراج علي مثل هذه النصوص والأسماء حتى لتكاد تغيب تماما عن الساحة الثقافية، والشعرية تحديدا؟!
هذا اعتراض عتيق عتق الولادة بنت المستكفي وابن زيدون وربما أكثر قدما، وقد تلتقي جذوره مع تراث الوأد أيضا، وقد تستمر...
وهكذا، سنعرف الكثير عن شعرائنا القدامى والجدد ولن يصير لنا التعرف (الحقيقي) علي أمهاتنا وجداتنا في الشعر، الشعر البعيد عن اللطم والخنساء والرثاء والثورجية والمنابر ومكبرات الصوت. ولذلك أيضا لا أكتم مشاعري المهزومة والحزينة حين أتجول في كتاب نقدي رائع لناقد جميل هو كمال أبوديب، في (جماليات التجاور) أجدهُ يستعرض ويقسّم ويفند ويصنف أشكال القصيدة وأساليبها وروادها ويأتي علي ذكر أكثر من مائة شاعر، من أجيال متعاقبة ومن بلاد الشام الى يمن إلي مصر فتطوان، يكثر من أسماء الذكور، ويكبر السؤال في رأسي لماذا الكتاب كله لا يحضر فيه إلا اسم شاعرة واحدة فقط؟!
وكيف ينسي الناقد الأستاذ أبو ديب أن من جماليات التجاور والتي هي صلب بحثه في القصيدة الحديثة، وجود اسم المرأة الكاتبة إلي جانب الرجل(المبدع) وإلا لأصبح الشعر عاقرا، وكذا البلاد؟ ألا يخاف الناقدُ الله، ويخشى أن يستيقظ ذات صباح فيجد قلمه يباسا، لأن الله أيضا يقول (أعط لكل ذي حق حقه" حتى لو كان حقه من أجل الإشارة إلي القبح ونقص الشاعرية والشعرية!
***
وحتى يكون لنا لقاء آخر مع الشاعرة إنصاف نختم الكلام بنور الولادة والخصب والحياة التي تنضح من قصيدة لها بعنوان (الحرية(
ولدتُ منكِ يا غرسة العذاب
حملتُ عينيكِ مسافة الطريق
كلما أشرقتِ في مملكتي
أري الوجوه شطآنا، وأنا البحر
ارفعي ضوءك عاليا أيتها الشاعرة الجميلة الحيّة، وسيري إلي حريتكِ، حلمنا، حتى نسقط فيها، لحظة الحظ، أو الإشراق أو الإنصاف...
المصدر: ألف ياء
28/05/2003
إقرأ أيضاُ