هذه الأنطولوجيا هي الإصدار الأهم والأول من نوعه، توثق أفضل ما كتب ونشر من قصائد سكان كندا الأوائل خلال الأربعة عقود الأخيرة، أي منذ ستينات القرن العشرين وحتى عام 2000. تحرير كل من جانيت ارمسترونغ، ولالي غراوير، 360 صفحة من القطع الكبير، منشورات المكتبة الوطنية في كندا.
كي تتغلغل أكثر في وجدان الشعوب وتاريخها، إذهب بعمق وأناة إلى القصيدة. أما حين يكون الذهاب إلى بيت الهندي الأحمر ـ الكندي الأول، فلا بد أن تكون على استعداد للإنصات إلى أعماق الصدمة، الحزن، الضياع، الاقتلاع. ولواعج الذات الباحثة عن لغتها الأولى، بيت الطفولة وحكايا الجدات. أدب الهنود الحمر في هذه الأنطولوجيا يشبه حديقة معاصرة وتراثية تسلط الضوء على أوراق الأرشيف ومستجدات الحاضر. بين شعاب هذه الخميلة والعظام والقبور والأسرار تسقط الأقنعة وتنطلق الأرواح هائمة وتتبعثر الطلاسم والتعويذات وفنون الشامان. عالم شاسع وموغل في القدم يرتسم بين خطوط القصيدة مخلداً حلقات من صراع الإنسان المضطهد ونضاله من أجل البقاء وحماية الأرض وخيراتها من الخراب والقتل.
أشرفت على إعداد وتحرير هذه الأنطولوجيا، الشاعرة الروائية الكندية ـ الهندية «جانيت ارمسترونغ» بالتعاون مع الكاتبة الكندية «لالي غاروير» المحاضرة في قسم الأدب الانجليزي جامعة أوكانغان. وتعتبر ارمسترونغ واحدة من أهم شاعرات كندا ومهتمة بشؤون الهنود الحمر وتراثهم.
تقول ارمسترونغ في مقدمة الكتاب: تبلور هذا الكتاب كمحصلة سعي وتخوف من ضياع الأثر ورغبة ملحة في تقديم كتابنا ومبدعينا الذين لاشك أنهم يبلورون خصوصية ثقافية رمزية وتراثية وروحية يتوجب علينا العناية بها وإيصالها إلى طلاب العلم والمعرفة وعشاق الأدب وجميع الأساتذة المختصين. في المجموعة المنتقاة ضمن هذه المدة التاريخية المحددة، سوف يكون من العسير علينا تقديم تغطية شاملة لكل جوانب الإبداع عند شعوبنا، ولكنها خطوة أولى سوف يتبعها المزيد وهذا ما وجدته بمثابرة الإطلاع على الاصدارات الحديثة والتي تحمل شحنة شعرية باهرة تستحق الدراسة والتوثيق.
كما تشير الكاتبة إلى علاقتها الروحية الحميمة مع كبار وقدماء الكتاب الهنود وأثرهم في تكوين معرفتها الأدبية وتذكرهم بالأسماء وتكنّ لهم (لهن) المديونية والاعتزاز ومتعة الشعور بالانتماء.
تخبرنا في مقدمة الكتاب هذه الحكاية عن طفولتها: كان ذلك عام 1965، حين قال أحد أقاربي وهو ينظر من النافذة «هنا يسير الرجل الهندي الذي نشر كتابا» كلنا حينها تدافعنا إلى الشباك كي نراه، لم أذكر أبداً من كان، ولكنهم لاحقا أخبروني انه «غوردون وليمز» هذا ما يدل على أن فكرة نشر كتاب لشخص هندي كانت صعبة ومدهشة، وفي ذلك الحين لم نكن نسمع أي خبر عن شاعر أو كاتب من أبناء قومنا عدا «بولين جونسون». هذه الشاعرة الرائدة بولين جونسون كان والدها شخصية معروفة ومشهورة من الهنود الحمر، بينما والدتها انكليزية بيضاء من الطبقة الوسطى، وكان هذا الزواج مرفوضاً من الأهالي في كلا الجانبين. أصبحت حقلاً للبحث وكانت محور أكثر من كتاب يحكي تفاصيل حياتها، فقرها، أشعارها، ترحالها مع أحلامها وعوزها ومرضها من أجل عروض إلقاء الشعر في عموم مقاطعات كندا، وامريكا وصولاً إلى بريطانيا، حاملة رسالة شعبها وشخصيتها الفريدة.
جانيت ارمسترونغ تكتب الرواية والنقد والبحوث وقصصاً للأطفال، كما تدير حلقات حوار أدبية واجتماعية في المراكز الثقافية الكندية والخاصة بأبناء شعبها. وهي من مواليد بريتش كولومبيا/كندا عام 1948. نشأت تتحدث بطلاقة اللغة الانجليزية ولغة قبيلة الهنود الـ «اوكانغان». منذ صغرها راحت تساعد أبناء قريتها في الترجمة والتواصل مع الآخرين. كانت أمها قارئة نهمة وكان لها كبير الأثر عليها، كما كان والدها بارعا في سرد القصص بلغته الأم. عاشت ارمسترونغ «الصدمة الثقافية» إثر انتقالها من مدرسة صغيرة بغرفة واحدة إلى مدرسة عامة تضم حوالي 2500 تلميذاً، في وسط غريب قواعده وثقافته وتعاليمه ليست هندية. درست الفنون الجميلة وأولت اهتماماً كبيراً للسلك التعليمي وتطوير برامجه. ولها نشاطات عملية في مراكز ومدارس جاليتها وانتقلت شهرتها إلى النطاق العالمي كمدافعة عن العدالة الاجتماعية وكمتحدثة رسمية عن تقاليد وثقافة قبائل «الانديجينس». حصلت على درجة «الدكتوراه» الفخرية عام 2000.
في قصائدها تولي اهتماماً خاصاً لكيفية توزيع كلمات القصيدة على الصفحة بالقول «ربما يوما ما، اخترع صفحة ثلاثية الأبعاد تحكي عن الشعر كما أراه أنا». إلى جانب الجرأة وتشخيص الجرح.
أنجزت هذه الأنطولوجيا المهمة برفقة المحررة لالي غاروير: وهي كاتبة كندية بيضاء. أستاذة قسم الأدب الانجليزي جامعة «أوكانغا» الكندية. تقول غاروير في مقدمة الطبعة: هذه الأشعار المختارة وبوضعها إلى جانب بعضها البعض، ستبدأ بالتحدث إلى بعضها البعض بالتناوب، وتبدو أنها تتكلم وتتلقى إجابات وتعليقات فيما بينها. القارئ يسمع المحادثة، يسمع الحديث عن الكلمات، عن الكتابة والقراءة... اشتغلنا أنا وجانيت في تحرير هذه الأنطولوجيا لتكون وثيقة عن هذه الحركة الإبداعية بكل تعقيدها وطاقاتها المتجددة.
بالتغلغل بين نصوص الكتاب نجد أن بعض هذه الأشعار يحكي عن مأساة فقدان الانتماء والهوية بينما بعضها ينحاز للحديث عن عشق الكلمات واللغة واللعب بها بطريقة لا تنفصل عن الخصوصية الرمزية لهذه الشعوب. كما تعكس هذه القصائد أشكال التواصل مع البيئة ومع الأقليات الأخرى، عن الأمل والحب والمرح والأحلام والخسائر بلغة سريالية أحياناً، ببساطة وعمق. في هذه الحديقة العالمية يحاصرنا الحزن والألم وممارسات التفرقة العنصرية، ويحضر نشيد تجديد العالم وربيعه كما في قصيدة ارمسترونغ. وبالرغم مما تحمله من مواجع إلا أننا من غير شك نقطف ثمار الوجدان الإنساني وعزائه بفضل قوة المثابرة والإصرار على الوجود والاستقلالية وعشق الحياة. هذه الانطولوجيا الغنية بروعة تنوعها تحضر بين طياتها روح المقاومة كما في قصيدة «هيلين بتي أوزبورن» ولا تخلو من الفكاهة، صيد السمك، المرح والاندماج في الطبيعة بلغة تعكس العلاقة الوثيقة بين كائنات الطبيعة، الحيوانات والجغرافية وبكل مظاهرها وتجلياتها.
على الغلاف الخارجي الخلفي كتبت الشاعرة الكندية «لورنا كروزير» الحائزة جائزة الدولة في الشعر والمعروفة بإصدراتها العديدة وإشرافها على تحرير عدد من أنطولوجيات الشعر المعاصر في كندا: في إحدى قصائدها تقول الشاعرة ريتا جو «أضعتُ كلامي ـ الكلام الذي أخذته بعيداً» تضعنا وجها لوجه أمام التدمير المتعمد الذي تعرضت له هذه الشعوب، وثقافتها المتنوعة الغنية ولم يسلم من ذلك حتى لسانهم الأم. وفي نصوص أخرى تشير الشاعرة إلى النعمة الجمالية التي يغدقها الشعر على أبناء فئة معينة، وعلى الآخرين الذين يرغبون في الإصغاء. مثل هذا الحضور وبما يحفل به من كتّاب وكلمات يجعلني أستعير مقطعا من شعر واين كيون: كل النجوم (لبت النداء) وخرجت لتضيء «هي ذي» كل النجوم خرجت لتضيء عتمة الأرواح القابعة في هامش العالم والحقوق الإنسانية، كل الأقلام ضفرت عناقيد كلماتها لتقدم سلة تزود القارئ بمجريات عالم غني وساحر وغريب الطقوس، فهل يفتح القارئ قلبه ليقطف من هذا البستان الحي والمشرع على التراث الذي جرى قتله ونفيه أيضاً. لهذا الشعب خصوصية، كما لكل ثقافة، وبما أننا غرباء عن هذه الرقعة الأدبية إلى حد ما لذلك وأثناء قراءتي للقصيدة وجدتني مضطرة للبحث عن خلفيات الأسماء أو الحوادث الواردة في سياق بعض النصوص، فوجدتُ أن لكل من هذه الأسماء دلالات وصلة تاريخية وثائقية ورمزية مرتبطة بفئة معينة كان لها دورها التاريخي والجغرافي والاجتماعي في حياة هذه الشعوب، الأشرار منهم، أو الأبطال الرمزيين، أو العنصريين الذين قادوا معركة الإبادة لهذه القبائل بحجة نشر المدنية والعلم، ثقافة الرجل الأبيض. وهذا يضعني في مراجعة لحزن أحد الشعراء وهو يعبر عن الحالة بحزن بقوله: يجب ان أضع الكثير من الهوامش في كتابتي، إذ لا أحد يعرف من أين أتيت، لا أحد يعرف عني شيئاً رغم أنني ابن هذه الأرض!
ومن أجل توثيق كل مرحلة كتابية نجد في نهاية كل قصيدة تاريخ نشرها، وبعض القصائد مذيلة بتاريخ كتابتها إلى جانب تاريخ النشر.
هنا بعض القصائد القصيرة من هذه الأنطولوجيا للشاعر سيرين ستمب: توفي غرقاً في المكسيك (1945 ـ 1974) عاش طفولته في مقاطعة ألبرتا، كتب الشعر ورسم بالحبر والرصاص، أقيمت له عدة معارض، في طفولته كان مأخوذاً بحكايات التراث. أشعاره مشبعة بالرموز والطقوس والشعائر الدينية حازت على شديد الإعجاب والاهتمام بين أقرانه وفي عموم كندا. قصائده المنشورة في هذه الأنطولوجيا كتبت عام 1970، مرفقة برسوم بالحبر الأسود ومنها الطيور التي على غلاف هذا الكتاب. وتبقى مفردة «الهنود» هي الدارجة في سياق القصائد والمقدمة، رغم تغير المدلول اللغوي والثقافي الذي تحمله الكلمة، والتي يستعاض في الدراسات الحديثة بعدة تسميات مثل: السكان الأوائل، الابوريجينال.
* وهنا شعبي الذي ينام
- سيرين ستمب
- وهنا شعبي الذي ينام
- منذ أمد بعيد
- وناسي لم يكونوا مجرد أحلام
- سيارات عتيقة بلا محركات
- مركونة في واجهة البيت
- أو كلمات غاضبة تتوسل صفاء الذهن
- أو الذين سرقوا منك ومن أجلك
- ولا يريدون أن يتذكروا بماذا تدين لهم
- أحياناً أنا أيضا أرغب أن أغرق في النوم
- أغمض عيني عن كل شيء
- لكنني لا أستطيع
- لا أستطيع
- مع الذعر، أحياناً
- مع الذعر، أحياناً
- أسمعهم ينادوني
- لكن قفزة الفهد الخفيفة
- تفصلني عن الأرض
- لتتركني وحيداً
- مع طاقاتي المتحررة بجنون
- وذلك حتى أصل إلى صنّـاع الشمس
- وأهتدي إلى نفسي
- في مكان جديد
- كنت أخلط النجوم والرمل
- كنتُ أخلط النجوم والرمل
- أمامه
- لكنه لم يستطع أن يفهم
- كنت أحتفط بالبرق
- الناجم عن الرعد في حقيبتي
- أمامه تماماً
- لكنه لم يستطع أن يفهم
- وكنت قد قتلتُ آلاف المرات
- تحت قدميه مباشرة
- لكنه لم يفهم.
* تقديم وترجمة: جاكلين سلام
* شاعرة وكاتبة سورية ـ كندية