جاكلين سلام
 ( سوريا / كندا)

" حتى حين تقول:
سأكتب ذاك الشيء الأقصى عني
أو هذا الشيء الأكثر قربا مني،
لن تكتب إلا نفسك "

" لا تكتب أرض الحرية / إلا لغة وحشية"
" إن رأسي مليء بالكواكب: ضوء البصيرة وضوء البصر توأمان، وضوء التمرد وعدوهما المنتظر"

" أكتب- يأخذني رعب
وأجنّ ويجفل مني حتى الحبر، وحتى الورق
وأسائل نفسي: هل أكتب حقا أم أحترق؟ "

" أيها الجامح المارق –
ما أمر الطريق إلى الذات، في نشوة العشق، يا أيها العاشق"

ومضات من قبس الشاعر في الجزء الأول من منجزه الشعري الفكري، مفتتح للذهاب في تقصي خطوات البحث وبعض أحكام الناقدة وتحليلها للكتاب ( 1) لأدونيس.
كيف تفتح الناقدة اللبنانية زهيدة الياس جبور، أدراج " الكتاب1 " والشاعر "أدونيس" ؟
كيف تقسم خطوات بحثها، لإلقاء ضوء على تجربة ثرية وإشكالية لها من المؤيد والمعارض ما يجعلها حاضرة دوما وبجدارة؟

* * *

التاريخ والتجربةجاء في مقدمة الإصدار، بقلم الناقدة زهيدة جبور حول تجربة الشاعر أدونيس في " الكتاب 1 " الذي صدر عام 1995 وتبعه جزءان آخران: " سنحاول في هذه الدراسة استقراء حقيقة الموقف الأدونيسي من التاريخ والثقافة العربية، وتبيين مفهومه للعملية الشعرية والكتابة الإبداعية ورصد ملامح التجربة التي ترتسم في " الكتاب " كما سنحاول الاستدلال على القناعات الفكرية والتوجهات الفلسفية التي تحدد موقفه من الوجود نفسه. وقصدنا من ذلك استجلاء ما يسميه كمال أبو ديب " البنية المعرفية " التي تكشف عنها الكتابة والتي تتشكل وفقا لعلاقة التفاعل بين ذات المبدع والعالم من حوله، والتي تخضع لتأثيرات عدة، بعضها يظهر على مستوى الوعي وبعضها الآخر يصوغ لغة اللاوعي" .
أدونيس الذي تجاوز في شعره، المحدود والنهائي والمغلق وشيّد قصيدته وحضوره الاستثنائي والخاص، والذي أختلف عليه وحوله القراء والنقاد طويلا، أين يحط رحال كتابه الأول وكيف تشتغل الناقدة بين دروب قصيدته، لتكشف جوهر الشعر الأدونيسي وكما تقول " بحيادية علمية"

*****

تقسم الباحثة خطوات دراستها إلى أربعة فصول، تبدأ من الشكل والبنية في القصيدة وتخلص الى سمات وملامح الفكر الأدونيسي، مدعّمة كل فكرة ونتيجة بشواهد من طبقات الكتاب.

الفصل الأول: في الشكل والبنية

تتناول عدة محاور وتدخل من سيمياء العنوان وماتخلفه من صدمة كلمة " الكتاب" في وعي القارئ منذ الوهلة الأولى، لارتباطها بمدلول ديني" وآتيناه الكتاب والحكمة" من جهة وفي المقابل فأنه الكتاب المفرد، الذي قد يكون أيّ كتاب، بالتالي هو كتاب شاعر، يحمل رؤاه الخاصة في لتاريخ والتراث والوجود، وقابل لكل التآويل وفق ما تعلنه أوتضمره الجملة الشعرية الأدونيسية. وإمعانا في الغموض والإثارة يرفق الشاعر الكتاب بـ " أمس المكان الآن " هكذا جملة زمكانية تقترح تعقيدا ومداورات شتى.

البنية الشبكية:

يشير إلى محاولة أدونيس في قلب الهامش إلى متن" ما اعتبر اساسا في الثقافة العربية، يجعل منه مجرد هامشن وما بقي على هامش هذه الثقافة يضعه في موقع القلب النابض "
هذا وتقوم النصوص على ( تعددية في البناء وألاصوات والأشكال الكتابية)  يقود إلى شبكة من العلاقات المتعددة الدلالات تذهب من تخوم الاساطير إلى التراث إلى الفلسفة، يسخرها كلها في حدودها القصوى لخدمة نصه، ومن دون الوقوع في فوضى النص.
كما وتفرد صفحات للحديث عن السيرة الذاتية والتاريخية والتقاطع مع سيرة المتنبي والعودة إلى الأصيل من الأسماء التي تم استبعادها وتهميشها " يستحضرهم الشاعر لينصفهم ويزرعهم منارات على الطري، يستلهم مواقفهم ويثور أحيانا على الظلم الذي لحق بهم فجعلهم ضحايا النبذ والتشرد والقتل، وأحيانا يستعير اسمائهم لتكون عنوانا ... " ص 83

* * *

الفصل الثاني: قراءة في التاريخ العربي

" يضع الشاعر قضية قراءة التاريخ والكشف عن خفاياه في أولويات اهتمامه ويجعل منها محركا أساسيا للكتابة الإبداعية ....وإزاء هذا الواقع يعلن المفكر موقفه بجرأة : لا قدسية للتراث، إنه حقل ثقافي عمل فيه وأنتج بشر مثلنا، يصيبون ويخطئون، يبدعون ويبتدعون، والحكم لهم وعليهم يعني حكما على نتاجهم المحدد أو له، ولا يعني الحكم على الشخصية العربية أو لها ... والجديد في الكتاب هو ممارسة الفكر النقدي بلغة الشعر " ص 89
وللبحث في هذا التاريخ، لا بد من البحث في تاريخ السلطة والصفات الأساسية لها، وتبدأ الدارسة بتبويب هذه الصفات وفق شواهد من الكتاب فتأخذ صفة " الظلامية " حيزا أساسيا، وعلاجه يكون بنور الفكر والشعر. ومن ثم الصفات الأخرى التي يشتغل عليها فكر الشاعر في هذه الكتاب وهي ( العنف / سيطرة الغيب ) وأما أزمنة الشاعر فهي مركبة وتقسمها إلى( الزمن التاريخي / الزمن الوجودي / الزمن الشعري ) وتخلص إلى القول " أن طبيعة بنية الزمن في هذا الكتاب ليست مسطحة، بل تتداخل فيه الأزمنة، وينقسم التاريخ الواحد على نفسه، وتتحرك عناصره في سياقات التجاذب والتنافر. وإذا كان التاريخ فيه غير متجانس، تاريخ للقتل وتاريخ للإبداع، فإن الزمن فيه أيضا معقد ومركب " ص 137 وكذلك المكان متعدد، وله أهمية قصوى في نصوص الكتاب، تارة يكون في الكوفة مسقط رأس المتنبي وتارة في اللاذقية ومسقط رأسه " لقد عاش الشاعر دائما منفصلا وحافظ حتى عندما كان في قلب المكان على المسافة الكافية التي تمكنه من أن يرى بوضوح كل مشاكله وتعقيداته .. " ص 143

* * *

الفصل الثالث: الشعر والكشف

تخصص الباحثة في هذا الكتاب أكثر من خمسين صفحة، تعكس ومضات وأراء وتفاسير أدونيس عن الكتابة، رؤيته وتصوراته وأساليبه في الشعر، ومبتغاه، منذ بداياته وحتى هذا المنجز الذي نتناوله هنا:
 " يشكل التساؤل عن جوهر الشعر وطبعته وعن موقع الشاعر من العالم خيطا جامعا لدوادينه .. ولا يكسر الكتاب هذه القاعدة بل تشكل مسألة الشعر إحدى المسائل الأساسية التي يطرحها بلغة فنية راقية تجمع بين الشفافية والغموض، لا تقدم إجابات إلا لتطلق منها تساؤلات .. "

الشعر عند أدونيس بحث في عدة أتجاهات ركيزتها البحث عن ( الجمالية ) عبر الشعر:
أ-  الشعر طريق إلى المعرفة 
ب_ الشعر تجربة وحضور في العالم
ج_ الشعر تجاوز وتحفظ
د_ الشعر فعل تحول وصيرورة
ه – الشعر رؤيا
الشعر غموض مضيء / الشعر لغة جديدة / الشعر طاقة على الحلم
وفي كل خانة مما أعلاه، تتفحّص طرائق الشاعر مستدلة على المكنون منه، بشذرات مضيئة من قصائده.

* * *

الفصل الرابع: ملامحم التجربة وسمات الفكر

في هذا الفصل يجري التقصي عن ملامح الذات الداخلية، عن مدى التصاق الكتابة بمبدعها، عن تأزمات النفس الشاعرة، وعن صراع الهدم والبناء في القصيدة عبر ( جدل أدونيسي) يسعى لخلق صرح جديد مسخرا كل أبواب المعرفة، قديمها وحديثها مستحضرا عدا كبيرا من الأسماء التاريخية المعروفة والمهمشة، ليقول قوله باسمها وعنها ولها ولكن:
" هل ينتهي بالشاعر المطاف إلى إعلان الفشل ؟ لعلنا نجد الجواب في مغامرة الكتاب ذاتها، وهل كان له أن يخوضها لولا إيمانه بجدواها وفاعليتها؟ .. ذلك أن الرهان يبقى على الثقافة، وأن خشبة الخلاص الوحيدة للإنسان العربي هي إنتاج ثقافة متحررة من أعباء الماضي، تنتقي من التراث جوانبه المضيئة للتواصل معها وتفعلها وتطورها، ذلك أن التراث كما يؤكد الشاعر أطروحاته النظرية السابقة .. " ص 227
مناخات الذات في هذا المبحث لها بعض هذه السمات:
 الأمل والفجيعة / التوحد والغربة / التشظي والحيرة... وعبر هذه الدوامة من النوازع والضغوط والالتباسات يواصل الشاعر بحثه، ليؤسس ركيزة فكرية لها سماتها ونزوعاتها، تلخصها الباحثة في مفاصل محورية كالتالي: النزعة المادية / النزعة الصوفي / النزعة الإنسانية
" ليست المادية لديه نقيض المثالية بل تتكامل معها ضمن علاقة جدلية وثيقة .. " ص 240
" ان الحضور الروحي الكلي واحد في جميع مكونات العالم وهو دائم الحركة وليس الجزئي إلا صورة من صوره اللامتناهية وهو ليس قائما بذاته بل متصل عضويا بالوجود المادي، ففي المرئي يكمن اللامرئي... وليس ظاهر الأشياء إلا جهل لحقيقتها الهاربة التي تختفي فيها ..."  ص 241 .
" الصوفية كما ينظر إليها الشاعر هي فعل تحرر ورفض لصنمية الحقيقة الواضحة في محاولة لبلوغ حقيقة جوهرية حية تطلع من داخل الذات المنصهرة حين يتمرأى فيها نور العالم .. " ص 265
" يرفض صاحب " الكتاب " أن يسجن الإنسان في ثنائية الخير / الشر، و يطمح إلى رؤيا توفيقية تؤنسن القيم وتجعل منها وسيلة لتفتح الذات، لا قيدا مفروضا عليها من الخارج " ص 266
كما وتتطرق إلى بعض ردود فعل القراء والباحث الغربي اتجاه النص الأدونيسي.

* * *   

كلمة أخيرة: جاءت مقتضبة وملخصة لمضمون البحث وغاية الشعر، ختمت بها الناقدة " زهيدة جبور " بحثها التفصيلي الممتع حيث أضاءت جوانب النص بمعرفتها ولغتها السلسة الواضحة بعيدا عن تهويمات ومصطلحات نقدية( مستعارة) تربك ذائقة المتلقي لهذه الدراسة الجادة، والتي لا تكون ولا تكتمل إلا بحضور القارئ الحقيقي الذي يحقق للنص ديمومته وأبعاده ويعيد خلقه كإحدى الطرق المؤدية لأكتشاف الذات والعالم.
تختم كلمتها بالقول:
 " لقد استطاع أدونيس أن يطرح كل المسائل بغية القصيدة التي تنطق عن ذاتها فتقدم رؤيا للشعر والشاعر والقراءة تماما كما ترسم صورة للذات، وتصور بالأحمر والأبيض لوحة التاريخ وقد أضحى مادة معرفة وموضوع تساؤل. وهو عندما ينبري لمحاكمة تاريخ السلطة، يميط اللثام عن تاريخ آخر خطته بأحرف مضيئة أقلام المبدعين على مدى العصور " ص 286

هامش
زهيد ة درويش جبور:أستاذة في الجامعة اللبنانية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية ( الفرع الثالث / قسم اللغة الفرنسية وآدابها، صدر لها كتابان: دراسة حول شعر ناديا تويني عام 1992
دراسة حول الشعر اللبناني الفرنكفوني عام 1997. ولها العديد من الكتابات النقدية والقراءات المنشورة في الدوريات الثقافية.

* * *

أنقل بعضا من نصوص أدونيس عن الكتاب الأول، لتقريب القارئ( ة) مما يجري في أرجاء الكتاب، هذا ويتعذر علي طباعة بعض الأوراق المهمة، لأنها تستلقي على الورقة بطريقة خاصة، من حيث النص المتن/ والهوامش على اليمين واليسار...

هذه بعض الأوراق:
أوراق عُثر عليها في أوقات متباعدة، ألحقت بالمخطوطة / والتي يشاء أدونيس أن ينسبها إلى المتنبي، في محاولة للتماهي بما تعكسه شخصية المتنبي، في ذاكرة الشعر العربي...

الأوراق

ورقة بلا رقم

لمَ لا أرى غير الفرات؟
ألأنه لغة التراب – حروفها
زهر وعشب؟
ألانه رحم الصداقة – يلتقي
فيه النقيض نقيضه؟
ألانه كبد الطبيعة – تنحني
فيه النبات على النبات؟ الأرض نائمة على أنقاضها
والوقت يوغل في السبات، _
لمَ لا أرى غير الفرات؟
ص 301

1
من جهات دمشق وبغداد، تأتي رياح:
لا لقاح ولا زرع،
والثمر المرّ كالرمل
جاثٍ على شجر الأزمنة،
الرياح دم الأمكنة.

2
هذه الليلة لن أرجع للبيت، كما أعتدت، سأبقى
ساهرا،
أسمر مع قافلة الأنجم، أمشي
سادرا بين الشجر،
وأرى كيف ينام الليل محمولا على ضوء القمر.
ص 302

نتبادل يا موت: أعطيكَ شمسي/ وآخذ ليلك،
غيرت؟ ماذا يفيدكَ جسمي؟
ليس إلا نسيجا به مقلتي
حين أرنو إلي.

* * *

تلك امرأة –
بين خطاها يتمشى طيف
أحيانا، يطفو في عينيها
ظنا ، او تأويلا
أحيانا يغفو
في موضع سفر.
ص 306

أكتبُ _ يأخذني رعب،
وأجنّ، ويجفل مني
حتى الحبر، وحتى الورق
وأسائل نفسي: هل أكتب حقا، أم أحترق؟
ص 320

* * *

انظر خلفكَ
ليس الماضي إلا ثقبا كونيا
لا تخرج منه إلا
أطياف بخار.
ص 321

* * *

هذه مقتطفات من فصل بعنوان الفوات، إذ يخبر على لسان الراوي، فجائع القتل مؤرخة بأسماء وهوامش جانبية على حافة النص / الورقة:

ورقة رقم 23

راوٍ آخر يروي:
جاؤوا بحبال
جاؤوا بحديد
سملوا عينيها*

قطعوا رجليها، زنديها
ورموها في السوق
جسدا محروق.
لم تتأوه، قالت:
آخر ايامي في الدنيا
أول أيامي في آخرتي. 
* الإشارة إلى امرأة اسمها البلجاء، قتلها عبيد الله بن زياد / ص 358

* * *

ورقة رقم 29

راوٍ آخ يقول:
كان زعيم الدعوة* - يرسي فيها
أملا آخر، عهدا آخر.
حبسوه،
قتلوه في محبسه.
وثنى هذا الرواي:
هل نفتكر؟
هل نعتبر؟
ربّما شجرة
لم يقطف منها ثمرة
هامش : إبراهيم الإمام، زعيم الدعوة للعباسيين قتله مروان الملقب بالحمار، آخر الخلفاء الأمويين. ص 364

* * *

ورقة رقم 34
راوٍ آخر يروي:
لأبي مسلم* رأيت ثلاثا
وأنا نائم:
وقعت عِمّته
وكبتْ خيله،
إنها حظه
- قال اقتل .
- الله أكبر،
في الفجر كان أبو مسلم
قتيلا.
هامش : * أبو مسلم الخراساني، والحوار بين الخليفة المنصور، ورجل من خاصته رأى الحلم. ص 373

* * *

صوت بتوقيع ثلاثي

يزعم الراوية
أن هذا الحضور الذي يتغطى بأسلافنا
ليس إلا غيابا، _
لا يرى من بهاء الحديقة إلا
وردة ذابلة
أترى هذه لغة عادلة؟
غضب الأرض، حلم النباتات ، وسوسة البادية
لم يقل أي شيء، ذلك الراوية
عن تهاويلها وتآويلها،
كيف؟ لا حقّ في الصمت للراوية
هي ذي الشمس تهمس للراوية ،
وتكرر مزهوة:
حكمة الضوء أبقى وأعمق من ليل صحرائك الدامية. ص 378

***************

أدونيس الكتاب 2
 أمس المكان الآن

المدينة ألف

في المدينة ألف،
يضيف الصيادون إلى خيوط شباكهم خيوط أحلامهم ::
لهذه ألوان الوقت
ولتلك ألوان الموت.

*

بعضهم يريد أن يصنع جنة للحرية
لكن بكلمات
لا يقدر هو نفسه ان يتفوه بها .

*

في المدينة ألف،
تكفي تعويذة واحدة – يُكتب الأبد على وجهها الأول
والأزل على وجهها الثاني ،
لكي يتموج البحر في سمّ الخياط،
ولكي تنبت للحجر أجنحة .

*

حجر في المدينة ألف، وجد نفسه فجأة أنه رأس آدمي .
هذا الرأس وجد نفسه فجاة أنه مسخر لقراءة كتاب في مدح التاج . منذ تلك اللحظة تتبارى الرؤوس كلها في هذه القراءة .

*

كلا، لن أصف المدينة ألف بما كانت عليه، مثلا ، مدينة الأسكندرية . كانت هذه المدينة توصف بأنها من الأمكنة التي يباح فيها كل شيء ، والتي يسافر إليها الإنسان لكي يمارس حريته ، دون أي قيد او أي عائق .

كلا لن أصف المدينة ألف بأنها " العاهرة الكبيرة " أو بأنها كمثل مدينة سدوم، رمز للحرية القصوى التي تتحول إلى عبودية قصوى ، والتي لا يمكن أن يطهرها إلا المطر الذي يسيل نارا  كلا، لن...

*

المحو هو الهاجس الأول للمدينة ألف، لكنها تنسى دائما أن المحو، هو أيضا كتابة .

*

تتسع المدينة ألف لكل شيء، إلا لذلك العضو الصغير الذي اسمه الجميل: القلب .

*

يقال:
تخرج كلمات من أقفاص تملأ البيوت والشوارع في المدينة ألف ، كلمات طويلة كالحبال ،
ويقال:
ينطق بهذه الكلمات أشخاص لا يتحدثون إلا مع اشباح تتقاسم المدينة ألف، كأنها اسرّة ومقاصير.
بعضها مثلا: لم تعد تقدر أية نجمة أن تتسلل إلى غرفة الشاعر. وبعض هذه الأسماء، مثلا أخيرا : عبثا، تقرع هذا الباب الذي يسميه غيرك، المستقبل.

*

يروى أن للنهار في المدينة ألف أشكالا خاصة بهما، لا يعرفهما النهار والليل في أية مدينة أخرى .
من ذلك، مثلا أن النهار يبدأ في المدينة ألف كأنه قيد موصول بقيد آخر. صحيح أن له قدمين، لكنهما مأخوذتان، بتسلق جدران غير مرئية. أما يداه فترتقان بدون توقف، ثوبا منسوجا من تلك الخيوط التي يعرفها أهل الأختصاص، والتي تصل الرمل بالرمل. من ذلك أيضا، أن له أذنين لا تسمعان إلا الكلمات التي تنفخها شفتاه كمثل الأنابيب، حينا والكرات حينا آخر ن ولا تعرف عيناه أن تنظرا إلى أي شيء ، إلا بدءا من النظر في مرآة الموت 0 وفي رواية ثانية : مرآة الموتى ) . وهكذا تعيش الحرية والحقيقة والحب والنور، وراء حجاب. وحين تظهر بين فترة وأخرى، تظهر إما مضرجة بالدم، أو مغمورة بالخجل .
ومن ذلك أن المدينة ألف ترفع هذا النهار علما يخفق على قصورها وفي شوارعها .
هذا قليل من اشياء كثيرة تروى عن النهار في المدينة الف.
أما الليل فهول لا يوصف، أو لنقل : ليس في الحديث عنه غير الحرج .

*

للأطفال في المدينة ألف غذاء خاص وغريب تستخرج مادته من مسحوق الرعب . ولهم اسرة متنقلة تشبه الكهوف .

*

هل تعرف كيف ترتفع جدران الدم ؟ كيف تتجاور، أو كيف تتنافز؟ أنت في المدينة ألف لا تتخيلها، بل تصطدم بها.

*

حطت خوذة على خريطة المدينة ألف ( الخريطة التي بدت كمثل صورة بحجم التاريخ ) وصاحب بملء معدتها:
أيتها الصورة، أنا المعنى .

ص 65 – 68 / عن الكتاب / أمس المكان الآن

* * *

المدينة باء

تبدو الحياة في المدينة باء
ثوبا منشورا على حبال الغسيل.

*

مكتبة، في المدينة باء،
لا يرى الداخل إليها غير محابر لا حبر فيها وغير اقلام لا تكتب، وغير كراسي تجلس عليها دمى بألوان زاهية ومتنوعة. ومكتبة ، صممت على شكل ممحاة.

*

قتل الأب في المدينة باء ظاهرة عامة. لكن معظم الأبناء ينتنحرون فيما يحالون قتل آبائهم. ذلك أن معايير هؤلاء الأبناء، ومرجعياتهم وينابيع إلهامهم ولغتهم، الآباء أنفسهم. والمشكلة، حقا، في هذه المدينة هي انتحار الابن، لا مقتل الأب.

*

هل سأبدو مجنونا، إن أكدت لمن يقرأونني الآن، أن للكلمة في المدينة باء، وجها وقامة وأطرافا . أن لها باختصار شكل الإنسان؟

*

" الإنسان حيوان ناطق " يقول أرسطو .
ويقول بهلول المدينة باء: صحيح أن الإنسان حيوان ناطق، لكنه لا ينطق إلا كذبا: إما لتحسين نفسه، وإما لتقبيح غيره"

*

هل تريد حقا، أن توقظ الآخر في المدينة باء، وأن تفصح عن حقيقته؟
إذن أيقظ نفسك، وأفصح عن حقيقتك أولا.

*

لا يعرف الشاعر في المدينة باء، إن كان عليه أن يفرح أو أن يحزن :
كلماته تحرق كل يوم،
وكلما نضجت جلودها بدلت غيرها.

*

المهم في الشعر، بالنسبة للمدينة باء، هو رؤية أسنانه، خصوصا الأنياب. عندما تراها ، يسهل – كما تقول – فهمه وتقويمه

لا بد من شكر خاص لسياسة الطبيعة في المدينة باء .
فهي تنزل المطر من غيم كمثل غشاء البكارة.

*

مدينة – صحراء لا ينقطع بريدها
وليس في الرسائل غير الرمل.

*

هين على اللذة جسد هذه المدينة ،
ألهذا تداهن الرغبة الرغبة ،
ويغش العضو العضو ؟

*

عجبا! كل جميل في هذه المدينة يموت لحظة الولادة.
والقتل فيها نشيد لا تتسع لغيره حنجرة الريح .

*

كلا، انت في المدينة باء لاتقيم بين دار وآخر، بل بين لحظة وأخرى .

*

تحت كل شارع في المدينة باء، شارع آخر
وفوقهما يد الغبار، -
مدينة يسوسها الغبار بغلمانه .

*

كل في المدينة باء يحاول أن يتشبه بالحجر، لكي يقدر أن يتسع كمثله لحضور الموت .

*

خلسة كل ليلة تتسلل الى المدينة باء اشباح من عالم آخر،
ملّت الجلوس في بيوتاتها.

*

أقول لك أيتها المدينة باء:
ليس جسدك إلا بذرة ترمى في تراب جسد آخر.
وليست الروح إلا مظلة تسهر على الجيد وأحواله
وأقول لك:
اسمك ممحو بك، مكتوب بغيرك.
ولاتسلي عن الملح الذي يتكدس في أحشائك التي تكاد أن تتحول إلى مملحة تتسع لأقطار الأرض .
لهذا لا تحب هذه المدينة الشعر إلا بشرط واحد: أن يحمل مطرقة ويدور في شوارع العالم .

هكذا، كل يوم،
تعيد السماء تكوين هذه المدينة، وها هي صورتها، اليوم:
جسد كمثل الإصبع
ينام في حضن كمثل الخاتم.

*

للسهول التي تزنر المدينة باء،
لهياكل نباتاتها التي يرفعها الهواء طقس الزرع والحصاد ، لآنية البخور التي تشكلها يد المدينة في فضاء الشجر والسنابل،
لهذه جميعا،
أقدم طبيعتي أنا الحائر المحير وأتوسل للرعد، أن يأخذ بيدي. لعل في هذا ما يؤكد لك، أيتها المدينة، أن صوتي فيما يتراجع عنكِ يتقدم نحوكِ، وأنه فيما ينفصل عنك، يتصل بك – لكن في طرف آخر لتاريخ آخر.

من ص 69 – 73 .
( أدونيس/ الكتاب 2 / أمس المكان الآن )

* * *

المدينة جيم

الموت هو الذي استأثر بوضع قديمه على عنق هذه المدينة،
والحياة هي التي أذنت له.
هكذا تعزف المدينة جيم حياتها على قيثارة الموت.

*

ردد آخر كلماتك. ضعها إدمانا على رغيف اللحظات التي بقيت لكَ:
تلك هي لازمة لاتتوقف عن تكرارها اصوات غامضة في فضاء المدينة جيم .

*

لاتتميز المدينة جيم بالسلاسل التي تختص بالسهر على الشفاه وألايد ي والأقدام ، فهذه السلاسل تعرفها معظم المدن.

السلاسل التي تتميز بها المدينة جيم نوع من السائل الذي يجري في الكلمات ، وفي النظر ، وفي النبض أحيانا.
يتحول الخارج، بجهاته الأربع، إلى مستنقع تختلط به هذه السلسل وتتمازج. وغالبا ، يتعذر التمييز بينها وبين الهواء .

*

لم أعد أتخيل حضوري في المدينة جيم، حتى خرج مني عضو من أعضائي. خرج نافرا، غاضبا.
أكتب الآن لكي أعتذر له، ولكي أعيده إلى مكانه.

*

" ليس في الإمكان أحسن مما كان " تقول المدينة جيم لذلك ليس العالم، بالنسبة لها موضع تغيير .

المسألة كما ترى، هي أن يتآلف الإنسان مع العالم، وأن يتركه في سيرورته، وأن يسايره.

قرأت يوميات شاعر في هذه المدينة، اخترت منها هذه الخواطر:

أ - للكلمات في المدينة جيم رءوس وايد وأرجل ، وليس لك أن تسألها ، بل أن تتبعها.
ب- تعطى للفكر في هذه المدينة وظيفة النار.
ج- لا تأمل في فضاء آخر ، مادمت مسجونا في فضاء الكلام .

د_ يكتب صديقي الشاعر بطريقة يبدو فيها كأنه هو نفسه بارئ اللغة.
التحية له
يقول أيضا مؤكدا أن الكلمات في المدنية جيم تهيء ثورتها الخاصة :
تنبثق ....ص 74- 75

يقول أيضا مؤكدا أن الكلمات في المدينة جيم تهيء ثورتها الخاصة:

تنبثق لا من معجم، بل من قاع الجسد وأغواره، من زواياه، ومن دوائره ومهاويه،
ثم تدخل في العالم وتدخله فيها - في عرس دائم .
حيث الغياب أجمل صورة للحضور ،
حيث المحو نفسه تسمية جديدة للأشياء .

و_ تأخرتُ كثيرا كي أكتشف أن السماء ليست خارج جسد الإنسان، بل في داخله.

ز _ أقول لليقين أينما رأيته:
شفتاك غيم،
وإن كان رأسك حجرا .

ح _ كمثل السراب يتحرك الواقع في المدينة جيم .
لذلك لم يعد فيها مكان للحلم .

ط _ كيف أغوي الأشياء لكي تذكرني بالكلمات التي تقدر أن تفصح عنها؟

ي _ كلا، لا يجوز أن يكون الشعر مصنوعا من قبل الناس أجمعين، ولا مصنوعا من أجلهم، بل يجب أن يكون مصنوعا بهم .

ك _ رأسي سجن يغلق أبوابه على سجناء كثيرين، -
كيف أحرر غيري منه، إن لم أتحرر أنا نفسي؟

*

الرهان في كل تجربة كتابية عظيمة ، خصوصا في المدينة جيم ، ليس الكتابة ، بل التاريخ .

*

احتفاء بنفي الشاعر ( وقيل بموته
عقدت السماء منديلا أخضر حول خاصرتها، وأخذت تراقص المدينة جيم .ص 74 - 77

* * *

المدينة ثاء

لا تعرف الريح في المدينة ثاء
أن تمشط شعر الشجر

*

غريب أمر الناس في المدينة ثاء -
إنهم يعيشون عائمين على أطراف الأظافر

*

ليس للحصان عينان وأذنان
يد ولسان
إلا في المدينة ثاء

*

تكاد الريح نفسها في المدينة ثاء
أن تفقد شهوة الهبوب

*

النهار في المدينة ثاء
لجة من الدمع
والليل سفينة غارقة

*

ليس للقمر إلا الضوء الذي يعكسه
أو هكذا يبدو
لكن لماذا عندما تنظر إليه من المدينة ثاء
يبدو لك ان له مخالبَ تكاد أن تلامس وجهك
ويبدو كأنه خارج لتوه من الجحيم؟

*

أحيانا
لكي ترى بوضوح في المدينة ثاء
لا بد لك من أن تغمض عينيك

*

كلا، ليست المدينة ثاء
هي الموعودة بالجنة
بل الجنة هي الموعودة بها

*

تريد المدينة ثاء أن تظل شفتاها
مختومتين بشفتي ملاك .ص 383

* * *

المدينة ميم

في المدينة ميم، تحدثك الجدران سريا، عن قلب يريد أن يخرج من نفسه
كي يسكن قلبا آخر، أو عن نافذة تريد أن تواخي الأفق .
هكذا ، لكل كلمة في المدينة ميم سجن، باستئناء كلمة واحدة: السجن .

*

الحاضر في المدينة ميم هو نفسه الخادم الذي يغسا قدمي السيد الماضي. وعندما يتاح لك أن تدخل بيتا في هذه المدينة ، وترى الى جدرانه ، يخيل اليك أن لحظات الماضي
كلها تحولت الى صور تتدلى عليها
وتشعر أن الحاضر كله ليس إلا مسامير لتثبيت الصور

يطيب لك بعد ذلك، أن تقسم البشر الى قسمين :
جماعات تجلس على الزمن
وجماعات يجلس الزمن عليها .

*

دخان في زاوية. في الدخان ما يشبه أجنحة ليست اجنحة طيور. وفيه أحيانا ما يشبه أجنحة لعيون ليست عيون رجل أو امرأة
لكن يا للغرابة، يبدو أنه دخان بلا نار، انظر من هذه الزاوية، عبر هذا الدخان الى هذا الفضاء:
سترى أن وجهه يتعفن ويبلى . ص 250

* * *

المدينة سين

ليت الشمس، تساعدني كي أنقذ ذلك الشعاع الذي يحاول أن يهرب من المدينة سين

*

عبيدٌ - لكن تطوعا:
هذه عبارة لا تجد لها ترجمة عملية إلا في المدينة سين

*

قتل البصيرة وإحياء القدمين:
هذا هو قانون الحياة في المدينة سين

*

لماذا تضطرب؟ هل تخشى أن تسقط تحت ضربات العداء الذي تكنه المدينة سين لاسمكَ ودروبكَ؟
ادخِلها في محيط حبك ، واتكئ على هذا الحب كلما ذُكرتْ أمامك
أنذاك، على الرغم من اللامبالاة التي تخصها بها، لن تسقط أبدا ص 255

* * *

المدينة هاء

المدينة هاء
مولودة لا تقدر أن تنهض من الفراش
الذي ولدت فيه .

*

تركب المدينة هاء
عربة تائهة،
لا تفكر، لا تحلم، ولا تتوقف عن الكلام .

*

تقول المدينة هاء:
إن لم تكن سعيدا بي، أنتَ يامن تبحث عن السعادة،
فأبحث عن وكر - تمدد فيه،
سدّ فمك وأذنيك،
أغمض عينيك، ونم، ولا تستيقظ .

*

المدينة هاء
تحل الكلام محل الأرض -
هكذا لا تظهر فيها الكلمات إلا مطفأة
بعباءة الغيب .

*

المدينة هاء
تفصل ما بين الوردة وعطرها
وتحرض الجسد على أعضائه.

*

المدينة هاء
عربة تجرها ألفاظ أنحلها السير
مكان يهمس أخباره
في أذني سجين .

*

المدينة هاء؟
ضعوا رؤوس أعدائكم على رفوف الهواء،
وأنتظروا الطير الأبابيل .

*

المدينة هاء
ذئبة تقتل كل يوم غزالة
لكي تغتسل بمسكها !

*

المدينة هاء
تغطي وجهها وتضع على رأسها قبعة،
لها كذلك أظافر خاصة
تحك بها ظهر التاريخ .

*

المدينة هاء
جسر بين العنق والمشنقة .

المدينة هاء
كثيرا رأيتها تركب نهدين
من معدن لا أفقه شيئا عن أسراره.

*

المدينة هاء
تعيش هانئة في مزمار
يعيش هانئا في طبل .

*

المدينة هاء
تحمل زمنا أعرج أبكم
يحمل تماسيح - بيوتا للناس .

*

المدينة هاء
كمثل عبارة في حرفها الأول رجل
في حرفها الأخير امرأة،
وبينهما جسر
لا من الحب لا من العمل،

* * *

ثلاث لافتات
على باب المدينة هاء

ثلاث لافتات
على بوابة المدينة هاء

1

لا وجود لشيء اسمه الحرية
وما لاوجود له، لا يحتاج إليه الإنسان .

*

2

لن تقبلك هذ المدينة
إلا إذا اقمت فيها ومعها
على بضع خطوات من جهنم .

3

تأملوا في هذا السيف :
غمده رأس
يحرس سجنا هو نفسه رأس.

* * *

المدينة ضاد

بشر يهرولون بين الكلمات يتخذون من حروفها شرايين ومن نقاطها عيونا،
أسافل تهبط في اتجاه أسافل أبعد غورا،
ظلام يأخذ شكل العرش ونور يأخذه المنفى ،
سيوف تسكن الأعناق ، ورماح تسكن الخواصر،
وحدة بين الفكر والسجن،
زمن يعارض الماء،
فضاء لا يتسع لأكثر من ببغاء، -
أقول: رأيت هذا كله في المدينة ضاد .

*

في المدينة ضاد، لا يولد الغيم من الماء، ولا من الغيم / - يولد من الحجر .
2 - الغراب نفسه في المدينة ضاد دفتر ابيض .
3- رجل في المدينة ضاد توفيت زوجته. سألنهن عنها،
قلن :
" قصرت في كفنها، فهي تستحي أن تخرج معنا " .
4- قال رجل في المدينة ضاد : " رأيت في النوم حسناتي وسيئاتي، في حسناتي رأيت حبات رمان. وكنت مرة قبيل موتي، آكل رمانا فسقطت على الأرض ثلاث حبات، لملمتهن عن الأرض وأكلتهن .
ورأيت في سيئاتي خيطي حرير كانا في قلنسوتي "

5- روى رجل آخر في المدينة ضاد " " ورأيت في نومي الناس يجتمعون حول رجل عند المسجد. اقتربت ، وسألت
من هذا ؟
- هذا رجل جاء من الآخرة إلى الدنيا، ليخبر الناس عن موتاهم "

6- وقال رجل آخر في المدينة ضاد " رأيت رجلا شاهرا سيفه، يضرب رؤوسنا. كان كلما وقع رأس ، يأخذه ويعيده إلى مكانه.
أتى إلي ، وضرب رأسي . وقع على الأرض . أخذته،
نفضت عنه التراب ، ثم وضعته بين كتفي ، وأعدته كما كان "

*

عجبا للمدينة ضاد،
كيف تجد المتسع لكي تجلس، حينا، تحت كرسي وحينا تحت قدمين .

*

أحاول بلا نجاح حتى الآن
أن أضع في فلاة كتب المدينة ضاد،
لغاية واحدة: أن أحرر الورق !

*

تحيا المدينة ضاد كأنها اللب ّ
وتعمل كأنها القشر،
يا لهذا الجدل بين عبث باطن وعبث ظاهر .

*

الضوء في المدينة ضاد
يائس من المصابيح،
والمكصابيح يائسة من العيون .

*

لا يقدر النهار في المدينة ضاد
أن يكون أكثر من سرير،
لا يقدر الليل فيها،
أن يكون أكثر من غطاء .

*

إن شئت أن تسكن في المدينة ضاد،
فلن تجد بيتا تسكنه غير الكلام - عنيت:
قفص الكلام،
وسوف يواكبك حرس خاص ينتظم في صف لا ينتهي،
أوله السماء وآخره الغبار .

*

لا تحيا في المدينة ضاد، إلا بعد أن تموت،
سلفا ومنذ ولادتك، بل قبل أن تولد:
أنت من الأسلاف !

*

للمدينة ضاد
جدران تتواطأ مع العميان
يتسربون إليها من بين النجوم .

*

يبدو الجسد في المدينة ضاد، كمثل الشجرة،
والروح ثمرة - ثمرة للفصول كلها،
ولا تكف عن السقوط ،
وأحيانا، تبدو الروح نفسها كمثل الشجرة
والجسد ثمرة للفصول كلها،
ولا يكف عن السقوط . ص 491

* * *

دفتر أيقونات

- أ-

غيّر الحبر أقلامه
غيّر الضوء أبوابه وقناديله
غيّر الظل مسرى خطاه، _
كلهم يكتبون تآبين بيزنطيا
وأنا عاشق لأسرارها
أتبطّن أيقونة
وأسافر فيها .

- ب-

يولد الليل في وردة . مرايا
تتلألأ بين الظلال. سياج
خلفه، أتلمس أقرأ أيقونةـ
وكانت
وردة من جراح
تتفتح فيها( أو تخيلتُ هذه ) ،
رايت الكتابة حمراء زرقاء
ترفل في بردة الطبيعة
كي تكون، كما يحدس الشعر، ليلا
لائقا بنجوم الفجيعة.

- ج-

أيقونة صلب:
كدتُ أموت. جراحي
تتمشى تحت نوافذ . مثلي
تتوهج حبا
لكنائس أنطاكية،
جسدي بيت للأسرار، وحزني
حبر أيقوني.

- د-

أرنو إليها _ ترى من أين جئت إلى
أغوارها،
وسرت فيها خيالاتي
هذي - هنا صور مني، وذا أثر
وهذه برك من ماء أغنيتي
محفوفة بطيور من صباباتي،-

ذكرت أيقونة كانت تعلمني
أن أصقل الأرض مرآة لقافلتي
حبا، وأن أتمرأى في مراراتي.

- ه-

في الظلال الخفيفة، عبر النوافذ
تظهر اشياؤها _
ما أقول لأشياء ايقونة؟

ما أقول عن الشيء، والشيء يبذخ في صمته،
وانا المفرّغ الشيء مما له
وأنا المالئ؟
ما أقول ، وتحت لساني
ناطق ناصح:
كل صمت بريءٌ
والكلام هو الخاطئ .

- ربما كان هو الفراغ كليا بأيقونة
هي نفسي وأشياؤها
ربما كان هذا الفراغ الخيوط التي
نسجت ثوب أحلامها .
ربما كان ضوءا عليها وضياء لها،
ربما كان جسر التآلف
ما بين أوهامها وأيامها،-

ربما كان هذا الفراغ طريقي إليها. ص 582- ....

* * *

الكتاب: التاريخ والتجربة في الكتاب1، لأدونيس
المؤلفة: الأستاذة زهيدة درويش جبور
الناشر: دار النهار/ ط 1 / عام 2001
قطع متوسط/ 288 صفحة
لوحة الغلاف للنحاتة الأردنية لمى السعودي

إعداد :
جاكلين سلام
www.jackleensalam.com / نقلا عن الكتاب2
نشرت في موقع نسابا