الشمس تعقّم التاريخ أيضاً

جاكلين سلام
( سوريا/كندا)

جاكلين سلامهل تمكنت الشاعرة "ريتا دوف" الأمريكية الأفريقية أن تجعل من الـ "بقدونس" قصيدة تاريخية وحدثاً شعرياً يفضح حدثاً إرهابياً قبيحاً في تاريخ الديكتاتوريات؟
كيف عبرت الشاعرة "ريتا جو" الكندية الأصلية-الهندية- عن ضياعها إثر ضياع لغتها الأم؟
لماذا ذهب "غوران سيميك" الشاعر المنفي من بوسنيا-يوغوسلافيا سابقاً- للبحث عن حاضره ونفسه في بحر القصيدة المضطرب بأسماكه المغتربة والمقيمة؟

باتت اللغة في عصر العولمة تعيش اشتباكات جديدة، معقدة ولا نهائية. وكما نعلم ففي البيت الواحد، قد تتواجد أكثر من لغة وثقافة، وقلما هناك بيت يحكي ويقرأ ويكتب بنفس اللغة. هناك لغة يحكيها الفرد، لغة يقرأها ويتعلم بها ومنها، لغة يحلم بها، لغة يستخدمها في المطعم.. ولاشك أن كل هذا يؤثر على طريقة تفكيره وكتابته وكيفية تأثره وتأثيره في المحيط، وقد يكون ذلك خياراً واعياً أو صراعاً للتعايش وتحقيق توازن ذاتي يخدم مدنية المجتمعات في خاتمة المطاف.
ثمة اغتراب يولد ويتعاظم منذ أن يفقد الإنسان لسانه الأول، بيته الأول. يدون الشاعر(ة) ويكتب كي يجد البيت، كي يجد الطريق إلى البيت، كي يتواصل مع الآخر، ماضيه وحاضره.
وعلى الضفة الأخرى من جناح اللاوعي تشتغل الذاكرة وتفتح ملفات الطفولة لتقول من أنا/ من أنت/من هي/من هو/من نحن/كيف نفكر، ما الذي يخيفنا، ما الذي نكرهه وما الذي يوقظ القصيدة لتعلن أبجدية شعرية على المسافة الفاصلة مابين الحرية والضحية ولسان القاتل والمقتول.

* * *

الكتابة ونبش المؤود:
في كتاب صدر عام 2003 عن النقد الأسود، مايخص الكتابة في هذا الباب وما يرتكز عليه إبداعات العرق الأسود في كندا. يعرض الكتب حوارات ومقالات تتمحور حول العبودية وانعكاسها على روح الشعوب وآدابها. يقول الكاتب والشاعر الكندي الأسود جورج اليوت كلارك: " العبودية جردتنا من لغتنا، من ديانتنا. هم قالوا: لا تعزف موسيقاك! ولكن بطريقة أو بأخرى استطاع السود استعادة الكثير من ثقافاتهم الأصلية وقوتها. ببساطة أنت لا تستطيع أن تدمر في الإنسان كل شيء. وأعتقد أن ذلك شيء يجب الاحتفاء به".

ومن خلال تتبعنا كمثال بعض حوارات الروائية توني موريسون الحائزة على جائزة نوبل، وكذلك كتابات وحوارات الشاعرة الأميركية السوداء ريتا دوف التي حازت سابقاً على لقب "كبيرة الشعراء" في أمريكا، نجد أنها ترتكز على مرجعية تاريخية وحقائق مريعة تصل حد الخرافة أو الأسطورة، ولاشك أن هذا يتطلب من الكاتب(ة) الكثير من البحث والاجتهاد والمصداقية الفنية، من غير أن يسقطها في المفهوم المسطح "للالتزام" بالقضايا الإنسانية والسياسية والاجتماعية، بل يرفعها إلى أسمى درجات الخلق الإبداعي المحتفي بقيم جمالية وروحية في التاريخ المعاصر وحيث إحداثيات الواقع متغيرة بتسارع شديد. ربما هذا جزء مما فعله أدونيس في أجزاء "الكتاب" حيث ذهب إلى تقليب التاريخ وتهويته وتعريضه للضوء.
الشمس تعقم التاريخ أيضاً.

* * *

هل تستطيع القصيدة أن تصبح أرشيفاً وتأريخاً؟
لعل هذا ما نجده حين الإطلاع على الخلفية التي جاءت منها قصيدة "بقدونس" للشاعرة ريتا دوف والتي تصور سلطة اللغة الحاكمة، والرابط بين اللسان والجذور والاقتلاع وأرشيف الكلمات الأولى التي يرضعها الفرد. هذه القصيدة جاءت في مجموعة بعنوان"متحف" وألقتها في البيت الأبيض في معرض احتفاء كبير بالشاعرة ومسيرتها الإبداعية.

نبذة عن مرجعية "بقدونس" ريتا دوف:
في الثاني من أكتوبر 1937، الديكتاتور الحاكم "تروجيللو" اخترع طريقة مريعة وخرافية في قتل السود، أعدم 20 ألف زنجياً بالساطور. هؤلاء العمال كانوا يشتغلون على الحدود ما بين هايتتي وجمهورية الدومينيكان، المنطقة الحدودية اللامستقرة جغرافياً على الإطلاق. هناك أصبح لون النهر أحمر، الشوارع والوديان في المدينة امتلأت بالأجساد البشرية الممزقة لأطفال، رجال ، نساء، شيوخ وقساوسة وذلك حين تم إجراء اختبار لغوي صوتي على تلك الجموع، بإجبارهم على نطق كلمة "بقدونس" ليتم التفريق ما بين زنوج الدومنيكان وما بين زنوج هاييتي، غير المرغوب فيهم، والذين سيعدمون. هؤلاء ستشهد عليهم لهجتهم التي اكتسبوها في طفولتهم. عندما ينطقون كلمة "بقدونس" كلمة موتهم أو حياتهم. ومأزقهم أن حرف ( الراء) على لسانهم ينقلب إلى ( لام ). وهنا تفاصيل اللفظ مكتوبا ومنطوقاً:

بقدونس بالانكليزية: parsley
في الدومينكيان يلفظ البقدونس: Perjil
أما أهالي هاييتي الأصليين فأنهم يلفظونه: pelejil

ولنا أن نتخيل هذه البشاعة الشاذة اللامعقولة لحاكم معتوه مريض كان يحكم في القرن العشرين. وتبلغ المهانة أقصاها بالنظر إلى الكيفية التي تمت بموجبها تسوية فظاعة الجريمة بأن دفع السفاح "تروجيللو" أربعين دولاراً إلى حكومة هاييتي ثمن كل رأس.
التاريخ السالف والمعاصر، شرقاً وغرباً حافل بالعار والمجازر الكبيرة والصغيرة والجرائم الفردية والدولية التي تصلح موضوعاً للقصيدة والرواية والأسطورة الحديثة...
لكن أتراها القصيدة المعاصرة ستسجل بصمات مغايرة وتترك للأجيال وثيقة إبداعية إنسانية تعكس بعض جوانب هذه المأساة- الملهاة!

* * *

القصيدة والاجتثاث القسري:
تكتب الشاعرة الروائية جانيت أرمسترونغ، الكندية الأصلية في مقدمتها للانطولوجيا التي أعدتها عام 2001 عن الشعر الكندي الأصلي المعاصر:
"حين قرأت أشعار سيرين ستمب الحارقة وخاصة مجموعته "هنا شعبي الذين ينام"، تذكرت كيف أن النظر إلى تلك الرسوم والكلمات أصابني بالدهشة وذلك للفكرة التي تحملها هذه الرموز والإشارات والتصاوير التي لايمكن أن يصل إليها إلا الهندي الأحمر والذي يمتلك قدراً من المعرفة"
هناك نجد صلة الرحم القوية ما بين الشاعر ولغته الأولى ومصائر أبناء جلدته وفي أكثر من قصيدة تتمحور حول مرارة الاقتلاع والضياع وقلق اللانتماء واللغة الضائعة.
تكتب الشاعرة "ريتا جو" عن الكولونيالية واللغة الجديدة والشعور بالانكسار والضعف أمام لغة السيد وقوانينه فتقول:
"أضعتُ كلامي/ الكلام الذي اختطفته / عندما كنت طفلة صغيرة/ في مدرستي شبنسكادي" ويؤلمها أنها تحكي وتناقش وتبدع بأكثر من لغة، ولكن "لغته" هي الأكثر سلطة وقوة، وتقصد هنا لغة السلطة/الحاكم. أيضاً يكتب " شيف دون جورج" صورة أخرى فيقول:
"الكلمات المحكية ليست كفاية/ أنا أخط الهوامش بدقة عالية/ ولا أحد يعرف من أين أتيتُ"
كي نعرف الآخر ونستوعب أمثاله، رموزه وتاريخه، كم نحتاج من المدونات والمراجعات والصبر، وكم من الممنوعات والعثرات ستصادفنا في الطريق إلى هذا التلاقح أو الحوار الحضاري المعاصر بهدف تحقيق الذات في أي مكان على وجه الأرض، بأمل التقارب مابين الشعوب بخلاف ألوانها، أديانها، طقوسها ومعتقداتها والتي تتبلور بمجملها في بيت القصيدة والرواية والأغنية واللوحة، وحيث الإبداع زبدة التجربة والمعرفة.

* * *

المنفى واللغة الجديدة:
الواقع السياسي والاجتماعي في العالم المعاصر خلق بعض المصطلحات الجديدة كقولنا منفى إجباري ومنفى اختياري والتبس علينا الشعور حيال مفردات أخرى كمثل مهاجر أو مغترب لما تحمله أو تطرحه من تأويلات، ويبدو لي أنها كلها تحمل العقدة المشتركة النفسية والمعيشية وإن تعددت السبل والمسميات والمواقع.
ومن خلال البحث عن جديد مايكتبه المهاجرون الجدد في كندا، ومن مختلف دول العالم، استوقفتني قصائد مهجرية غير عربية وكمثال أتحدث هنا عن "غوران سيميك" شاعر من مدينة بوسنيا وله ما يزيد عن عشرة كتب في الشعر والمسرح والقصة. قدم بدعم من اتحاد كتاب كندا، إثر ظروف الحرب والدمار في بلاده- يوغوسلافيا سابقاً.
عند مطالعتنا لأول مجموعة له مترجمة إلى الإنكليزية عام 2003، بعنوان"بلوز المهاجر" نجد في قصيدته تركيزاً على الاغتراب كلغة وجغرافية وتنغمس حتى الأسى في صور الماضي الموجع والمفتقد. هناك تتمحور أغلب قصائد المجموعة وعناوينها وتتقاطع في قليل أو كثير مع معاناة أي مهاجر(ة) بدءاً من مشكلة الإبتسامة المهذبة الميكانيكية ووصولاً إلى اللكنة واللهجة وإحداثيات المكان الجديد التي يخوضها الفرد كطفل كبير عليه أن يتعلم أبجدية الحياة من جديد.
تذهب القصيدة لتبحث عن الانتماء إلى شيء ما، فردي أو جمعي وتصبح اللغة أسّ الوجود والسبيل إلى جدول الحياة- حوض المعرفة. ويظهر ذلك جلياً في قصيدة له بعنوان" لهجتي"

عن مجموعة "بلوز المهاجر" للشاعر غوران سيميك، ترجمتها إلى الانكليزية زوجته اميلا سيميك. منشورات بريك بوك، 2003. ونورد فقرة منها:
" أنا أحب لهجتي ...
أنا أحب لهجتي..."
أعيد وأعيد ثانية
فقط كي لا أسأل نفسي،
من أكون أنا الآن،
هل حقيقي أنا أم فقط السمكة السوداء
التي عجز جدي عن اصطيادها.

* * *

منذ مفكرة سوزانا مودي وإلى اليوم:
يبدو لي وعلى أرض الواقع أن لا فارق ملموس بين قصيدة مهاجر أو منفي أو مغترب، أو ما اصطلح على تسميته في كندا بـ "القادمين الجدد" والذين يصبحون بالتقادم الزمني جزءا من المتحف الملون الكبير، أو حوض السمك في القصيدة السابقة. وبالعودة إلى الجذور نجد أن تاريخ الشعر في كندا، قسم كبير منه أبدعه المهاجرون الأوائل وتحضرني هنا أقدم الشاعرات الكنديات الإنكليزيات( سوزانا موودي 1803-1885) التي خاضت مع زوجها وأطفالها وقلة قليلة من المهاجرين من انكلترا، أصعب ظروف المعيشة والفقر والبرد إلى جوار الحنين إلى البيت والأهل. تركت سوزانا مذكراتها ومجموعات شعرية تؤرخ لأولى الهجرات إلى كندا وقد خصتها الشاعرة الكندية المعروفة "مارغريت أتوود" بمجموعة شعرية "جورنال سوزانا موودي" وتناولت فيها حياة الشاعرة المهاجرة "سوزانا" وتصوراتها وذلك بالعودة إلى مجمل أرشيفها وبعض صورها.

خاتمة:
وبالتوقف قليلاً أمام واقع الشرق العربي والأقصى، نجد أن هناك فظاعات كثيرة لم تتناولها القصيدة الحديثة، وعلى سبيل المثال الذي يستحق التخليد أورد: الذكرى السعيدة لـ"ختان/طهور" ابن ملك مغربي وثمن "قلفته"- القطعة اللحمية الفائضة عن حاجة عضوه الذكري- التي تمخض عنها إطلاق سراح قرابة 7 آلاف سجين في المغرب.
مأساة تلك الفتاة في إحدى قرى افغانستان، التي اغتصبها جمع من الوحوش البشرية في الهواء الطلق انتقاماً من أخيها الذي أحب فتاة غنية ومن عائلة أعلى مقاماً.
أو ربما نذهي إلى ملف قضية "زهرة الكاظمي" الإيرانية الكندية التي سُجنت واغتصبت وقتلت لأنها أقدمت على تصوير سجن في إيران. أما موضوعات قتل المرأة من أجل غسل العار أو نحر الضحية وتصويرها على شاشات التلفزيون والكاميرات الديجتال، فتلك فظاعات والكتابة عنها قد تكسر التابو الجنسي السياسي الديني، ولها أن تحدث في الشعر والرواية حين الإنعتاق من بيت الحريم ومن المسافة المحصورة ما بين الفخذين والحلمتين والسرير الغارق في مراكب ما بعد الايروتيكا.
بقدونس ريتا دوف خالد في مجموعة "متحف"، ضياع لغة ريتا جو، والقلق في لهجة غوران سيميك، يشير إلى أن الحدوث في الشارع قد سبق الحدوث في القصيدة التي نقلت الوقائع اليومية إلى الأرشفة في صندوق اللغة المكتظ بكنوزه الأبجدية، المقروء بعدة لغات ولكنات وأماكن ومصطلحات تتغير مدلولاتها وإحداثياتها مع الزمن ومن فرد إلى آخر ومن قصاصات يومية إلى أناشيد تاريخية وأساطير معاصرة.

الزمان اللندنية 2005

www.jackleensalam.com
bread_rose2@yahoo.com