
دخلت صورة المسيح المصلوب القاموس الشعري العربي بعد هزيمة 1948، عبر تجارب بدر شاكر السياب في العراق وصلاح عبد الصبور في مصر. وتردّد صدى هذه التعبيرية في إنتاج بعض كبار الشعراء على مدى عقدين من الزمن، كما في تجربة محمود درويش. امتدّ هذا إلى الشعر العامي مع صلاح جاهين، وبلغ الأغنية المصرية مع عبد الحليم حافظ في قصيدة كتبها الأبنودي ولحّنها بليغ حمدي.
في 30 كانون الثاني 1948، أطلق أحد الهندوس المتطرفين ثلاث رصاصات على المهاتما غاندي، فسقط صريعاً عن تسعة وسبعين عاما. يومذاك، كتب توفيق الحكيم في صحيفة "أخبار اليوم" المصرية مقالة قال فيها إن بطل الهند "مات مقتولا بين عشيرته كما قُتل المسيح"، وقد ثقبت الرصاصات جسده "كما ثقبت المسامير جسد المسيح". في ما يُشبه الردّ، نشرت مجلة "الصباح" مقالة موقّعة باسم محيي الدين رضا تستهجن هذا التشبيه لكونه مخالفاً لما جاء في سورة النساء: "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157). يشكّل صلب المسيح أساس العقيدة المسيحية، ولا ينفصل عن قيامته وصعوده إلى السماء. في المقابل، ينفي الميراث الإسلامي موت عيسى بن مريم قتلاً أو صلباً. بالرغم من هذا التباين الجلي، نجد في الميراث الإسلامي روايات عدة حول قبض اليهود على عيسى يتردد فيها صدى أخبار الأناجيل الأربعة وما انبثق من قصص مسيحية في القرون الميلادية الأولى، غير أن صورة المسيح المصلوب تبقى غائبة تماماً عن هذه الروايات.
صليب وأمّ حزينة
دخلت هذه الصورة الذاكرة العربية الجماعية في مرحلة متأخرة من باب الشعر، وتردّد صداها في العديد من القصائد كرمز من رموز الموت والبعث في خمسينات القرن الماضي. هكذا اتّحد بدر شاكر السياب بالمسيح، وتكرّر ذكر الصليب بشكل لافت في ديوان "أنشودة المطر". في أولى قصائد المجموعة، "غريب على الخليج"، يخاطب الشاعر العراق ويقول: "بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة/ غنيت تربتك الحبيبة/ وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه". وفي "قافلة الضياع"، يبكي فلسطين ويستحضر صورة المصلوب الجريح: "كان المسيح بجنبه الدامي/ ومئزره العتيق يسدّ ما حفرته ألسنة الكلاب/ فاجتاحه الطوفان: حتى ليس ينزف منه جنب أو جبين/ إلا دجىً كالطين تُبنى منه دور اللاجئين". من فلسطين، نعود إلى العراق في "مرثية جيكور" حيث يحضر الصليب بظلّه فوق القرية الواقعة جنوب شرق البصرة: "يا صليب المسيح ألقاك ظلاً فوق جيكور طائر من حديد/ يا لظلّ كظلمة القبر في اللون كالقبر في ابتلاع الخدود/ والتهام العيون من كل عذراء بيت لحم الولود/ مرّ عجلان بالقبور العواري من صليب على النصارى شهيد/ فاكتسب منه بالصليب الذي ما كان إلا رمزا الهلاك الأبيد/ لا رجاء لها بأن يبعث الموتى ولا مأمل لها بالخلود/ ويل جيكور؟ أين أيامها الخضر وليلات صيفها المفقود؟".
تمتزج الصور في "المسيح بعد الصلب" حيث يتحدث الشاعر بلسان بطل القصيدة، جاعلا الموت رديفاً للقيامة: "قلبي الماء قلبي هو السنبل/ موته البعث: يحيا بمن يأكل/ في العجين الذي يستدير/ ويُدحى كنهد صغير كثدي الحياة/ متّ بالنار: أحرقت ظلماء طيني فظلّ الإله/ كنت بدءا وفي البدء كان الفقير/ متّ كي يؤكل الخبز باسمي لكني يزرعوني مع الموسم/ كم حياة سأحيا: ففي كل حفرة/ صرت مستقبلاً، صرت بذرة/ صرت جيلاً من الناس: في كل قلب دمي/ قطرة منه أو بعض قطرة". تتكرّر الصورة، ويبرز معنى التضحية والفداء: "ها أنا الآن عريان في قبري المظلم/ كنت بالأمس ألتف كالظنّ، كالبرعم/ تحت أكفاني الثلج، يخضلّ زهر الدم/ كنت كالظل بين الدجى والنهار/ ثم فجّرت نفسي كنوزا فعرّيتها كالثمار/ حين فصّلت جيبي قماطا وكمّي دثار/ حين دفّأت يوما بلحمي عظام الصغار/ حين عرّيت جرحي، وضمّدت حرجا سواه/ حُطّم السور بيني وبين الإله". يعود الشاعر إلى صليبه ويختم قصيدته بالابتهال والتقديس: "بعد أن سمّروني وألقيت عينيّ نحو المدينة/ كدت لا أعرف السهل والسور والمقبرة/ كان شيء، مدى ما ترى العين/ كالغابة المزهرة/ كان في كلّ مرمى، صليب وأمّ حزينة/ قُدِّس الربُّ/ هذا مخاض المدينة".
المسيح واللصوص
نقع في ديوان الشعر العربي الحديث على الكثير من الاستعارات المشابهة. في العراق، تساءلت نازك الملائكة في "عيون الأموات": "ما الذي رامه المسيح لكي يجزى بما كان ما الذي كان منه؟". وفي ديوان "يوميات سياسي محترف"، نادى عبد الوهاب البياتي "صليب الالم"، وقال: "يا صليب العذاب! خذني حطاماً/ ويك خذني!/ إلى صليب جديد!". وأهدى الى جميلة بوحيرد قصيدة "المسيح الذي أعيد صلبه" في مجموعة "كلمات لا تموت". وفي ديوان "سفر الفقر والثورة"، استوحى الشاعر من "عذاب الحلاج" قصيدة "الصلب" التي جاء ختامها مسيحياً في تعابيره: "مائدتي، عشائي الأخير في وليمة الحياة/ فافتح لي شباك، مدّ لي يديك آه".
في مصر، برزت صورة المصلوب بشكل خاص في شعر صلاح عبد الصبور. جاءت قصيدة "عيد الميلاد لسنة 1954" في ديوان "الناس في بلادي"، وفيها استعاد الشاعر مشهد المسيح الفادي، وقال: "يا عيد، يا نبعي الكئيب، يا ذكر إنسان غريب/ حمل الذنوب عن القطيع فمات من وَقر الذنوب/ يا لاهثا فوق الصليب يكاد يسألك الصليب/ لما متّ من دون الصليب". ضمّت مجموعة "أقول لكم" قصيدة "الظلّ والصليب"، كما ضمّت نشيد "القديس" حيث مزج عبد الصبور بين "المائدة" القرآنية و"العشاء" الإنجيلي. وجاء في المطلع: "إليّ، إليّ، يا غرباء، يا فقراء، يا مرضى/ كسيرى القلب والأعضاء، قد أنزلت مائدتي/ إليّ، إليّ/ لنطعم كسرة من حكمة الأجيال مغموسة/ بطيش زماننا الممراح/ نكسّر، ثم نشكر قلبنا الهادي/ ليرسينا على شط اليقين، فقد أضلّ العقل مسرانا".
إلى عبد الصبور، كتب نجيب سرور "لزوم ما يلزم" في المجر عام 1964، وضمّت المجموعة قصيدة "المسيح واللصوص" استعاد فيها الشاعر فصول "درب الصليب" على طريقته الخاصة. في الإنجيل، يمضي يسوع إلى جبل الزيتون، ويتبعه تلامذته، فيطلب منهم أن يصلّوا كي لا يدخلوا في تجربة، ثم يجثو ويصلّي: "يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس". ينكر بطرس يسوع، ويسلّمه يهوذا الأسخريوطي إلى رؤساء كهنة اليهود. يُحاكَم المسيح، ويُصلَب بين لصّين، ويصرخ فوق الخشبة: "إلهي إلهي لماذا تركتني". يعلّق الشاعر في مطلع قصيدته: "أباه!/ تصرخ في العراء على الصليب/ والآب مشغول بعيداً لا يجيب/ عبثاً تنادي، لا حياة لمن تنادي/ أنت منذ الآن وحدك، أنت فى البلوى يتيم/ فايأس .. أبَعد الصلب ثمّة من رجاء؟/ الكأس لم تعبر، وكم صلّيت/ يا أبتاه فلتعبر/ لماذا الآب شاء/ ما كنت دوما لا تشاء؟/ لا أنت تدري، لا أنا أدري، ولا يدري أحد/ لكنَّ شيئاً واحداً ندريه: أنت الآن شاة سمّروها للخشب". يستعير الشاعر صورة إكليل الشوك، ويخاطب المسيح: "يا للهلاك/ أنصت وكفّ عن الصراخ/ الشوك غاص إلى عظام الجمجمة/ ستكون أشواك تغوص إلى نخاعك كلّ يوم". بعدها، يستحضر مشهد العشاء الأخير: "لما جلست إلى العشاء/ كانوا جميعا جالسين/ حتى يهوذا كان يجلس بينهم/ ما أكثر الأتباع حين يوزّع الخبزَ المعلّم!". ثم يتوجه مجدّدا نحو المسيح: "يا أيها المصلوب من منهم هنا؟ لاذوا جميعاً بالجحور/ واذّاك وحدك والصليب/ لا، بل هنا لصّان كلّ دُقَّ مثلك في صليب/ شكراً لهم، قد ميّزوك عن اللصوص بتاج شوك".
في ساحة النور
في فلسطين، تتحول صورة المسيح المصلوب لازمة تتكرر في عدد لا يُحصى من القصائد. على مثال السياب، يحمل محمود درويش الصليب ويتّحد بالمصلوب. في ديوانه، "أوراق الزيتون"، يستهلّ الشاعر قصيدة "رباعيات" بقوله: "وطني! لم يعطني حبي لك/ غير أخشاب صليبي!". و"في عاشق من فلسطين"، نقرأ في "شهيد الأغنية": "ما كنت أول حامل إكليل شوك/ لأقول: أبكي!/ فعسى صليبي صهوة/ والشوك فوق جبيني المنقوش/ بالدم والندى/ إكليل غار!". وفي "آخر الليل"، تبرز قصيدة "أغنية حب على الصليب" حيث يخاطب الشاعر حبيبته: "أحبك، كوني صليبي/ وكوني، كما شئت، برج حمام/ إذا ذوبتني يداك/ ملأت الصحارى غمام". تتردّد الصورة في قصيدة "إلى ضائعة": "إذا سقطت على عيني/ سحابة دمعة كانت تلف عيونك السوداء/ سأحمل كل ما في الأرض من حزن/ صليباً يكبر الشهداء/ عليه، وتصغر الدنيا/ ويسقي دمع عينيك/ رمال قصائد الأطفال والشعراء". كذلك، يختم الشاعر قصيدة "رد فعل" بقوله: "لن يبصروا إلاّ توهّج جبهتي/ لن يسمعوا إلاّ صرير سلاسلي/ فإذا احترقت على صليب عبادتي/ أصبحت قديساً/ بزيّ مقاتل".
في "العصافير تموت في الجليل"، يحضر الصليب ويتوهّج في قصيدة "قاع المدينة": "شكرا- صليب مدينتي/ شكرا/ لقد علّمتنا لون القرنفل والبطولة/ يا جسرنا الممتدّ من فرح الطفولة/ يا صليب- إلى الكهولة/ الآن،/ نكتشف المدينة فيكَ/ آه... يا مدينتنا الجميلة!". وفي قصيدة "كتابة بالفحم المحترق"، يبوح الشاعر: "وما كنت أؤمن إلاّ/ بما يجعل القلب مقهى وسوق/ ولكنني خارج من مسامير هذا الصليب/ لأبحث عن مصدر آخر للبروق/ وشكل جديد لوجه الحبيب". تأخذ صورة الصليب والمسامير طابعا حميميا في "حبيبتي تنهض من نومها": "الشمس كانت تحتسي ظلنا/ ولم نغادر قبضة الشمس/ - كيف اعترفنا بالصليب الذي/ يحملنا في ساحة النور؟/ - لم نتكلم./ نحن لم نعترف/ إلا بألفاظ المسامير!". من جانب آخر، خاطب درويش الشاعرة فدوى طوقان في "يوميات جرح فلسطيني"، واستعاد مرة أخرى صورة المصلوب على عرشه: "كان لا بد من الأعداء/ كي نعرف أنا توأمان!/ كان لا بد من الريح/ لكي نسكن جذع السنديان!/ ولو أن السيد المصلوب لم يكبر على عرش الصليب/ ظل طفلا ضائع الجرح... جبان".
جرح من الجروح
يحمل الشعر العامي قصائد أخرى تتغنّى بالصليب. عام 1961، أصدر صلاح جاهين ديوانه الأول "عن القمر والطين"، وفيه "بكائية" تقول: "نزل المسيح من ع الصليب/ نزل ونام/ في مرج دمع/ من غير قميص/ وتلج شمع/ والمجدلية تميل عليه وتنوح تنوح/ تنده عليه/ تلاغيه/ تولول/ تحضنه/ تندب عليه وكأنها بتهنّنه/ تجدل له مهده من جدايل شعرها/ وتدفنه في صدرها/ ما رضعش منها إلا جرح من الجروح". المجدلية هي في الإنجيل المرأة التي ابتليت بسبعة شياطين أخرجهم منها المسيح فتبعته، وحضرت صلبه ودفنه، وكانت واحدة من النسوة اللواتي أتين إلى القبر لدهنه بالطيب، وقد ظهر لها المسيح عند قيامته، فذهبت وأخبرت الرسل انه قام من الموت. مثل جاهين، استحضر نزار قباني هذه الشخصية في قصيدة "أصبح عندي الآن بندقية"، وفيها بدت ربى فلسطين "حزينة كوجه المجدلية". واشتهرت القصيدة بعدما لحّنها عبد الوهاب وغنّتها أم كلثوم، ولهذه الأغنية تسجيل ثانٍ بصوت ملحّنها.
اتّحدت صورة الناصري المصلوب بصورة فلسطين المصلوبة منذ نكبة 1948، وبعد هزيمة 1967، غنّى عبد الحليم حافظ على خشبة "مسرح ألبرت" هول في لندن أغنية "المسيح"، كتب كلماتها عبد الرحمن الأبنودي، ولحّنها بليغ حمدي.
النهار الثقافي- ابريل 2001