آمال نوار
(لبنان/امريكا)
نحن في عصر الغبار. حروب بشرية ضارية تتبارز عواصفها: تحرّرية، إثنية، دينية، اقتصادية، إقليمية، دولية، نفطية إلخ... وكلّها تُثير من الغبار ما يعمي جُلّ أفكارنا المُشمسة. وكي يكتمل مشهد العماء، تعوّض الأرض مربعاتها الخالية من الغبار البشريّ بغبار طبيعي: زلازل، انهيارات، أعاصير، فياضانات، براكين، أُتُنٌ تغذّيها غاباتٌ أو آبارُ غازات، خُسُفٌ أرضيّة. وللسماء أيضاً لغتها الأفصح في الإعماء: قمرٌ يغمض عينه جزَعًا ثم شمس تحذو حذوه، لأنّ المشهد في الأسفل يفجعهما.
أنا الإنسان الإنساني في هذا الرماد الكوني أقف أمام مرايا زماني المغبّشة محاولًا تبيان: ما هو عمري؟ ما هو طولي وحجمي ووزني؟ وكم من الظلال سُحقتْ في عينيّ، كم من المعاني أُتلفتْ فيهما كيما ترقّ نظرتي هكذا؟
أنا الإنسان الوردي المائل إلى البنفسجي، يجتاحني البَرْد هنا في الموقد الكوني، ولا مكان في الصميم يشبهني في هذا المكان المتشظّي. غبار البرّ يقذفني في البحر وغبار البحر يعيدني إلى البرّ، ولذا أقفُ حائراً بجذوري النَكِرة، أين أقف. ثمة في الأمازون غابات لم يصلها الغبار بعد، ولكنها أكثر دُهْمة من بلاد الغبار، وهي مرتع للأفاعي الجرسية التي ترى أفضل في دياجير الليل. أمّا أنتاركتيكا فما تزال باردة على معنى حِضْن، وإن بدأ يذوب جليدها وبعد قليل لن يبقى فيها لبطريقٍ واحد إمبراطوري أو قزم موطئ قدم.
أنا الإنسان الطبيعي المكشوف العاهات، والمعطوب في مكان خفيّ من الشخصية، أدخل الصالون العلويّ لمخلوقات الأثير، فأهيم وأغيم بين سُحُب الثرثرة الرملية وأقنعة الوجوه البلاستيكية وزقزقة الألسنة المطّاطيّة وهَفْتِ النجوم البرّاقة التي تسقط في اليَدّ رغم أنف الصَدّ. غبار الوجود كلّه يكتسحني مندفعًا من هذه الصحراء الجوفيّة التي ترتدي جِلْد الحياة الأملس. فلا نُدُوبَ ولا غَضَنَ ولا عُرُوقَ ولا عَرَقَ. جِلْدٌ فقط، بلا عِظام ولا قَوام، جِلْد يتمدّد كإرادة الضَّجر، كالدُّخان يستعرض أزياءه الهُلامية مأخوذًا بآلهة الهُيولى ذوي الغبار الكثيف. أقفُ بالأبيضِ والأسوَدِ لأنّ مواهبي كلّها على مرّ السنين بالكاد تمخّضت عن سطر لَوْنيّ واحد. ورويدًا رويدًا يفتر ذهني وتتناقص كثافتي وأكاد أتلاشى تحت السيل الاجتماعي للكلمات الهشّة. أَتِيهُ في العراء ورصيدي يتعاظم في بنك الغبار اللغويّ. ذُبابة العولمة الضخمة تنقل العدوى. فيُصاب الجميع بالمشاعر الرخوة، ويصيبني الغثيان من هذا الرُكام لتواصلٍ أجوف.
أنا الإنسان القليل اللامرئي، أمشي عميقًا في الأرض محاولًا الفِرار من هذا الغبار النووي للعصر: غبار الدَّم المجانيّ، غبار الدِّين الشيطاني، غبار الصُوَرة المؤدلجة، غبار الأيقونات العاطفية على ألواح مفاتيح الجهل، غبار دُعاة الحرب ودُعاة السَّلْم أيضًا، يليهم غبار الإغاثات بخيرياتها في الفساد. آهٍ وكيف أنسى غبار الديموقراطية! وغبارًا آخر لا يقلّ أهميّة: الغبار الصاعد من المواهب الغنائيّة. وبالنظر إلى حقل شغفي، كيف أفرّ من غبار الجوائز الأدبية التكريمية، بمحاباتها الطويلة والقصيرة والمتوسطة الضمير والعنصرية؟ غبارٌ غبار لا مجال لحصره في زوايا محدّدة في حياتنا. أحيانًا يُباغتنا على الحِبال ونحن نتسلّق جَلادة الجِبال وأحيانًا في الماء ونحن نتطهّر. ويكفي التفكير فيه لكي نتغبَّر، يكفي تعريض ظلالنا للهواء. بتُّ في أسافل الغَبْراء وهذا الهُراء ما زال يُطاردني. كيف أنجو بلُبّي؟
-----------------------
ضفة ثانية- ٧ أكتوبر ٢٠١٧