أحمد الزعبي

(قراءة في "قصائد نمت فوق الجدران")

نجوم الغانم في اللوحة الخامسة من (قصائد نمت فوق الجدران ماء السماء) توسع نجوم الغانم رقعة الصراع بين الليل والفجر أو بين الواقع المرير وحلم الجلوس فوق عرش الأميرة، وتستيقظ من جموح التحدي وكسر الأسوار لتجد الرمال وقد حاصرتها ثانية، وتلمح الغبار وقد تصاعد ثانية بكثافة، فتلجأ مرة أخرى إلى الفجر أو (الصباحات) لكنس سحب التراب المتناثرة في كل مكان .

ومثلما حاصرها الليل، يحاصرها الغبار في هذه اللوحة، وكأن زمنها القاسي قد تفرّغ لها ليذرّ غباره في عينيها فتضلّ طريقها (وتغرّر بها خرائط الطريق) مرة ثانية، تقول:

“أقتربُ بحذر الأعمى
من الرمال المتحركة للأزمنة
بعد أن صرت أتوسل الصباحات لتكنسها
. . . وحين لمحت ما يشبه غبارها يصعد
عرفت أنها كانت تُسيّج الأفق بأسوارها
. . . نسيت كم مرة ضاعت
أصابعي في تجاويفها
وكم مرة غرّرت بي خرائط الطريق”

ما أن تهدأ عاصفة حتى تهب أخرى في الطريق، وما أن ينطوي زمن مرير حتى يبدأ زمن أكثر مرارة . فالشاعرة (أو فتاتها في القصيدة) التي تقاتل على أكثر من جبهة تتلفت حولها بعدما سافرت في الحلم لحظة، فإذا أسوار الرمال تعلو من حولها، وإذا الغبار يتطاير بقسوة في طريقها وإذا الأبصار تزوغ وخرائط الطريق تضيع.

تتحسس الشاعرة جدران الرمال التي أحاطت بها، فتضيع أصابعها في تجاويفها، فتدرك أن حربها لا تنتهي، وإن ليلها المعتم الطويل قد تجسد بصورة أكثر قسوة وأكثر شراسة، حين غدا سياجاً رملياً يشدد الحصار عليها ويقذفها برياح مغبرة فتتعثر أقدامها ويزوغ بصرها، وتدرك ثانية أن زمنها وارتحالها وحربها وأحبتها وأحلامها وذكرياتها لا تشفع لها في استعادة الربيع وتجنب غبار الخريف وسقوط أوراقه، تقول:

“فتتساقط أجفاني كأوراق الخريف
وتتعثر أقدامي بأهدابها قبل أن
تصل إلى سبيل يحررها
أو كهف يخفف عنها
البكاء على نفسها
تقترب الأيام ببصيرة الأعمى
وتدوس على ما تبقى من الذكريات”

حرب الشاعرة مع زمانها وأهله متفاقمة شرسة، وهذا الزمن الموبوء يتشكل ويتخفى في صور عديدة متقلبة، فهو الليل الذي يدهمها ويمنع عنها النوم واليقظة وحتى الحلم والذكرى، وهو الذي يأخذ صورة الرمال والغبار والخريف الذي يلاحقها أيضاً في صحوها ونومها، وفي حاضرها وذكرياتها، ليفسد عليها الزمن كله، فهو (يدوس كالأعمى حتى الذكريات البعيدة)، فحرب الشاعرة حربان أو حروب عديدة وصمودها أسطوري في كل تلك المراحل والأزمنة، فجولتها الشرسة مع الليل لم يعطها حتى فترة استراحة المحارب لتتهيأ لحرب قادمة جديدة، فقد أسلمتها تلك إلى جولة أكثر قسوة مع الرمال والغبار، وتصمد ثانية وتقاتل زمناً آيلاً للسقوط، وتترنح مرات عديدة لتجد نفسها وجهاً لوجه أمام الخريف أو الموت وورقتها الخريفية تتمايل جافة ناشفة يتهددها السقوط بين لحظة وأخرى، وحين استعانت بالذكريات هاجم الخريف كل عوالمها الداخلية وذكرياتها البعيدة.

وفي اللحظة التي يكون المرء فيها بين الموت والحياة يهرب الذهن لا إرادياً إلى عوالم هادئة أو بهيجة أو غير مؤلمة كالطفولة أو الحب أو الشباب، كما يرى علماء النفس، وفي هذه اللحظة في القصيدة، حيث ترسم الشاعرة الخطوة الأخيرة في الرحلة المضنية، وحيث (الورقة الخريفية) أو الحياة بكاملها مهددة بالسقوط والموت، تفرّ الذاكرة لا إرادياً إلى عالم أقل ألماً وانهياراً تجنباً لموت حقيقي يتربص بها، لذلك تنتقل نجوم الغانم إلى اللوحة السادسة التي ترتدّ فيها إلى منطقة آمنة هادئة، كانت الذكريات فيها جميلة لتستقوي بها على لحظة الانهيار التي تمرّ بها وتهدد سقوط ورقتها الخريفية الأخيرة.

تقول نجوم الغانم في اللوحة الخامسة:

“لا أتذكر متى وضعت رأسك
على كتفي آخر مرة وقلت
أحبك
. . أستعيد الصور من صندوق الأحلام
بحثاً عنك
هل كنت هناك
أم كان ظلك”

ومثلما استقوى عنترة بعبلة (والرماح نواهل) على جسده النازف، فتذكرها ليستمد من الحب قوة وطاقة تنصره على جراحه وآلامه في هذه اللحظة العصيبة، فكذلك ترتدّ الشاعرة هنا إلى ذلك الحب الكبير من “صندوق ذكرياتها” لتستقوي به على لحظات الانهيار المفجعة التي تحيط بها ولتمنع سقوط ورقة الخريف الأخيرة في عمرها المهدد .

وتتابع الشاعرة في اللوحة السادسة والسابعة استحضار الذكريات ولحظات الحب والأحلام في حياتها هروباً إرادياً أو لا إرادياً من لحظات الاحتضار، تقول:

“الأزهار البرية التي جمعها
لتزيين عنقها
دخل على أطراف أصابعه
ووضعها عند حافة السرير
لم يكن يريد أن يوقظها”

لحظات الحب الدافئة في الماضي التي تبدو أنها من القيم الجميلة ضاعت في حربها الضروس مع زمانها ولياليه ونهاراته ورماله وغباره ومع كل انهيارات الإنسان المعاصر في قيمه ونبله وعاطفته ومسؤوليته، لكنها في هذه اللحظة الحاسمة لابد أن تفرّ إلى الزمن الجميل والحب الجميل والأزهار الجميلة التي طوق بها الحبيب جيد محبوبته ذات يوم .

وتسترسل الشاعرة في اللوحة السابعة من القصيدة في السفر إلى منطقة الأمان والدفء، فالغبار يشتد على عينها من ناحية، والذهن يتشبث بلحظات الجمال والحب الكامن في الذاكرة من ناحية أخرى، تقول:

“القمر يسير فوقنا
ويهبنا ظله
. . . القمر يشق دربه بيننا
ويذهب إلى النوم
نحن لا نستطيع”

تنسى الشاعرة لحظات هذه (الخريف) الذي يوخزها في جسدها وفي ذاكرتها، وتمعن في رحلتها إلى الماضي الجميل والحب الدافئ والقمر المضيء، الذي حين يذهب إلى النوم يظل العاشقان ساهرين، وكيف لعاشق في حضرة محبوبته أن ينام، ترى الشاعرة أن الزمن الرديء وأهله المزيفين المتقلبين لا ينامون مثل القمر ولا يتركون العاشقين لأحلامهما وفرحتهما، فيحاول الزمن استخدام سلاح آخر، سلاح الهجرة والغربة وتفريق الأحبة .

تأتي هنا اللوحة الثامنة في القصيدة لتوقظ الشاعرة فتاتها الحالمة من رحلتها في أرض الأحلام والذكريات، وتعيدها إلى لحظات الواقع المريرة المؤلمة، حيث انهدم (عش الحب) في الماضي وشردتهما المنافي وأفضى السفر بهما إلى سفر جديد والغربة إلى غربة أخرى من دون توقف، تقول:

“الشتاء الأول
يغرّر بي النوم
فتساوره نفسه أن يرحل
. . تاركاً للهجر ما شاء من الدهور
لبناء أعشاشه في شجرة القلب
. . كان ذاهباً للسفر
منذ متى وهو ذاهب للسفر
. . لم يعد يطيقني العد
الأيام بلا أسماء
والزمن يحتال
بعد الشتاء الأول
تصبح أية حركة على الدرج
ذريعة لأن تقفز الروح من مكانها”

يفترق العاشقان ويستل الزمن الموبوء سيوفه وأشباحه ليطارد الأحبة والمحبين ويبعثر مشاعرهم مع غبار الأيام، ويجفف عواطفهم مع جفاف الغربة والمنافي، فيفتح أبواب الظلمة والقهر والتيه ويغلق أبواب الفرح والحلم والأمان، وهنا (ينهدم العش) الذي كان في أول رعشة حباً طفولياً، ويتبدد الحلم الذي كان القمر شاهداً على ولادته، ليتوه المحب في (خرائط الطريق) المضللة ولتغدو الغربة سنوات وسنوات بلا حصر أو عدّ أو نهاية، تقول:

“الشتاء الثاني
القلب يشيح وجهه عن الصباح
هادياً في صندوقه
مدعياً أنه ذهب إلى النوم
. . . . انتظر
إذ لا يسعني سوى الانتظار
انتظر
فترتفع فقاعات في السهر
وتتشكل دائرة
يسقط في دائرة
تسقط في أخرى”

سنوات الانتظار المؤملة لا تنتهي، برغم كل أساليب التحايل والتشبث بانتهائها أو استغفالها أو تناسيها، فالسنوات العجاف تجر بعضها، فيصبح الانتظار محطات انتظار أخرى لا نهاية لها، وتصبح الدائرة دوائر لا أول لها ولا آخر، لتصبح الحياة لوحة مجدبة فارغة مملة بلا لون أو طعم أو حركة .

تتوج الشاعرة صراعاتها الخاسرة بلحظة الانتظار اللانهائي اللامجدي الذي يشبه فجيعة الانتظار العبثي لدى بيكيت في “بانتظار غودو” حيث تغدو الحياة كلها انتظاراً لشيء لا يأتي، وهي حالة من أزمات الإنسان المعاصر التي أورثته اللامعنى واللايقين والقلق في رؤيته للحياة بشكل عام، ولذا تنتهي الشاعرة إلى هذه الصورة التي يبدو أن فتاتها استسلمت فيها إلى دائرة الانتظار العبثي اللامجدي، تقول:

“انتظر
محتمية بانقضاء النهار
وسقوط العتمة فوق البحيرة
انتظر
لأنني اعتدت أن
أنتظر”

واضح من تكرار الانتظار وتردد إيقاعه في أعماق الشاعرة، أن الهروب من العتمة والغبار والاغتراب وآلام الزمن الرديء أصبح مستحيلاً ولم يبق إلا الانتظار الأكثر إيلاماً من الرحيل أو الموت .

وفي اللوحة العاشرة الأخيرة في القصيدة، تلخص نجوم الغانم الحكاية كلها . . . الرحلة كلها . . . القلق كله، وتبحث عن لحظة أخيرة، حكمة أخيرة تنقذ فتاتها من انهيار هو قاب قوسين أو أدنى منها، مع سقوط ورقة خريفية تترنح أمام عينيها، من وجع لا يهدأ ولا يمل ولا يكل في أعماقها وقد أفسد عليها آمالها وأحلامها، ولم يترك لها مجالاً للحظة فرح تختطفها من عصر متصدع مبعثر جاف تقول:

“الشتاء الثالث
قال لي معلمي (جستين)
اغمضي العينين
وافرشي للضوء متكأ بين حاجبيك
وعندما فعلت
قال:
لقد رفع الله الألم توّاً
فانهضي
وألقي بين يديك
رمل اليأس
الريح جائعة
دعيها تأكله وتذهب”

إن الخروج من هذه المحنة القاتلة تقتضي حكمة ما، فعلاً ما، يكون حاسماً قبل فوات الأوان، كما ترى الشاعرة، ولذلك تتخير وتختار حكمة معلمها الذي أدرك محنتها وقلقها وتمزقها وأشار إليها كيف الخلاص من الموت البطيء هذا، وكيف الخروج من قبر يحفره الإنسان وزمنه وأهله له، ويُجر نحوه خطوة خطوة دون أن يدري، وإن كان أحياناً يدري ولا يبالي . لذلك قال لها: اجمعي كل الآلام وكل الخيبات وكل الصدمات، مثلما تجمعي كل العثمات والرمال والغبار، واقبضي عليها بقوة بين يديك ثم ألقميها وأطعميها للريح الجائعة التي سوف تذهب بها بعيداً . . لتتخلصي من أثقالها الجاثمة على صدرك، وجراحها الغائرة في أعماقك، عندها سيكون (الله قد رفع عنك الآلام) و(افترش الضوء عينيك)، وعادت إلى الحياة شذرات من قيمها الجميلة الضائعة

الخليج
05/11/2011