عبد الحميد عقار
(المغرب)

إدريس الخوريإدريس الخوري واحد من ابرز كُتّاب القصة والصحافة في المغرب منذ ستينيات القرن الماضي، وإسهامه في تطوير الأدب القصصي الحديث بالمغرب متميز، ومطبوع بمياسم فنية ومعرفية خاصة، جديرة بالتحليل وانتظام إعادة القراءة والتأويل لها.
إبداعاته القصصية ومقالاته الصحافية مع ما بينهما من اختلاف في التأليف يقتضيه جنس الكتابة، تعطيان المثال البيّـــن علي ما للارتباط بين الأدب والفـــن والحياة من أهمية وتفاعل خصب، علما بأن الحضور الفـــني أو الصحافي لما هو مجتمعي أو واقعـي في كتابات إدريس الخوري، يغتني ويتعمَّق بحضور أقوي للذات ولتجربتها في ارتياد الوجود، واختبار طاقات الحدس والتخييل واللغة، واستثمارها بوعي فني متطور، ومشدود إلي التجديد والإضافة، وعي محكوم بالجرأة ووضوح الرؤية، والقدرة علي تشخيص المفارقات والانكسارات والأوهام، وما يضادُّها من روح مقاوِمَة لدي الشخصيات المتخيلة دونما حماس أو ملحمية زائفتين.
أبطاله يقاومون بما لهم من حدس ومعرفة ووجدان، لكن في حدود الأوضاع المبتكَرة من المؤلِّف، تلك التي تلهمهم قصصيا سلوكاتهم وأفعالهم ولغاتهم. إدريس الخوري حقّق في مجال القصة القصيرة تراكما معقولا، قياساً إلي ظروف النشْر، والوضع الاعتباري للكاتب بالمغرب حيث يكتب غالبا في الزمن الفائض عن الحاجة.
له ست مجموعات قصصية تتضمن 78 قصة، فضلا عن كتبه عن المكان والتشكيل والرأي: (فضاءات: كتابات في المكان، كأس حياتي: كتابات في التشكيل) التتياك السياسي ، عدا مقالاته الكثيرة في الصحف والمجلات والتي لم يتضمنها كتاب بعد.
هذا معناه أن إدريس الخوري ذو حضور ثقافي وأدبي لافت ومنتظم، ثم إنه كاتب ذو عصامية موهوبة، غذاها وطوَّرها وعمّق قدرتها علي التفرّد بإدمان القراءة، وإدمان الصداقة لأبرز الكتاب من جيله ومن أجيال أخري، وإدمان الحضور والمشاهدة والاستمتاع بما هو فني. الصداقة أتاحت له من خلال الحوار المنتظم وتبادل الرأي والتجربة فضاءً أساسياً لمواصلة التعلُّم والتكوين بثقة وعطاء متجدِّدين، وبكيفية متبادَلة. إن الكتابة وعصامية التكوين والتعلم لدي إدريس، قد اغتنت وتغذَّت بما له من ارتباط وتعلُّق وإقبال قوي علي الحياة، يقبل عليها ويلتذ بأطاييبها المادية والروحية (الآداب، الموسيقي، التشكيل، المسرح، القراءة، الصداقة)، وهي ميزة ستحصِّن أدبه القصصي ضد التجريد، وضد المثالية في آن واحد. في أدبه نزوع دنيوي حِسِّي انتقادي بنبرة يمتزج فيها الحب بالنقمة في آن واحد؟
عموما، فإعادة قراءة قصص إدريس الخوري تُمدُّنا دوما بإمكانات متجددة للالتذاذ الروحي، وللتأويل الثقافي، ولاستكناه وعي كاتب متحوِّل، بقدر حرصه علي استمرار عناصر (أو ثوابت) تأليفية من مجموعة قصصية إلي أخري يبدعها، يحرص أكثر من ذلك علي الإضافة ومقاومة الرتابة والتكرار.
تمثِّل الكتابة بالنسبة للقاصّ والصحافي إدريس الخوري همّاً يومياً، وشاغلاً متأصِّلا في الإصغاء للشخوص والحالات والفضاءات والأشياء مِنْ حوْلِه، ومتأصِّلا في تَصْويرِ ما يُصْغِي إليه إبداعاً خالصاً ومتميِّزاً.
الكتابةُ تشبهُ أن تكون قَدَرَ كَيْنونَةِ إدريس، فجاءتْ لذلك لَصيقةً بذاته وصوتِه، مشحونةً بغِنَي وُجْدانه وتجربتِه، مادةُ تأليفها ومتخيلُها منغرسان في تربة الفضاء المغربي بتشعباته وثرائه وبمباذله كذلك. ومثلما نعْرِف، فبين الكاتب والقاص أو الروائي، تمييزٌ علي قدر كبير من الصَّواب: فالكاتب بإمكانه أن يستعمل أيَّ شكلٍ تعبيري، وما يكتبه يَظَلُّ بطريقة ما مطبوعاً بفكره ورؤياه، ويكون المؤلِّف بوصفه ذاتاً جزءاً مِنْ مُؤلَّفه، وهذه هي حالة إدريس الخوري، أما القاصُّ والروائي فيقيم في الغالب علي مَسافَةٍ مِمَّا يكتُب، خالِقاً بذلك وَهْمَ الموضوعية، وما سَيُتَرْجَم أحياناً بِمَوْتِ المؤلِّف. خِلافاً لهذه الصورة المُتَوَهَّمة يظل إدريس الخوري كاتباً، لكن بِنكهَتِه الخاصة ونُسْغِه الذي يقاوِمُ التكرار، ويغذي بوعي، الحاجة إلي الدعابة والضحك حتى وإن امتزج بالأسي، ويعرِّي عبر ذلك العلائق الاجتماعية وما يلفُّها من تمثيل وأقنعة أو ما يخترقها من تبدل سلبي في الغالب. وبالقدر نفسه من التصوير والتفنن، يشخص خواء الذات واغترابها حتى وهي في حمأة الصخب والضجيج، الذات الفاقدة للمعني وللحب وللتواصل والاستقرار.
ونحن نقرأ قصص إدريس الخوري وكتاباتِه الأخرى نُحِسُّ به حاضراً فيهما معاً، يتحرَّك في ثَنَايَاهُمَا طولا وعرضا، فنصادفه وهو يضحك ويُنكِّت، ونراه وهو يَسْخَط ويَنْقَم، ونُصْغِي إليه وذاكرتُه مشتعلةٌ يَقِظَة، وحواسّه نشطة متوثِّبة، وتستمرُّ شخوصُه ومخلوقاتُه مع ذلك، وفيةً لأصواتها مُخلِصةً لنَبْرتها، فصوتُ الآخرين في قِصَصِه مُميَّزٌ وناتِئ نكاد نلمَسُه، وليس بِدْعاً أن نُعيد التذكير بأن إدريس الخوري طالما ألَحَّ تلميحاً في تضاعِيفِ قِصَصه، وتصريحاً فيما يُبْديه من آراء وتصورات، علي أن الكتابة هي معيشُنا اليومي الذي يتشكل بالتدريج، وعلي أن الكتابة عَصيّة علي الامتِلاك ما دامت تَرْويضاً متواصِلا للغة، هذا الكائن الذي يشبه علي حد تعبير إدريس نَمِرَةً شَرِسة أو سراباً.
إنها استعارة بالغةُ الإيحاء هذه التي تصوِّر الكتابةَ علي هذا النحو: الكتابة امتلاكٌ وتَرْويض، امتلاكٌ للموضوع وللأدوات الفنية الملائمة له، وترويضٌ لِلُّغة كي تُتَرْجِم فنّياً أو أدبياً، ما يُصَاحِبُ هذه الرغبة العصِّية في امتلاك (العالَم)، مِنْ تَوَتُّراتٍ واستيهامات وصُوَرٍ، والتذاذ بالتصريف اللعبي للكلام والتخييلي للوقائع والشخوص. ومن هنا جاءت الكتابة لدي إدريس الخوري ثمرةَ تَفَاعُلِ طاقتين للإدراك: طاقة الإحساس الذاتي بالعالم، بما أن الذات هي منبعُ الكتابة الأول ومجالها الخصب والمتجِّدد بانتظام. وطاقة الملاحظة والانفعال الحي بالمحيط وأشيائه وحركاته وأناسه، بما أن المحيط هو مجال التفاعل بين ما هو قصصي وما هو حياتي. إنها طاقة الإبصار والاستبصار معاً.
فكاتب القصة بهذا المعني إذن، ليس هو مَنْ يَتَفَنَّنُ في اختلاقِ الحكايات وفي صنْعَتِها فحسب، إنه بالأحرى مَنْ يَرَي ويَحْيَا ما يحكيه قبل كل شيء. فالعَيْن الرَّائيةُ توجَد لذلك في أصل المشهد القَصَصِيِّ لدي إدريس الخوري، المشهدِ الزَّاخِر بألوان الألَم والاستمتاع معاً، هذه الألوان تُغَذِّيها الاستيحاءاتُ البَصَرية والتشكيلية والنَّغْمِية، تلك التي تُسْنِدُهَا أُذْنُ إدريس الخوري الموسيقية والفنية الفذّة، فالمشهَد القَصصي المُؤَثَّثُ بالرؤية وبالسَّماع، يُضفي علي عالَم القِصة لدي إدريس، الحيويةَ، والحسِّية، والقدرةَ علي الرسم والتصوير للشخوص والفضاءات والحالات والأشياء والكلمات، إن العين التي تَرَي ما تَسْرُدُه القصة، والأُذْنُ التي تلتقط صدي ما تحكيه القصة، إن ذلك هو ما يضفي علي كتابات الخوري هذه، القدرة علي الاستعادة الفنِّية لتلك اللحظات والأجزاء المُغَيَّبَة من ذواتنا، أو تلك التي نحياها أو تعاش تحت أبصارنا لكننا نُغْمِضُ الطَّرْفّ دونها، خوفاً من أن يتفجَّرَ فينا ذلك التَّضَادُّ العميق داخِلنا بين الطَوِيَّة والعالَم.
تفجيرُ هذا التضاد الكامِنِ والمسكوتِ عنه فِينَا، هو الذي يُلْهِم قِصص الخوري موضوعاتِها ولغاتِها وقَوالِبَها. ففي فضاء التوتّر والتجاذب بين التذكُّر والنسيان، بين المُضْحِك والمُبْكِي، بين بَحْلَقَةِ العين مَشْدُوهَةً مُنْدَهِشةً ثَمِلَةً، وبين إغماضِها انكفاء أو خجلا أو ضعفا وموتاً في نفس الوقت، هنا في قلبِ هذه التأرجُحَات والتملْملاَت حيث تشتغل بعنفوان لفظي وبَصَرِي وتصْوِيري جلُّ قِصص إدريس الخوري علي امتداد رحلته الإبداعية التي ننتظر المزيد منها.
فمن حزن في الرأس وفي القلب 1973، حتى يوسف في بطن أمه 1994 ، مرورا بظلال 1977 ، و البدايات 1980 و الأيام والليالي (1982) و مدينة التراب 1988، نواجه عالماً قَصصيا متفرداً، بقدر ما يتقاطع مع العام المشترَك الذي هو مدار أجيال متعاقبة من كُتَّاب القصة بالمغرب والعالم العربي، يجتهد في أن يُشيِّد خصوصية عالمِه القَصَصي ويَحْرِصَ علي تطويره في الآن ذاته.
وباستقراء تواريخ نشر قِصص هذه المجاميع يتبين أن الكتابة لدي إدريس الخوري في تَرسّخ سيرورتِها، تُمثِّل ملتقي جيلين أو ثلاثة من الكتاب، علي أن الجيل هنا لا يُحيل علي العُمْر، بل علي لحظات التناوب والتوالد في الوعي الأدبي والجمالي تحديداً:
ـ جيل الكتّاب من موقع لحظة الوعي المنسجِم والمتجانس، المهيمن في مرحلة ما قبل الستينيات، حيث كان شاغل الكتاب هو تجاوز التقليد.
ـ جيل الكُتَّاب من موقع لحظة الوعي المأزوم والمتوتِّر، المهيمن في حقبة تمتد من الستينيات إلي منتصف السبعينيات تقريباً، وهي اللَّحْظَة التي تقترن عادة بصدمة الاستقلال وبداية انجلاء الأوهام الوطنية، وكان شاغل الكُتَّابِ فيها هو التأسيس لكتابة واقعية وواقعية جديدة من منظور انتِقَادِيٍّ بارز، منظورٍ يعيد الاعتبارَ في الكتابة للذات ولأسئلة الأنا، ويصغي بحذق وجمالية لأصوات الهامش والهامشي والمهمش علي السواء، ويُعِيدُ التفكير في علاقة الأدب بالواقع وبالإيديولوجيا وبالخطابات الأخرى.
ـ جيل الكتّاب من موقع لحظة الوعي المُتَشَظِّي، المقترن بما يمكن تسميتُه بصّدْمَةِ التثوير الراديكالي ابتداء من منتصف السبعينيات أو بعده بقليل، حيث مالَ الكُتَّاب إلي التجريب، ونحو استثمار العنصر العجائبي والسِّيرْذَاتِي والساخِر واللاَّواقعي والتراثي، باعتبارها عنَاصِرَ مُوَاجَهةٍ جَمَاليةٍ يَسْتَدعيها تَدَهْوُرُ الواقعِ والقِيم وغَرَابَتُهُما. لقد واكب إدريس الخوري هذه اللحظات وعايشها بوعي فَنّي وتجربة شخصية، كِلاَهُمَا ما فَتِئَ يزدادُ عُمْقاً وتَبَلْوُراً وانشداداً إلي نُسْغٍ خاص وذاتية متميزة.
مَدارُ هذه المواكبة وقوامُها هو الوفاء للكتابة بأسلوب واقعيٍّ حيٍّ مرتبط بالحياة ومتداخل معها: إنه أسلوب واقعي يُؤَمِّنُ للقصة أَلَقَ الحكاية، وللشخصية الحكائية القدرةَ التعبيريةَ والتصويرية، وللحَبْكَة جمال النسْج، وللفواتح وللخواتم ولحظات التناوب بين مستويات القصة القدرة علي إثارة الانتباه والإقناع وتحريك فضول القارئ، إنه أسلوب واقعي يُرَوِّضُ اللغة ليَشْحَنَها بالفكاهي والمضحك.
وبالنقمة والبَوح معاً، أسلوب مشدود إلي التصوير وأولوية المشهد حيث الحركة واشتغال الألوان والمذاق والروائح والظلال، أسلوب تأخذ معه العربيتان، العالمة والعامّية، وضعا جديدا بلا عقد.

القدس العربي
2006/07/06