حسن مخافي
(المغرب)

I

محمد السرغينيتعرفت على الشاعر محمد السرغيني ذات يوم من خريف ثمانية وسبعين. كنت أتلمس طريقي لدراسة الأدب العربي، وكان هو أحد أعمدة شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بفاس. قبل ذلك بسنوات قرأت بعض ما أتيح لي من قصائده، ولم أفهم منها شيئا. وتحولت تلك القراءة إلى نقطة استفهام كبيرة حملتها معي إلى الكلية ضمن ما حملت.
ولما جلست إلى الأستاذ السرغيني انتابني شعور بأنه لا يشبه شعره. وتصورت أن بين الرجل وما يكتب مفارقات، وجهها البارز أن شخصية محمد السرغيني كتاب مفتوح ما إن تقترب منه حتى يصير بينك وبينه ألفة. أما شعره فقد مثل لنا نحن طلبة الأدب العربي آنذاك تحديا أوصلنا إلى حافة اليأس، وكلما حاولنا الخوض في غماره، قنعنا من الغنيمة بالإياب. وبما أن الاقتراب من محمد السرغيني الشاعر كان صعب المنال فقد فضلنا عليه محمدا السرغيني الأستاذ.
ولأستاذيته صورتان: صورة الإنسان الذي كان يكن لنا نحن الطلبة القادمين من الأقاصي عطفا خاصا، جعلنا نستنجد به كلما ضاقت بنا السبل، فيلجأ أحيانا إلى تبرير أخطاءنا إمعانا في الانتصار للطالب ظالما أو مظلوما.
أدركنا في وقت من الأوقات وقد كانت الساحة الجامعية تخضع للتصنيف والتخندق أن أستاذا من هذا الطراز لا يمكن أن يكون إلا شيوعيا أو اشتراكيا على أقل تقدير. مرة تجرأ أحدنا وسأله عن لونه السياسي، فأجاب: أنا ديمقراطي.
عندما جلسنا إلى الأستاذ السرغيني وهو يحاضر أدركنا أن الديمقراطية عنده هي الحرية والتسامح والإيمان بالاختلاف والتعدد. كان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمناه منه. ثم توالت الدروس لتصب في مستقر واحد يكمن في أن السبيل الأوحد للنهوض الحضاري هو التشبث بروح الحداثة.
من هنا كان الأستاذ دقيقا في اختيار ما يدرسه. لم يكن السرغيني الأستاذ يستعمل مفهوم الحداثة في محاضراته ولكنه كان يمرره عمليا من خلال برامجه الدراسية وآراءه في الأدب والأدباء.
لقد شكلت محاضرات السرغيني مدخلا للتصالح مع شعره، دون أن يكون بينهما رابط مباشر. ومن هناك أعدنا اكتشاف السرغيني الشاعر بفضل السرغيني الأستاذ.

II

عندما نقف اليوم على التجربة الشعرية لمحمد السرغيني فإننا نستحضر تجربة طويلة وغنية استغرقت حوالي ستين عاما توجت بإصدار مجلدين ضخمين عن وزارة الثقافة في أكثر من ألف ومائتي صفحة، وسما بالأعمال الكاملة. وعلى الرغم من للشاعر نصوصا لم تظهر في هذه المجموعة، فإنها تسمح ببناء تصور عن المسار الطويل الذي قطعه محمد السرغيني منذ سنة ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف، حين نشر قصيدة "نشيد الأمواج" على صفحات مجلة "الأنيس" إلى اليوم.
تتضمن هذه المجموعة غير الكاملة من أعمال الشاعر قصائد سبق أن نشرت في منابر مغربية وعربية، يعز على الباحث الوصول إليها الآن، وقد قسمها السرغيني إلى قسمين "ما قبل الأشعار الأولى" و"الأشعار الأولى". وهو تقسيم ينم عن إحساس بتطور التجربة الشعرية لديه. فإذا كانت قصائد "ما قبل الأشعار الأولى" تفصح عن نفس رومانسي طافح يحيل على بعض شعراء المهجر موضوعا وقالبا، مما يوحي بأن السرغيني لم يبدأ بالقصيدة العمودية على غرار الشعراء المغاربة في الأربعينيات والخمسينيات، فإن "الأشعار الأولى" تنم عن بداية تشكل الرؤيا الشعرية لديه. لقد كتب أغلب القصائد المنضوية تحت هذا العنوان ما بين أربعة وخمسين وسبعة وستين. وقد عرفت هذه الفترة في تاريخ الشعر العربي بالتأسيس للحداثة الشعرية التي عبرت عن نفسها من خلال مجلة "الآداب" ومجلة "شعر" البيروتيتين، على الرغم من أن كل واحدة من المجلتين كانت تدافع عن اتجاه شعري. لقد مد الصراع بين المنبرين القصيدة العربية برصيد نظري ثر، ما زالت القصيدة العربية إلى الآن تستفيد منه.
وفي أوج ذلك الصراع بين القصيدة الرؤية والقصيدة الرؤيا، كان محمد السرغيني يقيم ببغداد، يستكمل دراسته الجامعية، وفي عاصمة الرشيد وجد نفسه محاطا بأقطاب الحداثة الشعرية العربية الكبار، من أمثال السياب والبياتي ونازك الملائكة وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم. وفضلا عن الاحتكاك بهؤلاء الرواد الذي منح تجربة السرغيني الشاب أبعادا جديدة، فإن الشاعر تشبع بثقافة تشكيلية كانت مدرسة بغداد من أنشط مدارسها في العالم العربي. إن هذا هو ما سيسم مسيرته الشعرية بما يمكن أن أسميه شعرية المكان، حيث تتحول الأمكنة في شعر السرغيني إلى مشاهد صوًَرية أعيد تشكيلها.
وعلى الرغم من محمد السرغيني لم يكن متحمسا للقومية الوجودية التي كانت مجلة "الآداب" تروج لها، وكان بذلك أقرب إلى مجلة "شعر" التي كانت تنزه الشعر عن الالتزام الذي يجعل القصيدة مشدودة بسلطة الواقع، إلا أن هزيمة 1967 شكلت نقطة فارقة في شعره أسوة بباقي شعراء الحداثة العربية.
هناك أمر يثير الانتباه في علاقة السرغيني بالنشر، فقد ظهرت له قصائد في المجلات والصحف منذ الأربعينيات، ولكن أول ديوان له لم يظهر إلا بعد ذلك بأكثر من أربعين عاما، عندما أصدر ديوانه الأول: "ويكون إحراق أسماءه الآتية" عام 1987. وبعد هذا التاريخ أصدر مجموعة من الدواوين تباعا: بحار جبل قاف 1991، الكائن السبإي و"وجدتك في هذا الأرخبيل 1992، من فعل هذا بجماجمكم 1994، احتياطي العاج و من أعلى قمم الاحتيال. فاس 2000.
تعبر هذه الأعمال عن انحياز إلى اختيار شعري ما فتئ محمد السرغيني ينميه ويطوره. هذا لا يعني أن ما سبق هذه الأعمال مجرد تجريب بقدر ما يشير إلى أن محمدا السرغيني وجد طريقة خاصة به في كتابة الشعر، تبلور خصوصية القصيدة المغربية الحديثة المنفتحة على على أفقيها العربي والإنساني. من هنا نجد القصيدة تؤثث بفضاءات الأمكنة المغربية وبفضاء مدينة فاس على وجه الخصوص، وتوظف مدونة التراث المغربي الأندلسي بشكل لا يلغي التراث العربي بالمشرق ولا يغض الطرف عن التراث الإنساني. القصيدة في شعر السرغيني حبلى بمرجعيات يطبعها التعدد، ولكنها تنصهر في بوثقة النظم الشعري بما يشبه الواحد المتعدد.
إن هذا يعكس في الواقع ثقافة الشاعر الموسوعية، وهي ثقافة تلتقي فيها عدة روافد، يطبعها التكامل ولا يفرق بينها بعد المسافة. فالسرغيني الذي يكتب بالعربية والفرنسية والإسبانية ويقرأ بالإنجليزية يسهل عليه الجمع بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، وبين صعلكة الشعراء العرب وعبثية الشعراء الغربيين بانسياب شعري يقل نظيره.
ابتداء بكتاب "وجدتك في هذا الأرخبيل" اقتحم محمد السرغيني تجربة جديدة في مساره الشعري، وذلك باعتماد شكل "الكتاب" بدل الديوان. ويختلف الديوان عن الكتاب في أن الأول يضم بين دفتيه مجموعة من القصائد التي قد ترتبط مع بعضها بطريقة لا تفقد القصيدة كيانها كوحدة تتمتع بالانفصال عن غيرها. أما الكتاب فهو عمل شعري متكامل يخضع لبناء متماسك من القصائد التي يجمعها رابط عضوي. وحسب علمي فإن أدونيس في "الكتاب" ومحمد السرغيني في "وجدتك في هذا الأرخبيل" و"دفاتر بلقيس" هما من نهجا هذا السمت في كتابة الشعر.
وبهذا يكون هذا الشاعر قد سلك في مساره الشعري الطويل كل الطرق الصعبة التي بصمت كتاباته بالتجاوز والتخطي.

III

القصيدة عند السرغيني "فكرة مبيتة" وهذا التعريف الذي استعيره منه، ينطوي على صنعة شعرية بتعبير القدماء. ولعل تأثر الشاعر منذ وقت مبكر بحداثة الرؤيا في الشعر العربي كان وراء سعيه الدؤوب من أجل قصيدة تنسج علاقة مع الوجود في وضعياته المختلفة لكي تقبض عليه. وينسجم هذا المنحى في الكتابة الشعرية مع توصيف للشعر كان ابن خلدون قد صاغه في المقدمة حين عرف الشعر بأنه علم لا موضوع له. هذا يعني أن الشعر لدى محمد السرغيني معرفة من نوع خاص، تقوم على الحدس والرؤيا وتلامس الواقع عن طريق رجع الذات. بهذا تصبح القصيدة عند السرغيني تجربة وجودية بالمعنى الأنطلوجي للكلمة. وهي تجربة لا يمكن أن تكون إلا فردية. وهذا ما يفسر تمايز شعره في أكثر الأزمنة تعميما. ففي السبعينيات على سبيل المثال كان الشعر المغربي يشكل تيارا جارفا ليقبض على الواقع بآلامه وآماله، بينما كان السرغيني منشغلا بصياغة رؤاه بعيدا عن زحم الشعارات، وربما كان هذا سببا في عزوفه عن نشر أشعاره في تلك المرحلة.
إن إصرار الشاعر على إخراج قصيدته من دائرة اليومي والواقعي، وربطها بالتجربة والرؤيا، هو بمعنى من المعاني خوض في التصوف. ومن هنا كان صاحب "الكائن السبإي" من الشعراء الأوائل الذين أدركوا هذه العلاقة المحكومة بالغموض واللذة بين التصوف والشعر. وهذا هو الملمح الأول الذي يتلمسه قارئ السرغيني.
والخطاب الصوفي هو اشتغال على اللغة قبل كل شيء، لأنه يقارب "واقعا" يستعصي على صيغ التعبير المعتادة ولذلك فإن ما يعرف به شعر محمد السرغيني من غموض دلالي يعود إلى استحالة التطابق بين واقع التجربة بالمفهوم الذي تمت الإشارة إليه وبين واقع اللغة. إن هذا قد خلق نوعا من التعامل مع اللغة يقوم على اختراق نسقها على مستوى المفردة والجملة والنص.
ومن هذه الزاوية فإن السرغيني قد أغنى الرصيد المعجمي للغة العربية، سالكا في ذلك النحت اللغوي تارة والتوليد الدلالي تارة أخرى. ولكن اختراق الشاعر لنسق اللغة يقع بالأساس على عاتق الجملة الشعرية القائمة على التكثيف والانزياحات. وهو ما يشكل عنصرا آخر من أسباب الغموض الدلالي في شعره، إضافة إلى الإكثار من ذكر أسماء الأمكنة والأعلام التي تتخذ بعدا عموديا يجعلها من صميم شعرية القصيدة، وذلك بصهرها في النسيج الصوري بشكل يعضد البناء العضوي للقصيدة.
إن محمد السرغيني يمارس كتابة ما يمكن أن أسميه "القصيدة العالمة" حيث يتحول العمل الشعري لديه إلى مزيج من المعارف والفنون، لذلك لا يمكن للقارئ فك شفرات شعره إلا إذا كان على معرفة بالفضاءات التي مر بها، وبالأسماء التي يوظفها. ولكن صعوبة شعره تنبع كما ألمحت قبل قليل إلى التوظيف المكثف للتراث العربي والإنساني، وإلى الاشتغال على اللغة.
لكل هذا فإننا عندما نتحدث عن شعر محمد السرغيني فإننا نتكلم عن مدرسة شعرية ما زالت بحاجة إلى من يكتشفها. خاصة وأن النقد لم ينصف شعر السرغيني لأن قصائده تتمنع عن المقولات والمفاهيم المسبقة. فالدراسات التي أنجزت حول شعره قليلة، وهي على قلتها لا تلامس جوهر الشعر عنده. ولعل مثل هذا اللقاء مناسبة للتحريض على قراءة شعر محمد السرغيني الذي يشكل قارة شعرية لوحده. فشكرا لمن أتاح لنا هذه الفرصة....

1 ـ أصدرت وزارة الثقافة منذ أشهر "الأعمال الكاملة" لمحمد السرغيني في مجلدين. وفضلا عن الاضطراب الذي لحق تلك الأعمال في التصفيف والاخراج، فإنها بقيت لحد الآن غير كاملة بالنظر إلى خلوها من قسم هام من أشعار السرغيني، ومن ذلك "وجدتك في هذا الأرخبيل" و"كتاب الصنائع" .


إقرأ أيضاً:-