«ريم اللواتية وزهران القاسمي نموذجاً»

ناصر أبو عون

صورةالوعي النقدي لم يزل يتعامل مع الإيقاع على أنه الأوزان بمفهومها الخليلي حتى مع قصيدة النثر العربية الحداثية وينظر إلى الشعر بمعيار النغم الخارجي!! غير أن هناك طفرة إبداعية في قصيدة النثر كسرت حاجز هذا النقد العقيم واستبدلت الوزن الخليلي ببنية إيقاعية مغايرة تماما وخاصة في شعرية الموجة الثالثة التي تلت موجة جماعة شعر البيروتية وإضاءة 77 المصرية وقد نتجت عن الجماعتين حركة مد شعرية غطت المحيط العربي من الساحل الموريتاني غربًا إلى بحر عمان شرقًا.. وعبر نصوص ريم اللواتية وزهران القاسمي يمكننا أن نستقرأ عناصر ومكونات البنية الإيقاعية في قصيدة النثر العمانية في بداية الألفية الثالثة.

الإيقاع حقيقة فيسيولوجية

تؤكد كافة الدراسات الفسيولوجية التي أجريت على الدماغ الحقيقية علمية التي تقول: إن التنبيه المتناوب للتشكيلات الموجودة تحت السرير البصري في الدماغ، تؤدي إلى زيادة في إفراز المورفينات الداخلية وبالتالي إعطاء حالة استرخاء للجسد البشري وتبين أن الاختلاف في أنماط الشخصية تعود إلى التنوع الإيقاعي الذي يحيط بالشخصية لا إلى الموروثات وأن الإيقاع بكل أشكاله الحواسي واللاحواسي التي يتم استنباطها تؤدي إلى التأثيرات نفسها في الدماغ من خلال إفراز مادة السيرتوين التي تعتبر الوسيط للتنبيهات التي تتم في البنى الشبكية لما تحت السرير البصري.
إذن فسيولوجيًا فالإيقاع متصل مباشرة بالدماغ عبر قنوات إدراكية معينة، مهمتها الأساسية السيطرة على الحالات الانفعالية لدى الكائن البشري وإن هذا الإيقاع وتأثيره على الدماغ مرتبط مباشرة بالحالة الفكرية المعرفية لهذا الكائن أو ذاك.. والبنية الإيقاعية لها مستويان مستوى ظاهري محسوس ومستوى باطني مدرك فكريا وترتبط البنية الإيقاعية في مستوييها بالبنى الكلية المحيطة وخاصة بالنية اللغوية في مجاليها النظمي والإيحائي.
ويعرف فرزند عمر الإيقاع الشعري بأنه (تنبيهات تقع بين سكونين تصل الدماغ (دماغ الشاعر والمتلقي) ليقوم هذا الدماغ على إرجاع السكينة للذات المتفاعلة (ذات الشاعر وذات المتلقي) بغرض مصالحة مع الأنا أو إعطائها قدرة على المواجهة... هذا الإيقاع الذي هو حركة الكلام في الكتابة حيث يكون على أشده في القصيدة بينما يتناهى في الخطاب النثري العلمي.

سؤال نقدي ومنهجي

إنّ الغاية من القراءة النقدية / الإبداعية لم تعد، كما يقرّر امبرتو ايكو، مقصورةً على جانبها التجريبيّ فحسب (ارتضاؤها بالاقتصار على تحقيق هدف يتمثّل فيما يمكن أن يطلق عليه سوسيولوجيّة التلقّي): ولكن إبراز وظيفة التطنيب (البناء) والتقويض (أي ما يطلق عليه النقاد الحداثيّون في شيء من القصور: التفكيك) للنّصّ الذي تتولّى القراءةُ النهوضَ بِلَعِبِهِ: بما هو وظيفة فاعلة وضرورية لإنجازِهِ كما هو
و يمكن أن نقرأ النص الأدبيّ، إذا ركضنا به في مضطَربِ التأويليّة الرمزيّة، على نحوين اثنين:

  1. بالبحث عن اللاّ محدود في الدلالات التي كان الشاعر قد ضمّنها نصّه.
  2. بالبحث عن اللاّ محدود في المعاني، أو الدلالات، (وذلك هو الذي يعنينا في تحليل مسألة الإيقاع في قصيدة النثر العمانية عند(زهران القاسمي وريم اللواتية) تحديدا، وفي كلّ الجماليات السيماءَوِيَّةِ التي نطرحها من هذه القراءة حول النصوص التي تغافل عنها الشاعرين (والتي أْنَتَتجَتْ - كذلك نريد أن نُعَبِّرَ - احتمِالاً، من المتلقّي، ولكن دون أن نعلم ما إذا كان ذلك نتيجة، أو قصوراً، عن مقصديّة النّاص).

عناصر البنية الإيقاعية في نصوص اللواتية والقاسمي

أ) الاستعارة الطرية

يرى شاكر لعيبي أن الحد بين الشعر والنثر يقع في إيجاد الاستعارة الطرية الجديدة وشحنها بالمعنى الفريد.. الاستعارة إذن هي لب الشعر كنص أدبي مكتوب تقول ريم اللواتية في نص (لعنة التفاح): (حاملا في جيب ثوبي خيبتي، وعلى معطفي الثقيل تتطفل شتاءات وتخيطها فجيعة، وإنها الجنة) أو الاستعارة المقالة بالضرورة عبر ترنيمة أودوزنة معينة تتابع حركة الإحساس الداخلي للشاعر على نحو ما نقرأ عند زهران القاسمي (ممسكاً بسلم النور، والمتدلي من الشجرة، ومُقرفصاً، وأنتظر أسرابَ الطيور، والقادمة من رحلتها الموسمية، وممسكاً ببندقيتي الهوائية، وقررتُ أنْ أوقف اللعبة) هذا الإيقاع يطلع كضرورة من داخل اللغة الشاعرة وليست عنصرًا خارجيا متعاليًا على النص جرى الإقرار مسبقًا به وهو جزء عضوي من حركة اللغة الاستعارية والمناخ المحبوك خيطًا خيطًا وكلمةً كلمةً.
تقول ريم اللواتي (كان على عَرَقي أن يعانق إثما، ووعطر تفاحة خضراء، ومعلق في رقبة الوقت، ويكبر، وينمو، ويسكب كل حواء، ويريقها على صفحة ماء أبيض، وفيخضرّ، ويصبح البحر قضمة، والمطر قضمة، ويقف كل رجال الأرض جوعى، وكلهم في غضون لحظة، ويصبح آدم).

ب) الجملة الطويلة

تعتمد البنية الإيقاعية لقصيدة النثر على الجملة الطويلة أو القصيرة كوحدة لها وعلى نماذج الإيقاع من جملة إلى جملة، بحيث يتبع الإيقاع المعنى والحافز والغاية وينسجم مع الدفقة العاطفية، وتحدده الصور بتتابع الألفاظ يكتب زهران القاسمي (هناك.. في الأقاصي، وذئب يحلمُ، وبينما عيناكِ تفتحان مرآبَ الغيب، وأيتها المرأة الوحيدة التي طافت بجوارحي، ويا ذاتَ الرائحةِ البربرية، وارحلي قليلاً، وحيث الحقول تستبد بها الشفقة).
وترى سلمى خضراء الجيوشي أن إيقاعات قصيدة النثر أطول من إيقاعات الشعر المنثور والنبر وتجاوب الأصوات وقد تحققت تلك السمة عند ريم اللواتي في قصيدته (وسواس): (لا تقل سئمتُ، وقبلك كل الرجال، ويعرفون التفاصيل، ولـ أنثى تصنع الليل، وتبيع أردية الجسد، ولـنخاسة الوعود الكاذبة، وتصنع منه عود ثقاب، وتوقد الأرصفة، وتشعل قناديل الشوارع من بقايا نُخالة)

ج) الإيقاع اللغوي

لابد أن نتفق على أن الإيقاع يتحقق في كافة مظاهر الحياة : في الحركة، الصوت، الموسيقى، واللغة ولأن القصيدة حيوات كاملة ومتولدة من رحم اللغة فإننا نشاهد هذه الحيوات تتحرك وتتنفس على بياض الورق عند زهران القاسمي عندما يكتبها حرفا حرفا (ها أنتِ تحيطك غيمة كئيبة، وبينما يخبو البريق في عينيك، واستريحي قليلا من الظعن، وضعي هذه القربة على السدرة، ونامي على قلبي الممسوخ، ولعلَّني أستطيع إغماضَ عيني، وبدون أن أسمع صراخَ ضحاياك الرهيب).
وهذا ما جعل الشاعر بول شاؤل يقرر بأنه ليس هناك كتابة دون إيقاع وأيّا كان نوع هذه الكتابة ومهما ابتعدت عن الأدب، الإيقاع موجود في كل حركة تصدر عن الإنسان سواء أكانت ذهنية أم عقلية أم رياضية أم فيزيائية اللايقاع ليس موجودا إلا في الموت).
وتواصلا مع رؤية محمود الضبع بأن الإيقاع في اللغة ليس هو الميزان الخليلي وليس تعاقب صوتيات قوية، وأخرى خافتة، وإنما هو نظام خاص للغة يتحقق من خلال الذات المتكلمة (مبدع النص) حين تقوم هذه الذات (المتكلمة) بتنظيم حركة اللغة، وهذا التنظيم إنما هو مظهر من مظاهر الكتابة.
هذا التنظيم نقرأه عند ريم اللواتي في قصيدتها (رماد): (محبط اتساعك، وحتى اللحظات المملة، والرائحة القادمة من غثيان الكآبة تنتشر، وسلّم طويل، وومسافة مسافرة، وكأنها عنق زرافة لا تنظر للأسفل، ولا يسقط من عينيها غير الليل).

د) الحس الصوتي

يقرر هنري ميشونيك بأنه إذا تغيرت نظرية الإيقاع تغيرت معها نظرية اللغة بأكملها ومن ثمّ فإذا لا حظنا تدريجيا في قصيدة زهران القاسمي قوة النبرة والصوت الصادر عن الحروف الصامتة والصائتة (بينما كنتُ أصلي، وأحسستُ كلَّ شيء يركع معي، وعندما سجدت، وكانت المئذنة تقطع الطريق، وعلى العابرين) فسنجد أنها تفلح أكثر من التفعيلة الثنائية في توصيل صعود وهبوط الكثافة الإيقاعية أو العروضية وبعض الصور البلاغية أكثر من البلاغة التقليدية).
وهذا يجعلنا نتبنى مقولة محمد عبد المطلب في أن قصيدة النثر لم تهجر الإيقاع تماما ولم تبعده عن منطقة عنايتها نهائيا فللحداثيين مناطقهم الإيقاعية الأثيرة وهي مناطق تندمج مع البنية اللغوية والدلالية اندماجا كليا وفي هذه المناطق يتدخل الحس الصوتي ليكون بديلا للإيقاع المحفوظ وهذا الحس يعتمد (الحرفية) مدخلا للإيقاع. تقول ريم اللواتي (يسارع ثوبها المجنون، ومعريا سماءها من الغيم، ويلملم أكف مائه المغزول من نسيجه الحرير، ويثمر شوكًا وكان صبيّ الحيّ يعاكسها، ويقطف من لدنّ مرورها، وثمرة ارتعاشة، ويصيب سمعها بالنبوءة الكاذبة، وأنّى لشيطان يرجم الصدر بالشهوة، وأن يبعث بوســـواس كامل النمو لـ«أنثى)».

و) الحركة الداخلية

الإيقاع في النثر يقوم على إيقاع الفقرة أوالسطر (تمرينٌ على الوجع، والسحر نيرانٌ شاحبة، وتستحضر روحَ شبقِكَ اليتيم، وحواسك قِطعٌ بالية، وعفا عليها الدرب، وبغباره وبقايا مستخدميه، وخطواتك، وإيقاع رتيب لاقتناص أنثاك، وبملامحكَ التي تود الظهور بها، وصوتك الجبلي، ولهجتك المضحكة، وخيولك الجرباء المنطلقة في المدى، وتحلمُ بهواءٍ جديد وأمطارٍ غزيرة) لاستناده بقوة إلى الفصل والوصل وذلك وفق نمط مختلف ينشئه البعد الدلالي المتعلق بامتداد النفس، والضغط النابع من تموجات التجربة والقراءة والحركة الداخلية للهجة الشعرية التي نراها عند ريم اللواتي في (رمادها): (الحق معك، وقلبك اللا محدود، وأنا الضيفة، ولا اتسع، وريش ذاكرتي بدأ بالتساقط، ومنحشرا بين زوايا نافذتك، ومختبئا، ويطل برأسه حين أغيب، ويدغدغ السلالم فتقصر).

النبضات الإيقاعية لقصيدة النثر

تتفرد قصيدة النثر العربية بستة حركات إيقاعية اشتركت فيها جميع منتوجات الشعرية العربية، وقصيدة النثر وخلّفت وراءها إرثًا إيقاعيا أكثر تأثيرا في منظومة الحداثة العربية مع بداية الألفية الثالثة.. هذا الإرث رسّخ له سيف الرحبي وترك انطباعاته تنعكس على مرآة الشعرية العربية وتختلط بمياه القصيدة ليأخذ كل شاعر منه على قدر حاجته فمنهم من اغترف غُرفة بيده ومنهم من شرب حتى ارتوى وآخر غاص في النهر حتى أذنيه.
وبالاطلاع على نصوص ريم اللواتي وزهران القاسمي رأيناها تتوفر على زخم من الإيقاع الداخلي والذي هو نفسه الإيقاع الإدراكي الفكري كما يعتقد فرزند عمر ويتبلور في عدة مفاهيم نذكر منها :

  1. مفهوم وحدة الأضداد: الاعتماد على متناقضات كثيرة (الحركة والسكون الفوضى والحرية الموسيقى وكسر الأوزان وهذه السمة تتوزّع على كافة نصوص ريم اللواتي توزيعًا تعادليًا نقرأه في هذا النص (تدحرجت، وتفاحتها، واستقرت، ومستتبة في جحر جوفي، وسقطت، وفي جريرة آدم، وانتظرتني أن أخرج عنها، وتاركا على سقف الخطيئة، ونتوء جريمة أخرى) بينما هذه الخاصية يعتمدها زهران القاسمي كثيرا في كافة نصوصه (حبلٌ للنحلة، ومشنقة جميلة، وجمهور من النمل الأبيض والأسود والأحمر، وأسرابٌ من اليعاسيب تزين صدرك، وسلاسلُ تضغط رقبتك، واوتجرك القبيلة إلى مخططها، ومصعدا للشذى، ومعراجاً للحلم).
  2. مفهوم التركيب والصياغة:
    أ) التركيب وهو أقرب إلى النظام والثبات ويشير إلى العلاقة النحوية فهو أقرب إلى الثبات أي السكون.
    ب) الصياغة وهي تشير إلى تفجير هذا النظام وخلخلة التركيب اللغوي المألوف لإيجاد بنى تعبيريّة جديدة وخلق حالة من الحركة داخل السكون وهنا تكمن قدرة الشعر على خلق لغة خاصة به.. يقول زهران القاسمي (في صدع، وعلى الواجهة، والبحرية للقلب، وتنام آلاف الأكفّ، وبأصابع مبتورة، وعلى القمة، ويتربع الخوف)
    بينما تبدو خلخلة هذا التركيب اللغوي في قصيدة ريم اللواتي على نحو طاغ تقول (إنها الأيام، ولوحته الأخيرة، وعلى جسد مكدود من الظمأ، ويكرع أثداء الفراغ، والواحد تلو الآخر، ويسقط على فراشه الريح، ويصنع تمثالا لأنثى)
  3. مفهوم التوتر وهو البؤرة الانفعالية التي لا يخضع لها الشاعر والمتلقي بطريقة اعتيادية أي كل ما يتفرع عنها من تداع وحلم وانسيابية وينشأ داخل النص من التقاطعات التي تكونت منها بنيته ومن علاقات التضاد المتمثلة بانكسار سياقه اللغوي وما يحمله إلينا من اضطراب في مفاهيم الصيغ وعلاقاتها وقيمة التوتر تأتي من كونه يساعد على تعميق دلالات النص ويعمل على تحريك الشعور عند الشاعر والمتلقي على السواء وبالتالي على التوصيل الدقيق للحالة الشعرية لدى الشاعرة ريم اللواتية عندما تقول (لعلي أُقحمك قصيدة، وطالما أورق الربيع شعرا، فهل تعترف، وصوتك يغلي!، ويا للحظ! وما أندى القهر الذي يرسم العذوبة!، وما أجمل اللوحات الساخطة، وتملأ شوارع الشك، وبالنبض الطافح التساؤل، والحق معك..، فإنه ليس اكثر من غصن أجدب).
  4. مفهوم الصورة الشعرية: وهي حركة ذهنية تتم داخل الشعور لكنها في ذاتها تعد بؤرة النص ومداره ونصوص زهران القاسمي غنية بها ؛ بل تمثل فسيفساء تغطي مساحة النص وتطغى على بياض الورق وكأنه استبدل الإيقاع العروضي في القصيدة التقليدية بالصورة في نصوصه النثرية يقول في قصيدته (عصفور صامت.. يومئ لي) : (قل لهذا العصفور الصامت، على غصن الوردة، وأن لا يعبث بسيرتي، وقل لهذه الابتسامة الواقفة، وعلى باب الخروج، وفي الممر الخشبي لمطعم يقدم المأكولات الشعبية، أن تسيل في جرعة الشاي الأخيرة، وقل لي شيئا، يشغل قلبي عن ذوبانه.

شرفات عمان- أكتوبر 2006


إقرأ أيضاً: