عاشت المجتمعات العربية حياة سياسية وثقافية صاخبة منذ مطالع القرن العشرين؛ مع البدايات الفعليّة لانهيار السلطنة العثمانية وانكفائها على نفسها، ومع انطلاقة الوعي القومي التحرري، في أوساط المثقفين العرب، الداعي إلى الاستقلال وبناء الأوطان على غرار الأمم المتقدمة. وكان لا بدّ لهذا الحراك الجديد أن يصاب بحمّى الحداثة الغربية على اعتبار أنها النموذج المتقدّم الذي ينبغي أن يحتذى. وعلى الرغم من اختلاف التوجّهات بين التراثيين والمجدّدين بمختلف انتماءاتهم وأطيافهم، إلاّ أن أفكار فلاسفة التنوير كانت حاضرة فيهم بقوّة، وخصوصاً تبنيهم لقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والحياة الديمقراطية، ونبذهم لحياة الجهل والتخلّف والاستبداد. وعلى الرغم من أن هذه القيم الجديدة لم تلق تربة صالحة داخل الأوساط المجتمعية لتنمو وتزدهر طبيعياً، إلاّ أن كونها كانت متبناة من قبل نخب متنوعة ومختلفة المشارب والأهواء، بدأ المتابع يلحظ تأثيراتها في المضامين العامة للشعر والنثر على السواء، حيث طوّر الشعراء أغراض الشعر وتناولوا موضوعات جديدة ما كانت معروفة في أدبنا القديم وكذلك في الذائقة العامة. ومن هذه الموضوعات، التغنّي بالحرية والعروبة والأمجاد القومية، والتطرق إلى جوانب اجتماعية وتاريخية يمكن إسقاطها على الواقع السياسي المعاصر. ومع هذه التوجّهات، بدأت التجربة الشعرية الحديثة تؤكّد مسيرتها نحو الاستفادة من معطيات الحداثة أملاً في إيقاظ المارد النائم منذ ما يزيد على ستمائة عام.
ومما لا شكّ فيه، أن الاتصال بالثقافة الغربية أفاد أصحاب الاتجاهات التجديدية من المثقفين الدارسين في الغرب، أو المطّلعين على ثقافته، في تطوير القصيدة نحو وجهات جديدة تبلورت من خلالها ذاتية الشاعر؛ فسعى جاداً نحو تأسيس لغة جديدة ومفارقة للغة الأمس، لتعبّر في الآن نفسه عن الوعي الفكري والإنساني الجديد. وكان لا بدّ في مثل هذه الحال من أن تصطدم هذه الرغبة المتّقدة لدى الشعراء في حائط السلبية غير المكترثة بعالم الفكر والسياسة، أو بحائط التزمّت المؤسّس على طبقات متعددة زمنياً من الاستبداد المريع، الذي دأب على تعميم الجهل، مما أصاب قطّاعات الشعب المختلفة بالشلل وضعف الإدراك.
ولكن الإيجابي في حالة الاصطدام هذه، أنها ولدت ثقافة جديدة قادرة، نوعاً ما، على التبصّر والتأمّل في هذا النتاج الكبير مما يسمّى شعراً أو نثراً. ومن هنا فإننا نعتقد أن ثقافة الاختلاف والاصطدام هي التي جددت الحياة الثقافية العربية عبر الحوارات الكثيرة للمفكرين والأدباء التي دارت في صحافة تلك الأيام. حيث أسست هذه الحوارات لوعي جديد لدى الأجيال الصاعدة التي أخذت من الطرفين المتصارعين ما تريد، وسعت بوعيها هذا لإعادة النظر في طرائق وأشكال التعبير في الأدب، والشعر بشكل خاص، ولما اقتضى الأمر مغامرة إضافية في الخروج عن الثوب الموحّد للقصيدة العربية، ونعني به تفاعيل الخليل ونظام البيت القائم على الصورة الجزئية، وجدنا بعض الشعراء مغامراً في هذا الاتجاه، وساعياً في الوقت نفسه لتدشين عهد جديد للقصيدة؛ ينسجم مع المساعي السياسية والاجتماعية الذاهبة باتجاه الحداثة. إذ لا يمكن فصل الأدب، والشعر خصوصاً، عن آليات التطوّر الاجتماعي والثقافي لمجتمع راغب بصدق في النهوض والخلاص من تبعات ركود دام طويلاً؛ كان من نتائجه الخطيرة استقرار جملة من المفاهيم المعوّقة للتطوّر في الذاكرة الجمعية لأمة بأكملها. ومن هنا فإن هذا القطار المتوقّف منذ زمن بعرباته الصدئة كان لا بدّ من قاطرة قوية تقوده نحو فجر الحرية، وكانت هذه القاطرة ممثلة بالنماذج الطليعية الأولى من النخبة المثقفة التي دأبت على قيادة القاطرة نحو منطقة الوعي الجديد؛ رغم حداثة عهدها بمثل هذا النوع من القيادة، ورغم الشوائب الكثيرة التي رافقت مسيرتها هذه.
ومن هنا فإن العودة إلى بعض تفاصيل نشوء القصيدة الجديدة في الإمارات والتوقّف عند محطاتها الأساسية، وما أفرز ذلك من تخاصم وحوارات مستفيضة، قد يضيء بعض جوانب بحثنا هذا، وخصوصاً متابعتنا لآفاق القصيدة الجديدة، ومدى التطوّر الذي أصابها، لكي نقدّم تساؤلنا الأساسي هل تمكنت القصيدة الجديدة ممن أن تثبت ذاتها في المشهد الثقافي الإماراتي كفنّ إبداعي؟ ومن ثمّ إذا كان الأمر كذلك ما مقدار تطورها في طرائق التعبير عن الواقع الجديد؟
عودة سريعة للتاريخ
لابدّ أوّلاً من تصنيف الحركة الشعرية في نسقين أساسيين كما هو الحال مع القصيدة العربية:
نسق الاتجاه التقليدي المحافظ على عمود الشعر، واهتمام شعرائه بالموضوعات التقليدية والمستحدثة في إطارها الوطني والقومي والاجتماعي، وقد عبّرت عنه ما يمكن تسميته ب "جماعة الحيرة" وشعرائها المعروفين: سالم بن علي العويس، الشيخ صقر بن سلطان القاسمي، وخلفان بن مصبح، وسلطان بن علي العويس، حيث اعتبر بعض الباحثين أن أشعار هذه الجماعة قد حافظت على الشكل الكلاسيكي كإطار فنّي ودلالي، ولكنها في الوقت نفسه مهّدت للقصيدة الإماراتية الحديثة من خلال توجّهاتها الذاتية والوجدانية من جهة، ومن خلال التعامل مع بنية النصّ التعبيرية والتصويرية كتهذيبها للألفاظ وتخفيف الإيقاعات الموسيقية وغير ذلك.
وهو الأمر الذي سوف يساعد الجيل الثاني من الشعراء الذين واصلوا مهمّة التطوير في القصيدة التقليدية بما يمكن تسميته بِ "النيو كلاسيكية" كأحمد أمين المدني، ومانع سعيد العتيبة، ومحمد خليفة أبو شهاب، وعارف الشيخ، وسيف المري وغيرهم. حيث تنوّعت موضوعاتهم ما بين الوطني والقومي والذاتي الوجداني المتأثّر على نحو ما بالرومانسية، بينما سيواكب شعراء التفعيلة الحداثة الشعرية في إطارها الوجداني والإنساني، سيما وأنهم جميعاً عاشوا مرحلة التثاقف الخلاقة عربياً وعالمياً من خلال الدراسة في الخارج أو الاطلاع على الأفكار الجديدة من خلال الكتب المؤلّفة والمترجمة، وتطوّر وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية، حيث يمكننا توصيف أصحاب هذا الاتجاه بالشعراء الذين استجابوا للمتغيرات، وسعوا إلى تطوير نصوصهم من حيث المضامين، ولكنهم في الوقت نفسه حافظوا على بنائية النصّ الإيقاعية المتمثلة في العروض الخليلي، وكأننا بهم كانوا يخشون مفارقة الوزن والقافية لئلا تصنّف كتاباتهم في خانة النثر، أو أنهم من جهة ثانية تطبّعوا بهذه القوالب الشعرية التي تلزم الشاعر ضبطاً إيقاعياً محدداً لكي يسمّى شاعراً، وفي الوقت نفسه تنسيه الكثير مما يمكن التعبير عنه من قضايا ذاتية أو إنسانية تبلورت مع زمن الحداثة على نحو أو فهم جديد لمفهوم الشعر ذاته، بحيث ما عادت مسألة الوزن والقافية تعتبر من أولويات القصيدة، وذلك نظراً للقيود الكثيرة التي كانت تقيّد الشاعر الراغب دائماً في الانطلاق إلى رحاب الحرية الواسعة والتنافس مع أندادهم في الغرب والشرق على السواء، بعدما تقاربت القيم والمفاهيم والثقافات على هذا النحو الذي نشهده اليوم، بما يمكننا توصيفه بالرغبة الصادقة في العودة إلى لغة المشترك الإنساني، عبر الانخراط في ثقافة العالم من خلال جملة قضاياه التي باتت تهمّ الجميع، وبما عبّر عنه مرسيا إلياد "إن المرء، مهما قيل في وجوده الواقعي، إنما يسترجع، في العديد من الحالات، بالصور والرموز التي يطلقها، مرحلة فردوسية تعود إلى الإنسان الأول". بدليل أن قصيدة النثر أو ما يمكن تسميته بالقصيدة الجديدة، منذ لحظة ولادتها وحتى هذه اللحظة، مازالت حاضرة في وجداننا، وهذا الحضور يعني بالضرورة استمرارية حياتها الذي نلتمسه في قدرتها على التجاوب مع المتغيرات الجوهرية التي طالت حياتنا وذائقتنا، وإعادة تشكيل هذه الذائقة طالما أننا من الأساس لم نتخذ منها موقفاً معادياً، لأنها باختصار تمنحنا إمكانية قراءة العالم فنياً وروحياً، وأعني بذلك إمكانية قراءة نصّ مدهش، تماماً ؟مشاهدة فيلم سينمائي، أو قراءة بصرية للوحة، أو سماع موسيقى الشعوب...إلخ، إذ لولا الذائقة الجمالية التي يمنحنا إياها هذا الشعر لما تمكّنا من التعايش مع كلّ هذه الفنون، التي ما زالت تنظر بدهشة إلى هذا العالم الذاهب إلى دماره بما يغصّ به بكلّ ما هو تافه وعدواني: قتل ودمار ورعب وتجويع وآلات فتّاكة تفتك بالبشر والحجر، وان وجود الشعر بأي صيغة من صيغه يعني دفع هذه القيم الشريرة، بل إقصاءها واستبدالها بقيم الحبّ الجميل الذي استوطن جسد القصيدة منذ النصّ الأوّل، فبات نبعاً فياضاً يمنحنا ما حرمتنا تقاليد الذكورة منه؟ وهو ما سنطلع عليه من خلال التجارب التالية.
في تجربة الشاعر ثاني السويدي
في مجموعته الشعرية "الأشياء تمر" سوف نلحظ أن نصوص ثاني السويدي لها حساسيتها الشعرية الخاصّة، ولها أيضاً أبعادها الدلالية والجمالية، بما تعبّر عنه من حالة صراعية خطيرة يعيشها بين ذاته الرافضة، وثقافة القوة والعنف، التي راحت تقصقص الأطراف الناتئة للهوية الإنسانية كي تنسجم مع سيرورة الفيلقة الجديدة.. سنكتشف ذلك من خلال النصوص المثقلة بحمّى الأسئلة، حيث تتفاقم الحالة وتزداد ضغطاً عليه، فيسعى جاهداً للهروب، ليس من التعقيد الحياتي كما هو ظاهر على السطح فحسب، وإنما من سجن النفس الناجم عن عدم مقدرته على إيجاد دواء شاف للجراح النازفة في أعمق أعماق روحه.
هذه الحالة المتعبة ستدفع بالشاعر لا شعورياً نحو الينابيع الأولى، كي تمدّه بالنسغ الشافي، وليتمكن من الاستمرار في الحياة والتغلب على حالة الانكسار فيقول:
"في رأس الخيمة
يمكنك أن تصطاد سمكة
وتسدّ بها جوع شعب بأكمله
وبإمكانك أن تلمع
كأساور متماسكة في يديّ متزوجة جديدة
بإمكانك أن تختار أمّك
فالشوارع لدينا مليئة بالأمهات".
ويتّضح لنا من خلال هذا النصّ المعبّر أن ردّة فعل الشاعر اتّخذت وجهة إيجابية فسارت نحو الطبيعة والأمومة، فهناك على الأقل يشعر بالطمأنينة وصفاء النفس الممزقة، فيركن إلى رومانسية عذبة تذكرنا بالرومانسيين الأوائل وأحلامهم المتقدة بعالم خال من التعقيد والحروب والاضطهاد:
"منذ اليوم
سأعلق معطفي على الريح
ليتيه منّي
كما تاه عطر البرتقال في الحقل
ما أجمل الحقل !
حين تجتمع الأفاعي والبرتقال
أيّ مغامر بإمكانه
أن يبطل عليهم لذة اللحظة
أيّ شجرة شهية تفعل بهم غير الحبّ.".
وعلى هذا السبيل من الهروب الجميل سوف تتسابق النصوص للتعبير عن واقع آخر ظلّ جميلاً وزاهياً.. ظلّ مورقاً وأخضر، الأمر الذي يمنح الشاعر مشروعية استحضار رموز أصيلة من البيئة، كي يصفع بها سطوحاً براقة ومزعزعة.. وكي في النهاية يجدد انتماءه لعالم قريب من القلب بدأ يضيع في زحمة زمان معولم، فيأتي البحر بسفنه وبحّارته أوّلاً، ثمّ تأتي الحقول والفلاحون والغيم والمطر والشجر والعصافير وغيرها من مفردات مختزنة لها حضورها في اللاوعي الجمعي، ولكن الموت أيضاً سيأتي، ومع مجيئه ستبدأ دراما تراجيدية جديرة بالاهتمام والمتابعة.
مجموعة "شتاء" لخالد البدور
"شتاء" هو عنوان المجموعة، وقد جاء خالياً من (أل) التعريف بغرض تعميم الحالة الشتوية القارة في النفس والذاكرة منذ أيام الميثولوجيا الأولى؛ عندما "أسطر" الإنسان عناصر الطبيعة ومن ثمّ نسج حكاياته عنها في شتّى مناحي الحياة: الموت والحياة، الفرح والحزن، الخوف والشجاعة، الهزيمة والانتصار. والشتاء بالمعنى الميثولوجي السائد هو "طور الظلام" وحكايات الرياح والعواصف والفوضى المدمّرة.. فصل موت الأبطال والطبيعة على أيدي آلهة الشرّ. ومن هذه المرحلة الغائرة في وجداننا الجمعي سيواظب الشتاء على حضوره في الذات الإبداعية كباعث على الخوف والوحدة والقلق؛ على البكائيات الشهيرة التي ما انفكّت حتى لحظتنا الحاضرة تعيش في وجداننا وتتجلى بشكل كبير في الأدب والفن. وليست القصيدة الجديدة بمنأى عن ذلك، بل إننا نعتقد أنها في بنيتها العامة ما انفكّت تعيد إنتاج الميثات الأولى، ولكن في ثياب معاصرة بتعبير نورثروب فراي(1) كما في "شتاء" خالد البدور الذي جثم في فضاءات نصوصه كبؤرة دلالية، دأبها أن تنتج الصور والرموز والأفكار في نسق رمزي، يعيد، إلى حدّ ما، إنتاج أسطورة "الإله المحتضر"، أو أنه على الأقل يعبّر عمّا هو قار في الذاكرة البعيدة عن هذه الأسطورة، التي تجعل من الدورة الطبيعية مرتكزاً لتأسيس الصور المجازية المستمدة من عناصرها:
"أنام
موقناً بحياة أخرى خلف كلّ ليل
لكنني
لا أعرف من أية جهة ستهبّ الرياح
أنسج أحلامي بعناية
كمن ينسج الاحتمالات
احتمالات
تشبه كثيراً
ضباب الصباح"
والشغل على الأسطورة بهذا المعنى، إنما هو شغل بدوره على الطبيعة بمختلف عناصرها من ليل جاثم في فضاء النصّ، تنضاف إليه رياح تهبّ من جهة ما تتعب النفس وتؤرّقها، فلا يبقى أمام الشاعر سوى الحلم ببزوغ فجر يخلّصه من وحدته، ولكن الفجر مع الأسف سيأتي مصحوباً بالضباب؛ سيّد المتاهة والضياع. ومن هنا فإن تشخيص عناصر الطبيعة ككائنات وتفعيل دورها في إعاقة الشاعر على الاتّصال بمن يحبّ، هو نوع من إعادة استحضار اللحظة الدرامية لموت الإله المحتضر، وبالتالي فإن هذه اللحظة المتخمة بالحزن والخوف والقلق، ستتطلب منه على الدوام التنقّل بين الأزمنة بحثاً عن حوائه الضائعة في متاهة الضباب:
"أريد أن أبكي قليلاً
فالقلب أثقل من جبل
أريد أن أبلل هذا الليل قليلاً
أن أقبلك في المنام قليلاً
حتى تنامي
أريد أن أبكي
لأني ما استطعت التذكّر
كيف.. متى.. أين
في آخر مرّة أمطرت"
فأيّ شتاء هذا الذي يأتي بلياليه، بعواصفه وفوضاه ولا يكون مبلولاً بالمطر؟! إنها حالة تدعو للدهشة، والأسى: ليل شتائيّ جاف بلا رطوبة أو مطر، إنها إذن حالة من اليباس والتصحّر تنتاب نفس الشاعر تماهياً مع الطبيعة في الخارج، وإلى ذلك فإن الحبيبة أو حواء، كما نفضّل تسميتها، حاضرة على الدوام في النصوص، وحضورها بمقدار ما يشكّل حالة خاصّة، هو في الوقت نفسه، يمكن تعميمه دلالياً كرمز عام للخير، أو للفرح، واختفاء حوّاء هنا شبيه كلّ الشبه بغياب المطر، الذي تكون نواتجه مدمّرة على صعيد الطبيعة.
وإذا كانت ميثة الشتاء وإلهها المحتضر، قد فرضت زمنها الخاص على المجموعة، إلاّ أن ذاكرة الشاعر سوف تواظب على السفر باتجاهات الزمن المختلفة التي تعايش خلالها الحبيبان، بل كأن المجموعة بأكملها نهضت بنائياً على أسلوبية التداعي واستحضار ما يمكن استحضاره من الماضي القريب أو البعيد لتتراكم صور ومشاهد كثيرة يمكننا توصيفها بأزمنة البراءة التي بدأت من الطفولة ولم تنته بعد، ولطالما وقعنا على ذكريات ترتبط بالحياة البحرية كما في نصّ "جدّي" حيث يستعيد الكثير من الرموز المكانية ويوظّفها، كما سنقع على كثير من المفردات المرتبطة بالحياة اليومية، هناك حيث السوق والقرية والمدينة والذاكرة البصرية القادرة على تزويد النصوص بالصور المختلفة لحالات البشر وهم يعيشون حياتهم، أيّ من خلال حركتهم وانتظام سلوكهم في نمط من القلق، لبحارة أو صيادين دأبهم السفر في البحر، فينعكس هذا القلق ويترك آثاره في البراءة:
"حين تحين العودة
وينعطف السراة بقواربهم
تجاه الجنوب
تاركين النهار يذوب في البحر
لا يعود في اليوم بقية
والشمس
رفيقتهم
تلوّح مبتعدة وراء السحب
سيأتي الليل إذن
لينيموا الأشرعة تحت المظلاّت
وتوقد قناديل الزيت
حول قهوة المساء
ستغفو بيوت السعف فوق
حكاياتها
إلى أن تعود الحياة غداً
ويحين رحيل آخر
لرجال السواحل السمر".
"المدفون في الهواء" للشاعر هاشم المعلّم
هكذا هم الشعراء دائماً، يباغتونك على حين غرّة كرفّة جناحي فراشة ربيعية نهضت من قلب وردة أعطبها البرد.. صرخة مولود طال انتظاره في رحم أو صدفة.. هكذا من المجهول يأتون بسبب معقول أو بلا سبب أيضاً.. يأتون بهمس أو بصخب، بغموض أو بشفافية، أو بهذيان نقّب في الأمس عن صور مفارقة في سلال الريح؛ كي يقولوا لهذا العالم الممعن في معاكسة أحلامهم ورغباتهم بأن قافلة الشعر ستتواصل بالرغم من الظلمة التي استباحت هذه البشرية الممعنة في عنفها وفي نزواتها المعقلنة للطبيعة والأشياء.. وأن الإنسان؛ الإنسان الذي يدبّ فوق هذه الأرض بقدمين حافيتين، أو على ظهر بساط الريح، ما انفكّ يعاقر غربته وآلامه فوق هذه الأرض الممعنة في قسوتها ولا إنسانيتها..
إنها صورة حقيقية للتوجّهات الشعرية للشاعر الإماراتي هاشم المعلّم، صورة ممعنة في إنسانيتها الباحثة عن حيز من الدفء لشخوصه المدفونين في الهواء، كذلك الإسكافي الذي يفترش رصيفاً في قرية وأطفاله حفاة:
"يفترش الرصيف
متوجّساً انفعالات حذاء مريض
حالماً بحقل مسامير ذهبية
ملتقطاً بين أسنانه
مثل شارع لا يستأثر إلاّ بغيابه
مملوء بعض الشيء بنهار قصير الأكمام
كسلّة خرافية من الدهشة
أو علبة تنباك.".
مما لا شكّ فيه أن كلّ نصّ ينطلق من معطيين إنسانيين أساسيين، أحدهما حسي ومباشر ينجم عن تفاعل الحواس الخمس المعروفة مع المحيط، وثانيهما شعوري يجمع الحواس المتناثرة في بؤرة واحدة(2)، حيث في هذه البؤرة تتفاعل الأشياء فتنتج معرفتها وصورها وأوهامها المختلفة، وكلّما كان هذا التفاعل قوياً كلما تمكّن الشاعر من التعبير عما يودّ قوله، ومن هنا فإنه ليس عن عبث أطلق مصطلح عاطفة الشاعر باعتبارها الأرضية الأولى لكلّ قول أو سلوك يصدر عنه، وقارئ هاشم المعلّم سيلحظ هذا التناغم بين المدركات الحسية والشعورية، حيث نلتمس الكثير مما يعبّر عن هذا التفاعل سواء على الجانب الذاتي أو الإنساني العام، في شكل نصّ شعري له خصوصيته وفرادته حتماً، ومن هنا، فإنه لا بدّ للنقد أن يتوقف ملياً أمام إدارة هاشم المعلّم للغته ولعالمه بما يمنحه هذه الخصوصية المتمثّلة في كلام مرسل أو مبثوث في الهواء لقارئ مجهول، كي يشعره بما يشعر ويحاوره في الموقف من هذا العالم المزدهي بإشراقه وياسمينه، أو الممعن في ضلالته، باعتبار أنّهما كائنان قادران على التكلّم كما عبّر مارتن هيدغر؛ كقدرة بشرية تحدّد صاحبها، أو كمسكن يقيم فيه، وعلينا نحن أن نتأمل محتوياته(3) بيت شفّاف كقلب الشاعر صياد اللحظة، أركانه: الحرية والحبّ والإخاء الإنساني:
"ولا مجال للندم
فحبيباتنا القرويات
سيأتين...
بعيونهنّ الزبرجدية
وكأنهن خبز القربان المقدّس
وعلى عتبة العمر المهترئ
سيغسلن سجادة نهارنا الرمادي
وبين الحين والآخر
سيلوّحن بفواكه ميتافيزيقية.".
في تجربة الشاعر إبراهيم الملاّ
الجديد في نصوص "إبراهيم الملاّ" ليس طرافة الموضوعات ولا رشاقة الصور فقط، وإنما تجاوزه لغة تشرنقت حول الذات والتغني بأمجاد لم تصنعها، نحو لغة تفتح قلبها ووجدانها للزمن الجديد الحافل بكلّ ضروب المعرفة الراقية التي أنتجتها حداثة تأسست على العقل التحليلي النقدي. وشعر إبراهيم بهذا المعنى سيكون غنياً بتجربته الإنسانية، وتعبيراً عن حالة فائقة الإحساس بالعالم والذات والأشياء، وبذلك فإنه ليس عبثاً أن يتّجه الشاعر للأمومة كي يقحمها في مواجهة مع الطبيعة، فالأم حامية للطفولة على الدوام وهي إلى ذلك امرأة وشريكة الرجل في الحياة، والشاعر في جميع نصوصه لن يخاطبها إلاّ عبر هذا الوعي الجديد سواء عبر اللغة الخالية من التعالي والدوران حول الذات، أو عبر خلفيته الفكرية الذاهبة إلى شفافية إنسانية راقية، والقارئ لمجموعته "صحراء في السلال" سرعان ما سيلاحظ تصميم الشاعر على تصدير نصّ مدروس تتضافر فيه سائر الخصائص الأسلوبية للنصّ الجديد، أسلوب يمكن وصفه بأنه يخلو من أساليب الإنشاء وصيغ الأمر المتعالية، ويتّسم بالعفوية والتلقائية الذاهبتين في الإخبار عن لحظة سردية قد تنشغل بالحياة اليومية، ولكن دون تكلّف، بعبارة موحية وذات دلالة تتوغل عميقاً في الداخل الإنساني، وهي إلى ذلك شفّافة تماماً، ومشحونة بعاطفة حارة تنسجم والتوجه الفكري للشاعر. وبالطبع ليس قصدنا من شعرية الحياة هنا هو إتخام النصّ بالمفردات اليومية أو بمستهلكاتها، على الرغم من أهمية ذلك، وإنما العلاقة بين الأنا والآخر، بين الأنا والآخرين.. هؤلاء الذين يعيشون معنا كمجتمع أو كنخب وغير ذلك، ونحن إذا كنا قد أشرنا إلى جانب من علاقته مع الآخر، إلاّ أن ما يلفت النظر في تجربة "إبراهيم الملاّ" الشعرية، أنه سيكشف عن جانب رائع من خطاب يعبّر به بضمير الغائب المفرد(هو) أو الجماعة (هم)، أو بألف التثنية بحيث تغيب أنا الشاعر كلّياً فيظلّ واحداً من هذا الكلّ، ومن النسق الأوّل سنكتفي بإيراد قصيدته الرائعة "عينا تشي غيفارا" حيث يقول:
"بيديه الناعمتين
يفرك الألم
الغبطة كما هي: لامعة
ولا خوف على الغد من تناثر الضوء
أو اختفاء الأشجار من الحديقة.
لاشيء لديه
يسقي نبتة الدار ويقول:
غداً سيخونني ظلّ
ويكون مقامي
كمقام السراب
غداً سأترك قبراً عالياً
للملائكة والسنونو
لاشيء أكثر من ذلك
تبقى الخديعة لامعة
مثل ناب الذئب
وندى الشوكة..
غداً وبلا ترتيب
سيستضيف موتى تأخّروا
وضيوفاً تحجّروا في الممر
سيهيئ نهاراً تالفاً
وحكايات زائدة".
ومن النسق الثاني.. النسق المصدر بضمير الجماعة الغائب، فإننا سنقع على قصائد كثيرة:
"غبارهم على العتبة لم يزل
طاهراً
كأحداق السنونوة نقول: إنهم أصدقاؤنا
لأنهم هجروا البيوت
وتركوها لمبيت فاخر
لنزهة رياح زرقاء
للتغريدة النادرة.".
أو كما في قصائده "فجر"، "أطياف"، "الذاهبون"، "جنازات"، "شتوة".. وغيرها، الأمر الذي يؤكّد وعي الشاعر وسعيه على أن يكون جديداً دائماً، ومن هذه القصائد جميعاً سنتوقف عند قصيدته "الذاهبون" التي تعبّر عن أجواء ملحمية وفضاءات رثائية مدهشة:
"كأنهم لم يرثوا سوى الحافة
وأطالوا سهوهم
حتى الدخان
كأنهم ذهبوا في الأشياء
حتّى داهمتهم الدراية
اقتسموا لليلة الجهات كلّها
انتبهوا لظلالهم اليابسة كالمراثي
وأنهم أصبحوا أقرباء للبحر".
في مجموعته "تركت نظرتي في البئر" سيواظب الشاعر على التعبير بشفافية تتغلغل عميقاً في الوجدان، بما تبثّه من شاعرية عذبة قابلة للقراءة بما تمنحه من قابلية التفاعل مع النصّ المرسل، أو بإمكانية التأثر والانفعال؛ بما يقدمه من أخيلة تشبه على نحو ما عملاً فنياً باهراً، يسمح لك بتأمله أو بإعادة تشكيله وفق ذائقتك، واشتعال الأرواح فيك:
"عميقاً يرحل
قاربنا المحمّل بالضباب
لذكرى العتبات الهابطة في الماء
بعيداً وعميقاً
مثل بكاء الزيزفون
في النظر المعطّل لعصفور
هناك
حيث شعرك
على الحياة المذهبة يفيض
هناك.. نغيب
بعيداً وعميقاً
مثل موتى بشفاه ضاحكة"
وبهذا المعنى فإن قصائد إبراهيم ستكون على الدوام غنية بتجربته الإنسانية المستمدة من ثقافة منفتحة على العالم الجميل، ذلك العالم الذي هندسه طويلاً الحالمون من الكتاب والفنانين والشعراء، وربّما هو أحد أسرار هذه الخصوصية التي لم تعد تنظر إلى المرأة، إلاّ بكونها امرأة معاصرة يمكن الاشتراك معها في حياة جديدة خالية من كلّ تعقيدات الذكورة، وتنظر إلى العالم، في الوقت نفسه، على أن يكون أكثر إنسانية؛ عالماً جديداً خالياً من العنف وضرائبه الباهظة، وهو الأمر الذي التمسناه في مجموعته الأولى أيضاً، حيث إن المرأة ليست هي الحبيبة القديمة التي تستوطن ذاكرتنا الجمعية، وخصوصاً تلك الأشعار الذاهبة في تفاصيل الجسد المكوّر أو غير المكوّر، وإنما هي من تتغنى النهارات والشموس بها، وهي كالأرض الخضراء خيرة أبداً، ولا تعرف اليباس؛ البيت يمتلئ بها ومشغوف برائحتها، والكلّ حريص على محبّتها:
"كمن يختفي في غابة
أو ليل
كمن يضلل الأنهار
ويهدأ في العري
تأتين أنت فقط
مثل جنون الحبّ
خضراء وعريقة
تشبهين جبالاً من عدم".
وتأكيداً على نهجه المعني بالزهر والعطر، يتّجه الشاعر لإضاءة الروح في جسدها، لكي يخفف من وطأة الإرث الذي أدمناه في الوصف والتشبيه، وفي تحرّي مواقع التصعيد الحسّي دوناً عن سيرورتها الإنسانية، ودوناً عن آمالها وأحلامها في التعايش مع الآخر، ودوناً عن عدوانية اقتضتها أزمنة وأزمنة.. ستكون المرأة في نصوصه ندّاً للطبيعة في قدرتها على العطاء ومحو العتمة عن روح الشاعر:
"كيف لي إذن أن أكلّم الغيمة
فتسدل خيوطها القديمة
واهتدي "بأصفهان"
بامرأة تخاطب الشموع وحيدة
فلا يطلع على المدينة نهار
كيف لي
والراعي الوحيد
يقود الفجر
إلى مسكنه
ولا يخرج
إلا ويداه مليئتان بالحقول".
وفي هذا الصدد فإن المرأة ستندمج مع عناصر الطبيعة في مسألة الإحيائية ويمكن رصد ذلك في أكثر من نصّ، بل إنه من النادر أن تقرأ نصاً من نصوص المجموعة لا تلتمس فيه مثل هذا التداخل الذي يشير على الدوام إلى خلفية النصوص الناهضة على رومانسية تخصّب النصّ بمزيد من رموزها ومعطياتها، ويمكننا إلى ذلك توصيفها بالرومانسية المستحدثة، التي تعيد صياغة ذاتها عبر الصورة والمشهد على نحو جديد.
أما الجانب التعبيري، فإن لغة إبراهيم الملاّ كما من حيث مستوياتها البنائية والرمزية والدلالية ستعزز هذا التوجّه دائماً، بما يمنح القارئ أو الدارس إمكانية رصد التفاعلات التي تولّدها المعاني والصور والرموز، ومتابعة الإحالات المجازية. سواء في التسمية "تركت نظرتي في البئر" أو عبر مقابلتها بالصحراء كحالة نقيض، وكأن هذا الموضوع تحديداً كان يشغل الشاعر منذ مجموعته الأولى "صحراء في السلال". إلاّ أن دلالات الصحراء في قصائده الجديدة تتجه في عمومها نحو: المتاهة والخواء والاغتراب؛ والصحراء بذلك قد ترمز إلى النفس المتصحرة أيضاً كطبيعة كلية مضادة للطبيعة الخضراء التي كان من قبل قد احتفى بها، فهي تغالبها باستمرار وتسعى للقضاء على عناصرها من نبات وحيوان وإنسان ومياه، وكذلك هي الذات الإنسانية الخاوية من الحبّ الذي معادله المياه في الطبيعة، أشبه بصحراء لا نبات فيها، نفس عدوانية كارهة وقاسية، الحبّ والأشياء الجميلة فيها مفتقدة، أو منفية ومغتربة، وذلك لأنها عاجزة عن التفاعل لافتقادها المحرض الأساسي، وبذلك فإن كلّ الأشياء ستذهب إما إلى الموت، أو إلى المنفى، وهذا ما عبّرت عنه قصيدة "لا أحد" حيث يقول مخاطباً ذاته:
"في الصحراء امتداد الحنجرة
لا صوت يرتطم
وحدك في هاوية النظر تغوص
وحيداً تغوص في هاوية الممشى
لا أحد
في التسكعات المشرعة
وأنت: الوردة المتحجرة
على فم مقفل
الصرخة لا تكتمل.".
وتذهب اللغة الشعرية مستفيضة في شحن المعاني لتحيل إلى أشياء وأشياء في نسيج تتكامل فيه عناصر النصّ صوراً وإيحاء وظلالاً ورموزاً وإيقاعاً، ونعتقد انه من نافل القول أن نتوقف عند كلّ عنصر من هذه العناصر لتوضيح فنياته البالغة الدقة، وكأن ثمة مخرجاً سينمائياً عمل بدأب على تجميع عناصر مختلفة، ومن ثمّ قدّمها في مشهد حافل بالضوء والألوان والحركة وتراسل الحواس، لأناس معذبين فوق هذا الحيّز، فتابعنا عذاباتهم الإنسانية عبر تواتر الصور وهذه بعض نماذجها:
"ببطء ننكسر
في جيوبنا ما تبقى من عاصفة
وعلى جباهنا تلفّ الرياح... ظلالنا مثل مياه تمضي
أسماؤنا الجافة تركناها لزوبعة
أغنياتنا تحرث في ضباب
تركنا شموعاً على البحر
وغيوماً في الخزائن
ما لمسناه صار تراباً
وما قبّلناه تصدع
أفلتنا زهرة سوداء في الغدير
وجعلنا الآباء يطلقون الأمل
كنسنا الطفولة من الصور.."..
وختاماً، لابدّ من التنويه إلى أن هذه الدراسة لم تتعرض إلى كثير من شعراء قصيدة النثر الذين لهم تجاربهم المتميزة، إلاّ أن الحيز المتاح اقتضى أن نكتفي بالنماذج التي قدّمناها، على أمل أن نفيهم حقّهم في دراسات لاحقة.
الخليج الثقافي- 2004-10-04