تجسد قصيدة النثر الأداء الإبداعي في خروجه المستمر من مقولات النوع و الذات و اللغة المقبولة ذات البعد الخطابي الواحد في عملية الاتصال المعقدة، و التي تطرح إشكالياتها في الساحة الثقافية حتى اللحظة الراهنة، دون قبول كامل للشكل التحويلي للدلالة أثناء القراءة، ومن ثم حل الفواصل بين الأداء النصي و أداء القارئ، و لكن قصيدة النثر العربية المعاصرة قدمت أكبر تحد لنموذج القراءة القديم، لأنها لم تختزل في خطاب و لم تنسب نسبة كاملة إلى تيار الحداثة و ما بعدها، فهي منتجة لما يستبق أي طبيعة يمكن أن ترد إليها و للتحول من تلك السمات التي ميزتها في نص بعينه أو جيل إلى ما يتجاوزها إلى غيرها .
لقد أفادت قصيدة النثر من تحرر الكتابة الأوتوماتيكية اللاواعية عند بريتون و غيره، لتجسد الاستبدال و التكثيف في عوالم الحلم، و من ثم فقد وضعت القصد موضع الشك، ثم تجاوزت اللاوعي ضمن إطار الذات في اتجاه أسبقية التداعيات النصية المميزة للرسالة الشعرية دون غيرها، فارتفعت عن آليات اللغة الاتصالية التي تختزل الإنسان و العالم في مدلولات محدودة، لقد خرج النص عن مركزية الصوت الشعري و صار الوعي المتعالي منتهكا وفق كريستيفا و بارت من داخل بحثه عن خصوصية شعرية .
وقد صار توتر الاسم و علاقة النص بالصوت موضوعا لكثير من قصائد رفعت سلام في (إلى النهار الماضي) و (هواء قديم) لمحمد سليمان و غيرهما.
وقد نلاحظ أن الخروج من الشعرية الذي بدأ بانتهاك الوعي التعالي يستبدل إطاره الفلسفي و ينتج كتابة لعبية ملتبسة بالوجود الواقعي / السيري بوصفه إكمالا للنص و الأسطورة على حد سواء، و انتشار الأطياف التي تجمع بين الوجود و الغياب معا، ثم التأويل الأنثربولوجي للإنسان خارج نطاق خطاباته الأولى، و الإعلاء من تفتيت المركز و الكشف عن ألعابه المحتملة في تجسدات الأشياء الصغيرة خارج سطوة المنظور و النزعة الإنسانية برمتها، فلهذه الأشياء طاقة تكوينية خاصة تؤثر في قراءة المشهد و تعيد إنتاجه ضمن تفاعلها المتجدد بالعناصر التراثية و الإنسانية دون مركز، والكشف المتجدد عن نوازع التدمير الغريزية عند فرويد أو الديونيسيوسية لدى نيتشة ثم الاستبدال اللامتناهي عند دريدا في الكتابة الأولى، والشك في الآخر المخبر عنه في النص، و في مركزية الوعي الراصد الذي صار قارئا في بعض النصوص لا منتجا مثل نصوص ذاكرة الوعل لفريد أبو سعدة، و القارئ / المبدع وفق هذا التصور يجمع بين الأسطورة و الواقع و ما فوق الواقع و النصوص الثقافية المجهولة و المعلومة خارج أي سياق معرفي، و لكنه سياق تأويلي متغير يناظر إشارات هيدجر و جادامر و بول ريكور، و عند هذه النقطة من الممارسات النصية المتجاوزة للمدلول و الواقع و المنطق الإنساني المركزي في التفكير تتحول قصيدة النثر من الحداثة و الحداثة العليا إلى ما بعد الحداثة و ما بعدها ضمن صيرورة الخروج و التجاوز التي بدأت منها .
وبهذا الصدد أتفق مع الدكتورة ماري كلاجيز Mary klages في أن ما بعد الحداثة لا تأسف من أفكار التجزؤ و تفكيك المركز ؛ ذات أو نص، خلافا للحداثة Modernity التي تقرن انعدام التوافق الذاتي بالأسى (1) .
هكذا يكون التناقض و الانتشار الخارج عن المدلول الأول مقبولا و يؤسس لقارئ منتج جديد، أو مؤول لا يبحث بالدرجة الأولى عن ما يدور في مخيلة المؤلف، بل يشارك فيما يسميه هارولد بلوم بالقراءة الضالة المبدعة ضمن صيرورة الدال .
و قد لاحظت ثلاث ممارسات ذات أهمية كبيرة في رصد صيرورة الخروج في قصيدة النثر العربية و المصرية، هي الغياب، و اللعب، و امتزاج الثقافات عند ثلاثة شعراء ؛ هم محمد سليمان و علاء عبد الهادي و محمد فريد أبو سعدة .
أولا : الغياب في سرد الآخر :
تبدو لذة الغياب واضحة عند محمد سليمان في ديوان ( أعشاب صالحة للمضغ ) من خلال التشكيك في الذات الإنسانية الفاعلة، تلك التي تملك ذاكرة للحضور السيري دون حضور، إنه الغياب الذي يملك الإغواء بالتدمير، و استباق الوجود في بديله الشبحي المغاير، الذي يؤدي السرد باسم الذات الأولى المقتولة في فاعلية الشبح البديلة، و المتحولة في ظلالها الممتدة في النص، و الواقع و المادة الكونية / الماء :
"في الصباحات / حين تقوم البحور إلى غاية / سوف يصحو ... / يرمي إلى شاطئ جثثا / و ظلاما له ملمس الوحل / ثم يغوص / يظل يغوص / يفتش بين السماوات و الموج عن شبح " (2).
لقد استبق الصوت الحضور بغياب الصوت من الجثث، فتلاشى الحضور من داخل حركة الغياب و طاقته التأثيرية، و من ثم تولد الشبح من طاقة الغياب المجردة من فاعلية الفاعل، من تناقضات التكوين البشري حين يواجه أطيافه في الآخر / البحر، ففي ذاكرة البحر المخيلة يكمن البطل ( إحاب ) فيما فوق البحر في طاقته المغيبة لوجوده الظاهر :
"ربما مثل آخاب يبحث عن سيد / سابح في الوقار / له الريح و البحر / و الصمت و النور / حوتا يسد شبابيكه / لن يصيد / .. يسمع عزفا على الماء يبكيه / يستله من مدار / و يحشوه / سوف يطارد / يصطاد ظلا " (3) .
إحاب يمثل دورا جديدا في سياق الغياب الشبحي للصوت، يتحول فيه الحسد الملازم للطوطم، إلى أداء للصيد دون غاية سوي البحث عن سيادة الشبح / الغياب، ففاعلية إحاب الجديدة مجردة من القوة، تنفك ذاتيا من الغياب الكامن في تكوينه، في الإصابات القديمة بجسده الذي يغيب هنا ليستبدل حسد التجسد المطلق لموبي ديك / الحوت الأبيض في رواية ملفل، أما البحر فقد غاب في النص و التراث المؤول مثلما غاب النص في البحر ؛ فأفقد الفاعل فاعليته، و لكن بقي السرد كتفاعل للطاقات الطيفية الأدائية .
ثانيا : اللعب و الانتشار الدلالي :
يكشف علاء عبد الهادي في ديوان ( معجم الغين ) عن لعب اللغة و لعب العالم معا في تكوينات حرفية / فوق تصويرية، تستبدل العلامة بطاقة الدال / المختلف و الخارج دوما عن حده الصوتي، أو الميتافيزيقي، فمعجم الغين مرح للغين، و لعب بالسرديات الصغيرة في حركتها التفاعلية المدهشة، إننا أمام مواجهة مع الكون في انعدام وضوحه الأول، خارج التأصيل لحقيقته المتوارثة، و قد كتب بودريار حول هذا الملمح المعاصر في الفكر و ميزه بخروج الأشياء من خطاب الحقيقة، و من حدود إدراكها المعرفية في اتجاه طلب للتشبيه و مواجهة جديدة يختلط فيها الواقع بتخييله في آن . و طبقا لبودريار، فدائما ما تشير الحقائق إلى عدم، و خسارة كامنة في المعاني الظاهرة (4) .
من هنا كان الاختفاء في معجم الغين أقرب إلى اللعب الخفي لوجود الأشياء الآخر، في نص الغابر يقول :
" الباب يدق / فمن سيفتح ساعته للفراغ / في وهن الهواء / ستسلم الحجرة حيطانها لضيوف يتركون عليها ظلالا حميمة " (5) .
الظل تأويل لاختفاء الوجود الكامن في الوجود الواقعي نفسه، فالظل / الأثر يلعب في فضاء الحيطان الفارغة من منظورها المجرد من الإدراك بوصفه معرفة، و لكنه رصد التشبيه كوجود متحول خارج مدلوله الإنساني.
و قد يبدو الاختفاء تأجيلا للوجود برمته رغم أنه أتى كتأويل له في النص السابق، ففي نص الغارة يقول:
" الليل يخاف / لذا الليل أسود / يستتر خلف الأشياء دون مسمى / و حين يسميها النور / يموت " (6).
كيف يطلب الاختفاء اختفاءه ؟ الليل يخاف و هو مصدالنهار.عند من يطلبون حقائق النهار . هل كان استبدالا لنهار يطلب اكتشافا آخر للاسم ؟ أم أن الليل اختفاء خلف الاختفاء الكامن في الظاهر، و هو الأشياء حين تفقد مدلولها، و تشبه الليل الذي يحاكي الاختفاء ؟
ما الموت ؟ هل هو المعرفة ؟ الاسم ؟ المدلول ؟ إن الوجود هنا لعب بالاختفاء المضاعف لليل و الأشياء، يقاوم حدود النور بالموت كأداء مؤقت في لعبة الاختفاء التي يصير فيها منظور الفاعل خلفية مهملة تطلب تفاعلا حرا للتجسد خارج الحدود.
و قد تلتحم الأشياء الصغيرة في معجم الغين بلعب الكتابة الأولى عند دريدا Derrida ، فتختلط دلالاتها بالآثار الأخرى المؤجلة لمدلولها التكويني، فيصير الأثر هو البديل عن المركز رغم أنه يسمى باسمه، فالمكنسة تؤسس لما يناهض المكنسة من داخلها ؛ و هو عضو الذكور، و سجادة الصلاة تنتقل في بساط أسطوري طائر .
يقول : " الزعنفة تئن في الطبق منذ يوم / الموقد يخشى النار / المكنسة تخاتل الهواء / سجادة الصلاة تفر / الث، أوة تصب البياض على الحاضرين " (7) .
ثالثا:الأشياء الصغيرة يحتل فضاء المنظور احتلالا مؤقتا؛ ليكشف أنه مجرد موقع أو فراغ مستبدل بالبياض الهاذي،أو طاقة الهواء، أو صراخ الزعنفة الحامل لتاريخ العبث .
ثالثا : امتزاج الثقافات :
يجمع فريد أبو سعدة في ( ذاكرة الوعل ) تصورات ثقافية، و نصية متباينة خارج نطاقها الخطابي الأول، بحيث يصير المقتطف مؤولا لخطابه لا تابعا له، و عند هذه النقطة من التداخل بين المركزي و الهامشي، و المحلي و العالمي يصير النص قراءة مفتوحة لبنيته الانشطارية الحوارية في آن، فهي انشطارية / ما بعد حداثية ؛ لأنها تحتفي بالجمع بين الطرز المختلفة في تجزؤها و لعبها ؛ و حوارية بمعنى يتجاوز ما بعد الحداثة من داخلها . و يطلق عليه إيهاب حسن beyond postmodernism و يميزها بالتداخل المذكور آنفا .
و تبدو الثقافات المختلفة هنا متحررة من الوعي في حركتها فوق المعرفية في اتجاه تفاعل مفتوح، و لننظر إلى هذه الفقرة من الديوان (8).تجمع بين الميدوزا الإغريقية التي تحول ما يقع عليه بصرها إلى حجر و نص ثقافي مجهول و النزوع النيتشوي لجمال التدمير الديونيزي، و انفجار الصمت كبديل للموت في تكوين ثقافي واحد :
" في مخطوط قديم وصف جواب آفاق عينا سقطت من السماء و ظلت تتحرك، فكل ما وقعت عليه صار حجرا ثم تحولت هي بعد ذلك إلى حجر كريم " (8) .
لقد أتى السرد كفاعلية لغياب العين في حالة التحجر المناهضة للطاقة التدميرية الفائقة .
الهوامش :
- راجع / Mary klages – postmodernism on: http://www.colorado.edu/English/ENGL2012Klages/pomo.html
- راجع / محمد سليمان / أعشاب صالحة للمضغ / الهيئة العامة للكتاب 1997 ص 83 و 84.
- راجع / السابق ص 84 و 85 .
- راجع / Jean baudrillard – radical thought on: http://www.uta.edu/english/apt/collab/baudweb.html
- راجع / علاء عبد الهادي / معجم الغين / هيئة الكتاب / 2002 ص 8
- راجع / السابق / ص 87
- راجع / السابق / 89 و 90 .
- راجع / فريد أبو سعدة / ذاكرة الوعل / هيئة الكتاب 1997 ص 95.
محمد سمير عبد السلام
m-sameer@hotmail.com