(قراءة في حجر يطفو على الماء لرفعت سلام)

محمد سمير عبد السلام
(مصر)

رفعت سلامفي ديوانه " حجر يطفو على الماء " – الصادر عن دار الدار بالقاهرة 2007 – يرتكز رفعت سلام على الانتشار، والتداخل، والتعدد، وانفتاح الحدود بين النصوص، والأصوات، و الدوال المتناقضة، والمتضادة؛ فهو يعيد اكتشاف وهج البدايات النصية؛ ليفسح المجال للتوليد الإبداعي المستمر للنصوص، والتأويلات، و الفراغات بوصفها بذورا لتداعيات الكتابة المناهضة للبنية ، والتي تعيد إنشاءها في الاتصال الخفي بين الأصوات، والدوال، والثقافات في الديوان، ولكنه اتصال لا يقوم على الكلية، أو المنطق، بل التداخل، والاستبدال المتكرر للمركز .
إن كتابة رفعت سلام تستبدل البنية النصية من خلال اكتشاف لذة التناثر، والتعدد الكامنة في الصوت الواحد ، فصار الصوت مجموعة أصوات متوازية ، وقد يجمع الصوت الواحد بين المتعالي، والمقهور، أو الإنساني، والكوني، والأسطوري كما تتداخل الجمل، والنصوص القصيرة لتتحدى بنية النص المتخيلة ، و تكملها في الفراغ في الوقت نفسه .
إن بداية حدوث النص / أو التكوين – عند رفعت سلام – يلازمها الانتشار، والتناثر ، و القلق الذي يستعيد البداية في صورة أخرى؛ فالتكوين لا يمكن أن يكتمل، أو يتلاشى؛ إذ يتداخل مع لحظات البداية المتكررة، دون أن تنتهي فاعلية النص الأول، ومن ثم تتشابك هذه النصوص، والصور لإحداث صوت ملتبس، ومتجدد معا. هذا الصوت يتحدى الموت، والحدود من خلال وهج البدايات، وتناثرها، وقدرة الصوت على نقل نفسه في تمثيلات تصويرية، وسردية، وحضارية عديدة .
و قد عززت الصور المصاحبة للديوان من فكرة إعادة إنشاء الصوت ، و تحولاته ؛ فصور الجعران كثيرة ، وترتبط بمعنى الإبداع ، و إعادة الإنشاء ؛ ففي معجم الحضارة المصرية يمثل الجعران الإتيان إلى الوجود، أو الطلاسم الجنائزية الدالة على القلب (راجع – بوزنر و آخرون – معجم الحضارة المصرية – هيئة الكتاب 2001 ص 123 و 124 ) .
ويمتزج الجعران هنا بالتكوين النصي المجزأ، والتفاعلي في الديوان، وبالنشوء المتعدد للأصوات ، و للمتكلم الواحد .
أما قافلة الديناصورات فقد عززت من قوة البرابرة غير المكتملة في الفراغ ، حيث تتأهب للتحول في إيثاكا الجديدة .
إن الذات في الديوان تواجه لحظات المحو ، والوحدة ، والتدمير ، بما فيها من أداء سردي ، يتجلى فيه مرح البدايات في الصوت الجديد ، أو التكوين الآخر ، والصمت العبثي الذي يذكرنا بمسرح بيكيت ، ويونسكو ، و كأن ازدياد العنف ، والقسوة ، و الجفاف في اللحظة الحضارية التي يرصدها المتكلم، يناظر وهج القوة الإنسانية المبدعة ، تلك القوة التي تعيد إنتاج الصمت ، ومواجهة الفناء من خلال تجدد سياق المتكلم ، وطفراته التخيلية المؤكدة لوجوده الفريد .
إن النشوء في هذه الكتابة يكتسب قوته من الرفض ، والاستثناء ، ومن ثم فهو مراوغ ، وملتبس بالاختفاء ، كما يصير فضاء لشخصيات من التاريخ، والأدب، و الأسطورة يمتزج فيها عنف البرابرة، بالانسحاق، والقوة المبدعة المتجددة للصوت .
إن التباس الصوت المتكلم يناظر اللحظة الحضارية المعقدة التي يرصدها؛ فهي تترك الوعي في مواجهة المأساة، وإعادة تمثيل الاختفاء في الوقت نفسه، إذ تقع الوحدة العبثية ضمن صيرورة زمنية متناثرة يعمل فيها الاستبدال ، وإعادة التشكيل المتجددة للذات ، و اللحظة معا .
يقول :
" أيتها اللحظة الماكرة. قوافل تمضي إلى أفق غائر أم هاوية؟، وتنساني وحيدا في براري الله .. وشيء ما يروغ ، طائر ينقض بغتة ويختفي ، منتصف الليل أم النهار؟ ساعة الصفر أم لحظة البوار؟ مات ما فات ، وما سيأتي آت بلا انتظار "
إن اللحظة تشير إلى الانهيار ، و التجدد . الاختفاء ، والقوة الجسدية المحتملة . الصمت ، و الأسئلة المضادة للوجود الثابت .
إن رفعت سلام يؤكد اللعب ، والتحول في الصوت، والزمان، والمكان، ولهذا يتجاور كل من الصخب ، والوجود الطيفي دون اتجاه تأويلي واحد؛ فالقسوة الأرضية تولد الانعزال ، والقوة ، وتحول الإشارات إلى وجود تخيلي آخر دون نهايات حاسمة .
وقد يشير دال الأنوثة إلى الجفاف في قلب الخصوبة ؛ فمن خلال التدمير الكامن في الجنس تتولد الدلالات الثقافية لأثر الأنوثة الذي يجمع بين التوهج، وقمة الانفتاح ، و الموت ، و الخواء معا .
هل يستلب الصوت من خلال توهجه ؟
أم أن النهايات دائما تحمل بذور الخصوبة المتجددة ؟
يقول :
" أنا المرأة الجانحة .. تقاطعت في جسدي الطرقات و الصرخات ، أشعلت في القلب أقمارا غامضة وشموسا زرقاء ، لا أدري، ضالة عمياء ، والصهيل يشب يهب في خلائي، قطرة ماء، أو ساعة مطر، من؟ هكذا انطلت علي الوشوشات فانفتحت أبوابي ذات سهوة، فاستفقت بلا نجوم ، منهوبة خاوية، بلا حريق أو مطر " .
لقد تولد الصوت من خلال ذروة السلب ، و كأنه يعيد إنشاء الخصوبة من خلال دوال الانهيار . إن الخصوبة تنسب نفسها للخواء ليظل كل شيء معلقا ، حيث تذوب البدايات و النهايات في صيرورة الإبداع ، و الصمت معا .
يرى فرويد أن ثمة انسجام ، و تباين بين غريزتي الإيروس ، و التدمير ، فيما يختص بالعلاقة بين إرادة الربط ، و حل الروابط ، أو رد الكائن للحالة اللاعضوية؛ ففي الجنس عدوان غايته الاتحاد ( راجع – فرويد – الموجز في التحليل النفسي – ترجمة سامي محمود – هيئة الكتاب سنة 2000 – ص 30 و 31 ).
لقد حملت الأنثى في القصيدة صوت التدمير ، لتستعيد من خلاله ذكرى الخصوبة ، و الانحلال معا ؛ فالرغبة أصبحت طيفا في الخواء ، مثلما صار الأخير صاخبا ضمن آثار الأنوثة المتجددة .
إن الانفصال و التداخل بين الغريزتين عند فرويد يتحولان في كتابة رفعت سلام إلى صوت أنثوي ملتبس يتجاوز وهج البزوغ الأول لكل من الرغبة، والتدمير؛ إنه يطارد الخصوبة بينما لا يمكن تدميره أبدا .
إن وجود الأنثى يتوهج في الاستعارة ، والتحول المستمر، ثم يرجع إلى السكون كأنه كان حالة شبحية، هل هو تجدد الحياة، وقد اختلط بسكون أبدي ؟ هل تحولت شهوة الالتحام إلى فراغ صامت؟
ومثلما تعددت إمكانيات التعبير عن طريق الاستبدال، وامتزاج الدوال المتضادة في ديوان رفعت سلام، فإنه يستغل التردد الذي يكثر في أوراق الكتابة الأولى في إثراء الدلالة عن طريق التجاور مع بقاء المفردة المشطوبة واضحة في السياق النصي ، مما يعزز لا مركزية المدلول ، و تأويلاته .
يقول :
"ولما قمت بالقفزة الأخيرة / المستحيلة ، فسقط عن وجهي القناع، التهبت الساحة بالتصفيق و الهتاف، وبانت الفرحة على وجه الملك العظيم، وأمر بقطع رأسي " .
وكان قد شطب على الأخيرة شطبا خفيفا، وكأن النهايات تولد التميز ، والتمرد مرة أخرى ، و تستعيد حياة المتكلم من خلال موته، أو عقب موته الذي يشبه احتفالية بالحياة، هل كان الصوت بديلا عن صورة الملك في المشهد ؟
أم أنه ضحية أسطورية مقدسة؟
إننا نلمح موتا ذا طقس احتفالي بتميز الحياة الجديدة ، أو التكوين الذي يحقق من خلال موته طفرة الخروج عن سياقه الحضاري .
إن المتكلم يحاول القبض على لحظة الحضور من خلال الاختفاء، أو حالة انقسام الزمن المضارع عن المكان، بحيث يتحول إلى فاعل في المشهد؛ فالوجود هنا يشبه الحضور في صورته الجديدة ؛ إذ إنه استثناء في المكان ، أو اختفاء لا نهائي .
يقول :
" بلا ماض – الآن – أعبث بالزمن المضارع ، أراوده و أراوغه مثل امرأة بلهاء، أشد ذيله، وأجري أمامه حتى أختفي في زقاق مظلم، فيضيع مني ، فأبكي هواني على الناس .. على قارعة الوقت أقعد القرفصاء، يدي ممدودة للعابرين المهرولين، وعيني شاخصة ترقب نجما منفردا، في الأفق الرابع ، في شدقيه الزبد، و ذيله خيط دم لا ينتهي في الوراء " .
النجم هنا يستعيد القهر، وتاريخ الدم، والقوة الطوطمية المجردة من الماضي، ليعيد قراءة الذات المنفردة في المكان؛ فهي تعبث لتمسك بالحضور، أو أن تتشكل خارج المأساة بينما يلح على ذاكرتها ماضي القهر، والرغبة في تحقيق التمرد معا .
ويستعيد المتكلم أوديب في سياق مطاردة الزمن، والهوية، ويطرح سؤال الخطيئة في براءة تبعث المأساة مرة أخرى في سياقها الأول المتجدد، حيث الولادة من خلال السلب، و إرادة الموت .
يقول :
" أنا الأعمى، فهل ضاجعت أمي في فراش أبي القتيل؟ لا، أيها العراف، لا أبجدية لي ، قناع بلا وجه، وشكل بلا جسد .. هل أصيد الزمن الهارب في البراري كأرنب بري، أم أقطف الأحلام الذابلة من النسيان، أم أراوغ الفراغ أستجدي كسرة من عزاء لاذع ، أو حفنة من الهباء ، هل أتوا أخيرا بلا نفير ، أو نذير ؟ " .
" وكنت أمشي على أشلاء إلى عرشي / نعشي " .
إنه يبحث عن الملك المجرد ، و لكن الماضي يلاحقه ، ليصير العرش مستبدلا بالنعش ، و العودة المفقودة للذات دونما خطيئة ، أو عقاب .
إن لحظة الحضور تتركه يبحث عن وجوده الذي تختلط فيه بهجة الملك ، بالخطيئة المجردة الحتمية .
وقد يتوحد بالكائنات الأسطورية ، و أبطال الحكايات ليتغلب على الصمت العبثي المسيطر على المكان .
يقول :
"لا أموت و لا أحيا، كأنني الرخ أو العنقاء، مطلق، واحد في الخواء العذب. ماتوا جميعا كل من أحببتهم، وبقيت وحدي في قفار الأرض عاريا منتصبا، تعبث الرياح بأغصاني الذابلة، تبول على جذوري الكلاب وتمضي، لا ظل لا ثمر، أيها الوقت الحجر، هربت مني إلى الجهة العمياء ، تركتني كسنط عجوز " .
إنه يستعيد لذة التحول الكامنة في فعل الحكي، ليحارب صمته العبثي مثل الشجرة الوحيدة؛ فمن خلال مواجهة الفناء تتشكل المملكة المتخيلة من خلال وسيط الرخ الذي جسد القوة، وتغير المكان في قصة السندباد .
وتتوالى وسائط القوة الممزوجة بالانسحاق، والنهايات في الديوان، وبخاصة علامة الديناصور حيث استعادة الضخامة الأسطورية مع الاندثار في وقت واحد.
الديناصور في الديوان سلطة شكلية تبحث عن السيادة التمثيلية، وتستعيد اقتراب النهايات معا. إنه قوة التمرد التي تولدت للتو من فكرة الانسحاق، والعدم .
يقول :
"أنا الميت الحي، لا أمشي، بل الأرض تسيل نفسها تحت أقدامي إلى الوراء، تفر مني الأشجار والينابيع، تركض التلال و الحقول.. فلتهبطي أيتها البومة العمياء عن كتفي .. أنا سيد هذا الكون، أنا الديناصور الأخير" .
إن قوة الحياة هنا ليست أصلية، فقد استعادها الصوت من الفراغ، والعدم، ولكنها أتت مجردة، ومدمرة وكأنه تبحث أيضا عن البهجة المفقودة المتخيلة، تلك البهجة التي صارت في الديوان استثناء .
ويبلغ الانفجار ذروته عقب حديث الديناصور، في صوت البرابرة حيث تتلاحق صور الحروب، و الدم ، والمكان المتخيل الذي تمثله إيثاكا .
يقول: " أيها البرابرة إلى الوليمة الباذخة ، يومنا خمر، و غدنا خمر من دماء، لست الكلب العقور لا، لكنني النمر الخجول .. بحيرة دم آسنة أعبرها بقفزة واحدة إلى الهباء .. فمن يعيرني مرثية عصماء في البكاء على الأطلال؟ أنت الطريق وإيثاكا، فيك تمضي قوافلي إليك " .
لقد ازدوجت وحشية الأرض، وصمتها العبثي بإيثاكا / الحلم، وقد قال فيها كفافيس ( عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكا / تمن أن يكون الطريق طويلا / حافلا بالمغامرات /عامرا بالمعرفة/ لا تخش .. السيكلوبات، ولا بوزايدون الهائج / لن تجد أيا من هؤلاء في طريقك – راجع كفافيس – قصائد – ترجمة بشير السباعي – دار إلياس بالقاهرة سنة 1991 ص 41 ) .
إنها الأرض البديلة ، و حلم كفافيس برحلة أخرى لأوديسيوس الذي صار في ديوان رفعت سلام قراءة إبداعية للصوت المتناقض بين تاريخ الجفاف، والدم، والقوة البربرية، والحلم بالمكان البديل الذي يتحقق فيه الحضور الغائب .
إن اختفاء السيكلوبات، أو الوحوش ذات العين الواحدة من رحلة أوديسيوس في نص كفافيس، صار امتصاصا للوحدة العبثية في نص رفعت سلام. هذا الامتصاص الذي ولد تمردا نصيا و وجوديا يبشر بولادة تكوين يستعصي على الانسحاق؛ يقول :
" أنا الجملة البكماء، أمضي إلى الوراء، عكس السياق، أغني أنشودة همجية تعشش فيها الخفافيش البشوشة، و الصقور المسعورة " .
لقد ولد الصوت من التباسه الخاص، و تجدده الكوني المرح .