هذا هو انطباعي الأول عن فايز أبا منذ بدأت أقرأ له بين وقت و آخر في ثمانينات القرن الماضي.
أعترف أن صورته كانت غامضة أول الأمر. ويمكنني الزعم بأنني تعرفت عليه متسرباً من كثافة المثقف الرصين. وهذه صفة قلما كنا نصادفها في تلك الفترة المتأججة بحماس فادح، حيث جعجعتنا أكثر من طحيننا.
لم يكن صوته ضاجاً، كان يهمس فحسب، مما يستدعي منك، لكي تسمعه أن تصغي لحركة الأوكسجين في الدورة الدموية. فقد كان الشخص يكتب نصه ويجلس خلفه.
وفي هذه دلالة ما أريد الإشارة إليه في تجربة فايز أبا.
يجلس خلف كتابته، ليس فقط لأنه يتميز بأجمل فضائل التواضع الجم، والزهد في الظهور والإعلام، ولكن لسببين أكثر جمالا أيضاً:
الأول، يجلس خلف كتابته لكي يضع رأيه ورؤيته في مكانهما المناسبين في متناول الناس حيث يكون النص هو بريد الشخص الغائب المتواري المتمكن من مكانه ومكانته.
والثاني، يجلس خلف كتابته لكي يحميها ويزيدها قوة فيما تكون هي طليعته في العالم ونحو المستقبل، ويكون هو ظهير كلمته والمنافح عنها والمسئول عنها.
وعندما كنت أشير إلى تعرفي على صوت المثقف في ما قرأت لفايز في الثمانينات، فإنني أتأكد مجدداً بأننا وقتها كنا فعلا أحوج إلى المثقف الرصين، كثيف الرؤية، عميق الخطاب، شديد الإيمان بالمستقبل، أحوج إليه ظهيراً فكرياً رؤوفاً للأدب الجديد والكتابة الجدية والأحلام الجديدة التي كانت تفجرت فينا، وتفجرت بنا آنذاك.
ولعل التجربة (بعد أكثر من عشرين عاماً) تثبت لنا بأن تلك الحاجة كانت ملحة أكثر مما تصورنا، الأمر الذي يجعل تجربة إنسانية وثقافية مثل فايز أبا تبدو أنها قادرة الآن أن تشعرنا بفداحة الفقد الذي نتجرعه كلما تغيب عنا مثقف مثل فايز. فليس متاحا أن نصادف مثقفاً مؤمناً على رهان المستقبل بالشكل الذي كان يشكله فايز وهو يمتزج بالتجارب الجديدة للكتابة في بلاده وفي غيرها. مما يفسر لنا الآن المعنى الحضاري الذي يجعل مثقفاً (نقدياً) خارج التقليد مثل فايز يتشبث بجذوة التجارب الحديثة في الكتابة والإبداع.
من هذه الشرفة سوف أرى إلى تجربة صديقنا أبي يوسف.
ومن الشرفة ذاتها سوف تبدو رفيقة دربه السيدة هناء حجازي نموذجاً لبطولة امرأة (بلا مزاعم) تكتشف جمالات الجلوس خلف الكتابة، خصوصاً إذا كان ذلك برفقة شخص مثل فايز.
لم ألتق به شخصياً.
سمعت صوته على الهاتف مرة واحدة قبل أشهر.
لقد كانت دماثته تفيض على قدح الروح.
أسعدني أنه أهدى ترجمته (التاريخ الكوني للخزي) لبورخيس، لنشره في (جهة الشعر). وسوف يسعدني أيضا أن نبتكر معاً وسائط تجعله حاضراُ معنا.