الممحاة

أسعد الجبوري

1

ثمة وقت للكتابة، وينقرض مختفياً بغياب المؤلف. فيما يستمر زمن القراءة قروناً ما بين من يعيد إنتاج الكتابة،وبين من يأخذ منها منزلاً تُنزلهُ فيه رغباته وأفكارهُ وتجانسه مع مخلوقات مخيلة الكاتب ،وإن كان ميتاً.
هنا.. لا أشد من الفاصل ما بين الاثنين. مؤلف عابر نحو تشرده في المجهول. وقارئ متأمل نفسه في منتجات عقل ليس له ،لكنه يعملُ في داخله كالمحرك، ويسكنهُ ،مسيطراً على كامل آباره الوجدانية وبراري نفسه الشاسعة التي تملؤها الحروف كالأطلال.

2

ليس أمتع من طاحونة التبدد في المساحة الفاصلة ما بين سالب عجوز متكتم على أسراره _ على الرغم من افتضاحها _ وبين موجب حداثوي مغامر وقح، يجعل المستقبل الجاري تهتكاً بمباني الماضي ونصوصه الألسنية وقلاعه السلفية، تلك التي تعتبر الحداثة من تصنيع الكفرة وانبعاثهم للسيطرة على العالم.

الحداثة التي نريدها للممحاة، أن تتخلى عن دور التمريض بين صفوف المخلوقات والأشياء. و ذلك لا يحدث بالطبع إلا تحت تأثير الإبداع. فما ينتجه المبدعون راهناً، بنظر المتناسخين، ليس إلا كفراً استثنائياً مهماً، مطلوب الحيلولة دون استعماله في حياتنا. والكفر هنا بالطبع، لا يتعلق بالشأن الديني حصراً، بل يتعداه إلى تكثيف العمل على تحجير الكيان البيولوجي للغة، وجعل الإنسان دميّة لاهوتية، لا تخضع إلا للعذاب بفعل ما تصنعه المخيلة من شرور!.

3

تلك هي الدراما المستعرة للمشغل الحداثي، ففي العصر الذي يشهد فيه العالم تفكيكاً لخريطة الجينوم الآدمي واستنساخاً للمخلوقات على نار الليزر ومراكبها المليئة بالرواد، ممن راحوا يصلون السموات تباعاً. نعمق نحن حفرتنا خسوفاً، مرسخين نظام كسوفنا التدريجي نحو أعماق الأرض، ربما بهدف أن نكون مكتشفين لما يحدث للموتى في ملاجئهم قبل الآخرة. تلك الموهبة القائمة على اختلاطات العقل بالنفس المدمرة أصلاً، ستصبح الملاذ الآمن من شرور الشياطين واختراعات، هي في نهاية المطاف، تماثل المحرمات وجهاً وقفا.

خوف الرواد السلفيين من شعراء وكتبة وندابين وفلاسفة على كراسيّ السلطة، يقلبُ المعرفة رأساً على عقب، حتى نقف فجأة أمام المعضلة التي أحالتنا من قراءة الحياة كنصّ غائم ملبد شرس مفتوح على مختلف البرازخ والمجاهل، إلى رواد لتحليل عذاب القبر أو التشريع حلالاً أم حراماً لحريم الدون جوان ..

4

عندما توطدت علاقة الكتابة العربية بالأقبية والكهوف والملاجئ والسراديب والحفر والزنازين والعنابر، منذ قرون، وجدنا كتّاباَ مثل نباتات تنمو تحت أراض افتراضية. منتعشة بصراخها الداخلي الأعمى، ومتفردة بقوة دفع الإرهاب. فكان التأليف جنازة، والمؤلف جثة عائمة تحت هذا الغلاف المعتم، أو على ورق كراس مخربش باسم الكاتب الحركي.

5

ما نحتاجه الآن هي مواطنة الكتاب والكتابة. المواطنة هنا، لا تعني إقامة الكاتب في دار أو فندق أو على سهل طويل من الورق. كما الكتابة لا تعني إعادة تأليف الوقائع من خلال تمزيق أوصالها مرة أخرى أو تفكيكها وإعادة صياغتها. هناك أطنان من لحوم كتّاب وأطنان ورق لكتب بلا معنى. لأن الرقابة تعمل على بناء جدرانها ما بين النفس والعقل. وكذلك، لأن الرقيب يقتل المتجليات ويحدّ من شهوة التخيل. لذلك.. فنحن إن لم نفتح الشهوة طوفاناً في الرأس، سنكتب عن بخارها المرتفع طيراناً فوق اليباب. فاليتيم في زمن الكتاب والكتابة، من ليس له نصّاً.

6

ما من مؤلف منتش بنصّه، ويعيش في غرفة الإنعاش. جرأة الكاتب دائماً، لا تتجلى في أن يغمس أصابعه في لحم اللغة. هناك أساليب للتعايش مع مخلوقات اللغة والحياة، ومن ثم التمرد عليها وهتكها والطيران بعيداً عما تفسخ في ساحة الحرب. كل من لا يحسّ بتلك اللذة، يسقط مهشماً ليذوب فينتهي مع كلماته.

7

لا وجود لكلمة (بنت بيت)!!

فما لم تسفك الكلمة روحانيتها في جسد المعنى، وتكون لقطة البطولة داخل القصيدة، ينطفئ الفرن في رأس الشاعر، ويصبح العالم مرّاَ غير شهواني. الواقع دائماً، يرتكب

المجازر تلو المجازر بحق اللغة. وخاصة في المدار الشعري. كل ذلك يحتاج إلى تطهير بواسطة التناغم السرّي المفترض اكتشافه في تربة الكلمات.

8

أليس عدم التأمل في الخوف ومراقبة فيضاناته، جزء من منظومة الإرهاب الذي يواجه الكاتب أثناء العمل؟

وإذا اعتبرت الكتابة عملاً مركباً من العالم الداخلي وتمثيلاً لمقتنياته المختلفة، فكيف يمكن جعل استخدامها واسعاً في العالم الخارجي، دون وصاية أو قمع؟!

9

لم نأت من المريخ، ليثيرنا الكتّاب بخطى أقدامهم على الجمر. يمشون. ولم تأخذنا الحكمة إلى بيتها، لنشهد على أن الكتابة تولد في العالم العربي دون بنج أو مشارط. نعرف الكتابة مقامرة. والمؤلف غير الجبل، لا ينتمي إلى الطبيعة الصامتة. ندرك أيضاً، بإمكانية استعمال الممحاة في كل الظروف الطارئة وسواها. نشير أيضاً، إلى أن الألم لم يعد محرضاً، بقدر ما هو قاتل للنصّ أو مُعطل لمحركاته.

لذلك نتأمل الممحاة هنا. نراها مثل رأس الكوبرا. متحفزة للانقضاض على كل ما هو ضعيف مخجل وبلا معنى. فبالممحاة.. نمحو القضابين لنخرج بالأنفس من معتقلاتها أو كهوفها الضيقة.

أيضاً الممحاة هنا، لكنس الظلام وفتح نهر من النور في جبهته المعتمة. وأيضاً لتطهير العواطف من كلاسيكيات الحبّ، لنذهب إلى الورد والندى والألماس بعيداً عن الثرثرة. الممحاة لمحو كراسيّ الرموز المستهلكة مع كراريسهم. فما من تخلف ويستحق معايشة أو هدنة أو حوار.

(صفر)

ليس أفضل من إدارة الآلام بالممحاة.
فالعقبة الأعظم أمام ممحاة الشعر ، محو النص المصاب بالانتكاس،بكتابة نص بهي آخر على ورق حطامه.فالممحاة الفاعلة،جسارةٌ فنيةٌ على ما كان قائماً في الماضي،لتحقيق حداثة ما سيقوم مستقبلاً.فالممحاة طردٌ لحجر العثرة.ومحو للثابت ،أو تحويل رماده بالسحر إلى مخلوقات متحركة.
العشاق أول المتماحين.امرأةٌ تمحو رجلاً..أو العكس.فما من ثنائيات إلا وتبردُ دون محو الجسدين ،ليصيرا لحماً واحداً بالفلفل الأحمر على سرير الفضاء .
الممحاةُ ..محاولة لمحو الظلام ،بجعل الأنفس أمكنة قابلة لامتصاص الضوء وحده.وبجعل الرؤوس قببّاً لمنظومات أفكار الطير،لا مستودعات للحطام.
الممحاةُ..محاولةٌ لمحو التصحرمن البدن الشعري والفني عموماً،بتأسيس حدائق خلفية في كل نصّ،كي لا تذهب المياه للتبخر عبثاً ،ونصاب بأمراض الجفاف.
الممحاةُ أيضاً.. محاولة لمحو الأغطية السوداء عن تاريخ بناة بنوك الدم،من أمثال هولاكو ورفاقه.