تبدو هذه (الأسطورة) (بالمعنى الجميل للكلمة، بالطبع) التي نُسجت حول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا وعنه (وربما منه)، لن تنتهي بتاتا، ولن تدخل على الأقل في الفترة القادمة والمنظورة متحف الذاكرة والتاريخ الأدبيين. ربما كانت على العكس من ذلك، يبدو أنها مرشحة للاستمرار والاتساع زيادة. ما من شيء يلوح في الأفق يُظهر رغبة في وقف هذه الاندفاعة. لأن ما من فترة تمرّ، إلا ونحن أمام نصوص جديدة، تظهر للشاعر فجأة، تحت أسمائه المتعددة كما تحت وجوهه المختلفة، أو لنقل (بدلائه) (1) العديدين، الذي كتب من خلالهم، أشعارا مختلفة ذات تنوع غير محدود. كذلك، لا بد أن نتوقف أمام هذا السيل الكبير من الكتب الذي يصدر في كل عام، وبمختلف اللغات، حول الشاعر الذي أسس بمفرده (مع وجوهه المختلفة بالطبع)، قصة الحداثة البرتغالية الشعرية برمتها. لدرجة، نستطيع القول معها، إن الشعر البرتغالي ينقسم إلى ما قبل بيسوا، وإلى ما بعده.
ثلاثة كتب صدرت مؤخرا، عن داري نشر في فرنسا، تنتمي إلى الموضوع عينه: فرناندو بيسوا. الأول بعنوان (حيوات فرناندو بيسوا) لأنخل كريسبو، والثاني (رسائل حب إلى فرناندو بيسوا) لأوفيليا كويروش (وهما عن منشورات (دو روشيه أناتوليا)) والثالث (نظرة متفردة) وهو مجموعة من نصوص لفرناندو بيسوا نفسه، اكتشفت مؤخرا وصدرت عن منشورات كريستيان بورغوا.
الحيوات غير المطمئنة
غالبا ما قال دارسو فرناندو بيسوا ورددوا، منذ سنين عديدة، أن ليس هناك أي (سيرة) لهذا الشخص، حتى أنهم وصفوه (بالرجل الذي لم يكن يوما موجودا). ولعل أبرز محاولة (أولية) لتحديد ذلك، كانت كتاب الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث الذي قال فيه (ليس للشعراء من سِيَر، شعرهم هو سيرتهم) (2). لكن من الواضح اليوم، وبفضل هذه المعرفة التي تتعمق يوما بعد يوم بهذا الميراث الأدبي الضخم، غير المنشور، والذي يبدو أنه لن ينضب، نزداد إطلاعا على هذه الحياة (التي كانت موجودة فعلا)، والتي كانت واحدة من أكثر الحيوات سرية، وأكثرها حيرة وترددا في عصرنا الحديث. قيل أيضا بأنه كان (المجهول من قبل نفسه)، ولهذا القول ما يبرره، وبخاصة أننا لم نعرف عنها في عصرها قدر ما نعرف عنها اليوم.
بيد أن الكاتب والباحث الإسباني أنخل كريسبو، يُفضل أن لا يلجأ كثيرا إلى هذه الأحكام (المسبقة) في كتابه الموسوم والجيد (حيوات فرناندو بيسوا)، (على الرغم من أنه يعتبره محاولة (متواضعة) لكتابة سيرة هذا الشاعر)، إذ ينطلق مما قالته الباحثة البرتغالية تيريزا ريتا لوبيش، في كتابها عن بيسوا (3)، بأنه (عند بيسوا، يبدأ العرض (عرض أعماله الأدبية التي تعتبر بمثابة أعمال درامية) عبر اكتشاف نفسه. من هنا ينذر نفسه بالكامل لهذا العرض، يمسرحه، مع العلم أنه كان يعرف بأن الأمر ليس فاصلا ترفيهيا، وبأن المسرحية الحقيقية كانت في مكان آخر).
لا يتوقف كريسبو عند هذا القول، بل يذهب أيضا إلى أبعد من ذلك:
(بدءا من اللحظة التي نقتنع فيها بأن بيسوا عاش بطريقة أكثر صدقا مما اعترف به في كتاباته ليس فقط حياته كمواطن برتغالي يحمل شهادة ميلاد بل أيضا حيوات (بدلائه) وبشكل خاص ومكثف ومتماسك أي حيوات ألبرتو كايرو وريكاردو ريش وألفارو دو كامبوش...).
يحاول المؤلف إذا، أن يسبر هذه الفضاءات المتعددة، التي تركتها الحيوات المختلفة لكل من هذه الأسماء/الشعراء، أو هذه (الأقنعة) وفق تعبير الشاعر البرتغالي فيتورينو نيميزيو (4)، الذي كان من أوائل من لفت النظر بقوله إن هؤلاء (البدلاء) لم يكونوا عبارة عن ازدواج شخصية بل كانوا (وجوها) قائمة بذاتها، تملك مفهوما عميقا للحياة.
يرسم أنخل كريسبو، في كتابه، المسار الثقافي لهذا الشخص الذي وجدت فيه الأجيال اللاحقة للحرب (السوبرا كاموينش) (5) الذي طال انتظاره في المشهد الثقافي (اللوزوفوني) (البلدان الناطقة باللغة البرتغالية). أي مسار؟ ربما من الأفضل استعمال عبارة التحولات المتعاقبة لهذا الفكر المتعدد، (المنحرف). ففي مرآته ذات الأضلاع الكثيرة، نراه صورة مختلفة في كل مرة، شخصا آخر. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب في أنه يفتح أمامنا ساحات عدة، من دون أن يدعي أنه يقدم لنا مفاتيح قراءة نهائية، ولذلك سبب، وهو أن أعمال بيسوا غير المنشورة والتي تبدو أنها ما زالت كثيرة ستقدم إلينا لاحقا المزيد من الأسرار، وربما أضافت كثافة أخرى على كثافة هذه (الألغاز) التي تتسم بها أعمال الشاعر. بمعنى آخر، لم تقدم أعمال بيسوا المتنوعة، بعد، كل أسرارها. ثمة مثل بسيط على هذا: كتاب الرسائل العائدة لأوفيليا كويروش، (سنأتي على عرضه لاحقا)، والموجهة لبيسوا، صدرت بالبرتغالية منذ فترة قصيرة، أي بعد أن كتب كريسبو كتابه هذا بفترة لا بأس بها. أضف إلى ذلك، أن الرسائل هذه، غير كاملة بعد، وقد صدرت مجتزأة، لأن هناك بعض الأشخاص الذين لا زالوا على قيد الحياة، ممن يمتون بصلة إلى هذه المناخات والحالات.
يدخلنا كريسبو إلى هذه الحيوات حيث نجد فيها أن بيسوا انحاز باكرا جدا إلى الجدل الطليعي الذي كان يلف الأدب البرتغالي باكرا. نرافق المسار (الملحد) لهذا الوعي المتواتر ما بين العقلانية والروحانية و(التنجيمية) (علم الغيب والفلك)، على الرغم من اقتناعه وإيمانه (بكذبة جميع الآلهة الأبدية، وحدهم الآلهة مجتمعين هم الحقيقة).
نعرج أيضا مع المؤلف على بيسوا العاشق الذي كان يطلق على أوفيليا العديد من الأسماء والصفات الأكثر طفولية، أي الأكثر قدرة على المساس بنا، ليتخلى عنها فيما بعد كي يتابع بحثه الأدبي والفلسفي الذي نذره للوحدة وأدخله في حياة بعيدة كل البعد عن الحياة الاجتماعية. نسمع بيسوا وهو يجتر السؤال الأبدي الذي يحيل إليه في النهاية كل الكرب والكآبة في أن نكون في هذا العالم كذلك كل الجبن الناتج عن هذا الأمر (ولمَ لا الشجاعة أيضا)، كان يسأل:
(إن أردت أن تقتل نفسك/لمَ إذا لم تقتل نفسك؟). ربما قتلها بطريقة مختلفة بعض الشيء. لقد دمره الكحول (توفي بسبب إصابة كبده بالتلف من جراء كثرة الشراب)، سار بخطوات سريعة، ابتعد ووراءه موكب من الأقنعة... لذلك من الصعب أن نلحق به، فكل ما نستطيعه هو لملمة الأوراق التي نثرها فوق دروبه الكثيرة.
ثمة عمل تفسيري وتأويلي كبير ومدهش في كتاب أنخل كريسبو، حتى وإن كنا نشعر أحيانا، أنه قد تاه في تعرجات التأويل الباطني، وبخاصة في الفصول الأخيرة. لكنه، برغم هذا، استطاع أن يعيد بيسوا، بشكل كامل، إلى هذه المدينة الأسطورية التي لم يغادرها سوى مرة واحدة في حياته، بعد عودته من (دوربان) (جنوب إفريقيا)، هذه المدينة التي كانت تمر في مرحلة من التحولات والتي كان شاهدا يقظا عليها ومنتبها لكل هذه النبضات التي عرفتها...
قد يأخذ البعض على المؤلف حذره، أو ربما بعض برودته، حين يقترب من الموضوعات التي تثير الغضب، وتحديدا، مواقف بيسوا السياسية التي كتبها، في نص، حول ضرورة المؤسسة الدكتاتورية العسكرية المؤقتة في البرتغال. يبين لنا كريسبو أن بيسوا تراجع باكرا عنه ورفضه قطعيا فيما بعد لدرجة أنه طور، وبشكل علني، تجاه (السالازارية)، نوعا من السخرية الجارحة. على كل حال، ليست هذه هي الأرض التي ينبغي البحث عنها، كي نلتقي فيها بهذا المنفي الأبدي (الجواني) الذي كان عليه بيسوا. فمن يعطي لبيسوا الحق في أن (يضل) قليلا، ومن (يسمح) له ببعض (الوقاحة) من دون أن يطلبوا منه دفع (جزية)، بعد موته، لا بد أنهم سيدخلون عميقا في هذا الكتاب.
(المتفرد)
من دون شك، يبدو كتاب (نظرة متفردة) (منشورات بورغوا) بمثابة الحدث الحقيقي، على الأقل هذا ما يظهر لنا عند قراءة هذه النصوص التي تنتمي إلى (السيرة الذاتية) والتي تنشر لأول مرة (في الواقع لم تصدر بالبرتغالية إلا منذ أشهر قليلة، والنسخة الفرنسية، هي الترجمة الأولى لها عالميا، وتأتي بعد أشهر قليلة من صدورها بلغتها الأصلية) والتي تكشف، ملامح جديدة كليا، عن فرناندو بيسوا.
صحيح أن بيسوا، كتب، في واقع الأمر، العديد من الأشياء عن نفسه، لدرجة أننا نستطيع القول بأن عمله الأدبي بأسره، ليس سوى تعليق طويل، وتحليل، لأوجه شخصيته المتعددة. لكن علينا هنا الانتباه إلى أمر أساسي،أن غالبية هذه النصوص، وصلت إلينا عبر هؤلاء (البدلاء)، أي عبر هذه الكيانات المتخيلة، التي أبدعت هذا العمل الأدبي المتعدد الأشكال، والمتناقض في الوقت عينه.
لا نجد في نصوص (نظرة متفردة) أيّ شيء من ذلك: أي أن بيسوا يقدم لنا نفسه بشكل كامل، عاريا، بلا محرمات، من دون تواطؤ، والأهم، بعيدا عن (أقنعة) الأسماء الأربعة الكبيرة (كايرو، ريش، كامبوش، سواريش). انه يستغني عن الستارة هنا، عن درعه الحامي، عن التخييل الأدبي، ليكتب باسم (فرناندو بيسوا).
في شبه اليوميات هذه، الموجهة في الأساس إلى قارئ واحد، هو بيسوا نفسه، نشاهد وبطريقة مباشرة، ولادة و(تكوين) (ولا بأس هنا من استعمال الكلمة بمعناها الديني) هذه الشخصية غير العادية، بدءا من مراهقته المعذبة والصعبة، حيث راكم فيها (الأزمات المتعاقبة) ولغاية سن الرشد. مسافة شهدت امتلاء، قبض عليه ببطء.
(وهنا أيضا، لا بد من ملاحظة، أن كتاب كريسبو، صدر قبل اكتشاف هذه النصوص، بفترة كبيرة، من هنا، قولي السابق، أن أهمية كتاب (حيوات فرناندو بيسوا)، تكمن في أنه لا يدعي بأنه يقدم لنا جميع مفاتيح القراءات الممكنة).
أمضى بيسوا حياته وهو يحلل نفسه، وهو يحفر زيادة، في هذا الهروب إلى الأمام، الذي لا ينتهي، في هذا الكرب الأساسي الذي شكل حياته كلها وفخخّها وأعطى فيما بعد، هذا الكائن، الذي ولدت منه روائع عديدة من مثل (دكان التبغ) و(الأناشيد الكبيرة) و(كتاب اللادعة). ثمة العديد من الوجوه (المعذبة) حيث نجد أن الذي (لم يقل) عند شواريش أو عند (رييش) قد يلامس ما قاله (كامبوش)، إلا أننا بالتأكيد، لا نملك جميع المفاتيح.
هذه (المفاتيح)، يقدم لنا بيسوا بعضها في هذه الصفحات، وبصدق كامل: اعترافات، رسائل، تأملات تظهر هذه التيارات العميقة، الدوامات وبالأحرى العواصف التي عبرت وجوده بأسره. ترسم لنا هذه الصفحات هذه (السيرة التي من دون أحداث)، تماما كما حددها هو. وجود مجرد، ظاهريا، من كل فعل بارز، لكنه عيش بكثافة كبيرة، بالأحرى بشكل مأساوي على المستوى الداخلي.
كذلك تكشف لنا هذه الصفحات المدهشة، طفولة سديمية، معلنة بداية انفجارات البديل ألفارو دو كامبوش المستقبلية. شخصية متشظية، (تنفجر) تحت أعيننا تقريبا. يعبر بيسوا، في هذه النصوص (الحماسية)، البركانية، عن هذه الضغوطات غير المحتملة، عن الأزمات المتفاقمة بين الغرائز و(الفانتسمات) التي تجرؤ على إعلان أسمائها وتبيان وجهها، كما عن هذه المتطلبات الأخلاقية المدمرة إلى حد ما. من هنا قد نشعر بصدمة هذه النبرة المتغيّرة التي تشتعل، وهو عند منعطف سنواته الخمس والعشرين، والتي يظهرها لنا راضيا، قابلا بها، مضطلعا بنتائجها، كي يدخل تدريجيا في قلب امتلاك نفسه ومواهبه وإمكانياته و(مهمته) كشاعر.
بالتأكيد نعود لنجد في هذه النصوص، تلك (التيمات) الأليمة التي تشكل خلفية كل أعمال بيسوا الكبيرة: البحث غير المتوقف عن (الأنا) والخوف من فقدانها، الرعب من العيش، الكآبة التي لا شفاء منها، الوحدة العميقة. موضوعات عاشها بنوع من الكثافة التي وصلت إلى مستوى ميتافيزيقي. ومع ذلك كله، نجد أن هذه الصفحات الآسرة تتلون أحيانا ببعض السخرية الصاقلة، أو لنقل بالسخرية السوداء والمزاج الحاد الذي يأتي في قلب صفحات ذات قسوة (يقينية).
بيد أن بيسوا يمارس هذه القسوة، أولا، تجاه نفسه. من هنا، تكشف لنا هذه الصورة الذاتية غير القاسية، عن وعي رهيب، مثلما تكشف لنا عن الجانب الأكثر حميمية والأكثر عذابا، لهذا الشاعر المتعدد. إزاء ذلك، قد تشير إلينا هذه السمات الأكثر قتامة إلى تلك الدروب التي قادته فيما بعد إلى (بدلائه) الكبار، وإلى قلب عمله الأدبي والفكري بالذات. بهذه الطريقة، ينرسم أمامنا مسار، يبدو غير أكيد في البداية قبل أن يعود ويصبح حاضرا، وبقوة، كلما تقدمنا من صفحة إلى أخرى. صفحات ترسم لنا مسارا أليما (لسيرة) لم تكن واحدة، ومع ذلك فهي تعطينا السيرة الوحيدة التي يمكن لها أن تكون حقيقية: انها سيرة روح بحثت خلال حياتها عن تحقيق (عبقريتها) التي كانت تعرف أنها موجودة، ومن خلال وحدة، يمكننا اليوم أن نجتازها بفضل هذا الكتاب.
كلمات
بالإضافة إلى ذلك كله، ثمة (قاموس() تيمات، يمكن أن يكشف لنا عن بعض الجوانب، من هذه السيرة الشخصية:
- الوحدة: كثيرا ما اشتكى بيسوا وبمرارة من أن ليس له أصدقاء حقيقيين. لو كان ذلك صحيحا، في هذه الفترة من حياته، لوجدنا أيضا أنه ارتبط بصداقة مع شخصين على الأقل، كان يعتبرهما من المقربين جدا إليه: الشاعر والرسام ألمادا نيغريروش، الذي كان يلتقيه كل يوم تقريبا، والشاعر البرتغالي الكبير ماريو دو سا كانييرو، (أناه الأخرى)، و(قرينه) و(المعادل) له من دون أدنى شك، الذي ارتبط معه بصداقة كبيرة، لم تنقطع إلا بشكل مأساوي، حين انتحر الشاعر الشاب في باريس عن عمر 26 سنة.
وينبغي أن لا ننسى أيضا، أصدقاءه الكثر الذين عرفهم في المجلات الأدبية: (أورفو)، (ريناسينسا)، (بريزينسا)، الخ... كما الساعات الطويلة التي قضاها في حلقات (المخلصين) في مقهى (برازيليا). من هنا قد يكون من المفيد أن نبحث عن هذه (النسبية) ما بين تأكيداته كقوله: (لا أقوم بزيارة أحد)، وما بين توصيفاته الحادة ل (حياة المقهى) كما نجدها في (كتاب اللادعة).
- القراءة: (لم أعد أقرأ شيئا)، (فيما مضى كنت أجيد القراءة)، (حاليا، وحدها الروايات البوليسية...) الكثير من العبارات التي تأتي لتظهر هذا التناقض بين ما يقوله هنا وبين هذا التأكيد في تنوع القراءات التي عرفت عن بيسوا، في شتى المجالات: الآداب اللاتينية والإغريقية والانكليزية والفرنسية والبرتغالية، علم النفس، التحليل النفسي، علم الاجتماع، السياسة، التاريخ، البيولوجيا، نظرية التطور والارتقاء... كان قارئا شرها، بإمكانه أن يستعيد، غيبا، وهو يكتب، مقاطع من شاتوبريان أو ميلتون، من ادغار الن بو أو لومبروزو.
- الكحول: إن (عظاته) في القناعة والزهد، التي يجددها على مر هذه الصفحات، تبدو مبررة بشكل كامل من خلال لازمتها الأكيدة: كان بيسوا يشرب، ويشرب كثيرا، حتى وإن لم يشاهده أحد. بدأ بالشرب باكرا (كما تؤكد النصوص) وانتهى الأمر به بأن أصيب بتليف بالكبد. لكنه لم يكن يجيد العمل أو الكتابة إلا بهذه الحالة.
- الفشل: إنه أحد التيمات الأساسية في عمل بيسوا وفي حياته. فشل انحنى تحت جميع أشكاله: التخلي المتحرر من الوهم عند ريش، الثورة واليأس عند كامبوش، التكرار النحيبي عند شواريش، لكنه اليأس المطلق عند بيسوا (شخصيا). ومع ذلك، حين يؤكد، في عيد مولده الثامن والعشرين بأنه (لم يكمل شيئا، لم يفعل شيئا في حياته...)، كان في حسابه العديد من الحركات الأدبية التي أبدعها وحده والتي (ثورت) الأدب البرتغالي، كذلك كان أسس العديد من المجلات الأدبية الطليعية، والأهم كان قد كتب (حارس القطيع) (باسم ألبرتو كايرو) وبعض نصوص ألفارو دو كامبوش الطنانة.
- الإخلاص: قليلة هي الكلمات الأكثر نسبية من هذه الكلمة، عند بيسوا. بعض النقاد، أصروا كثيرا على الجانب (اللعبي) (المتعلق باللعب) في أدبه، كما على هذا (الفن في المراوغة) الذي اعترف به الشاعر، لا ليكذب، بل ليهرب حميميته من النظرات، عبر التنكر، عبر حمله، بمعنى من المعاني، من مكان إلى آخر. شرح هذا الأمر في العديد من نصوصه، مع إشارته بوضوح أن في ممارسته هذا التنكر المستمر، هناك خطر أن يفقد كل شيء. مهما يكن من أمر، إن من قرأ ألفارو دو كامبوش أو شواريش أو أحد هؤلاء الشعراء العديدين كما قصائد بيسوا نفسه، لا يستطيع أن يشك في (إخلاص) بيسوا حين كان يتحدث عن كربه وعن (رعبه من العيش)، وعن فراغ الكائن المرعب، بينه وبين نفسه، في وحدته العميقة.
- المرأة: إن بغض النساء، من الأفكار الواضحة في العديد من كتابات بيسوا، وهي معروفة، لدرجة أنها تبدو بمثابة بيانات ضد النساء والنسوية على حد سواء، وإن جاءت أحيانا على شكل (المزاح الأسود). في الواقع، تبدو الحقيقة أكثر تعقيدا: إنها المرأة المثالية، السامية، غير المتجسدة مطلقا (في (كتاب اللادعة) عند شواريش)، الغياب شبه التام لأي نوع من أنواع الجنسانية (في (حارس القطيع) لألبرتو كايرو)، المثلية الجنسية المحجبة بالكاد (في (أناشيد) ريش)، السادية المازوشية (في (الأناشيد الكبرى) عند كامبوش)، العنف بدرجته الأقصى في القصائد الإنكليزية، كما اللايقين الذي اعترف به بيسوا نفسه في هذا المجال، ما يتح لنا أن نفسر نهائيا هذه الجنسانية، الواقعية أو المفترضة، عند هذا الشاعر المعاصر لأوسكار وايلد.
من (الفانتسمات) الهذيانية في مرحلة شبابه الأولى ولغاية (النصف اعترافات) المثلية في نص (سيدة الصمت) (السيدة، إشارة للسيدة مريم) وصولا إلى هذه الملاحظة الجوهرية: (لا يهمني الجنس). من هنا لا نستطيع حقا تحديد الواقع المعيش عند بيسوا إلا عبر قراءتنا لما... بين السطور، الشيء وضده. كذلك علينا أن لا ننسى هذا (التبتل) الذي يؤكده بيسوا بنفسه (عندما كان في الثلاثين)، في هذه النصوص (التخاطبية الوسيطية)، من هنا، قد لا نرى في الأمر أي يقين يمكن الاعتماد عليه. ربما هناك حقيقة وحيدة: لقد أحب بيسوا فتاة حقا، أوفيليا، بشغف وبحنان، لكن من دون أي علاقة جسدية. حب متبادل مثلما تشهد عليه رسائله إليها ((كتاب رسائل إلى الخطيبة))، وكما تشهد رسائلها ((رسائل حب إلى فرناندو بيسوا))، مع العلم أن رسائله، لا تفعل شيئا إلا تأكيد هذا البغض للنساء.
الحب؟ مجرد رسائل
من فكرته هذه، عن النساء، ندخل إلى الكتاب الثالث (رسائل حب إلى فرناندو بيسوا) لأوفيليا كويروش. كما قلت سابقا، كانت علاقة بيسوا بالجنس علاقة ملتبسة، ولم يعرف عنه، سوى علاقة حب واحدة مع أوفيليا كويروش. روى علاقته بها، عبر سلسلة من الرسائل، صدرت بعنوان (رسائل إلى الخطيبة). يومها اكتشفنا هذه العلاقة المليئة بالشغف، التي امتدت على فترتين متقطعتين. لكنه لم يستمر، إذ رغب في الانفراد أكثر داخل وجوده، ليغرق في هذه الكآبة، غير المدمرة بتاتا، بل التي كانت الدافع والمحرك الحقيقي، لعمله الأدبي.
(كجواب) على (رسائل الخطيبة)، تجيء رسائل أوفيليا، لتظهر لنا الجانب الآخر من المرآة، من هذه الحياة، التي مضت في الكتابة. بدأت العلاقة بين الاثنين، في بداية العام 1920. كانت أوفيليا لا تزال شابة في التاسعة عشرة من عمرها، بينما يكبرها بيسوا بإحدى عشر سنة، وقد عملا معا في الشركة عينها.
في هذا الكتاب نحن أمام سلسلة طويلة من الرسائل التي بعثت بها إليه، وأحيانا أكثر من رسالة في اليوم الواحد. رسائل، قد لا تحمل أي فكرة من أفكار صراع الوجود، بل رسائل عادية، لشابة وقعت في الغرام لأول مرة في حياتها. لكن في مقارنة ما بين رسائلها ورسائل بيسوا نفسه، تبدو لنا اوفيليا، أكثر شغفا، أكثر تعلقا، لم تفهم كيف يمكن للكتابة أن تسرقه منها، ون لم ترغب أبدا في أن يتوقف عنها.
ثمة مسافة، بدون شك، بين الاثنين، حتى حول مفهوم الرسائل بحد ذاته. في (رسائل الخطيبة)، ثمة جملة صادمة، يقولها بيسوا لأوفيليا، (كل رسائل الحب سخيفة). كان يبحث عن كنه هذا الوجود. أما هي، فتجيء رسائلها مليئة، بهذه الأحاسيس الطبيعية، لشابة، لا علاقة لها بالكتابة، بل كانت الوسيلة للتعبير عن صدق مشاعرها، عن أحاسيسها العادية التي تشعر بها أي (مراهقة) في عمرها.
مهما يكن من أمر، إن كانت هذه الرسائل، تؤكد على حقيقة هذه العلاقة التي جمعت بيسوا بفتاة، في علاقة حب، إلا أنها تأتي لتؤكد أيضا، على (لا جنسانيته). لا شيء يشير، ولو تلميحا، إلى إمكانية علاقة جسدية، قد حصلت. لقد اعترف ذات يوم (أن الجنس لا يهمه). ربما العلاقة الوحيدة، هي مع الكلمات، انها الوحيدة الحقيقية التي جعلته، حاضرا. ألم تقل له أوفيليا في إحدى رسائلها: (لن تموت أبدا، ستكون لي دائما، وسأحملك معي دائما). هذا ما فعلته في الواقع، وإن كان هو، في مكان آخر.
جميلي فرناندينيو
ستسامح اليوم طفلتك لأنها تكتب لك بقلم رصاص، لأني لا أستطيع أن أكتب بقلم الحبر، وبما أنني لا أرغب في أي حال من الأحوال في أن لا أكتب لك، وكما أن الساعة تخطت منتصف الليل، لا أستطيع الانتظار أكثر، إذ بي رغبة كبيرة في النوم.
هل أصبح حبي العزيز في سريره؟
لا تستطيع أن تتصور كم كنت سعيدة اليوم. حتى أنني أكلت بشكل أفضل. هل رأيت أثر حبي لك أكثر فأكثر؟ لقد حكمت عليّ نهار الأحد بأني لم أفرح برؤيتك!
صبرا.
سأذهب للتنزه. حسنا، سأذهب إلى (ريغو) لرؤية شقيقتي (1). حتى إن لم تشاهدني، هل ستفكر بي كثيرا؟ رحمة بالله؟ إذاً أنت متعب من العمل بهذا القدر! يا حبي الصغير المسكين الذي عانى كثيرا من المتاعب مع قصة مسكنه، لكنك سترتاح الآن.
اليوم أيضا لم أفاتح أختي بعد بخصوص موضوعنا، سأحدثها غدا. إذاً أنا حبك الصغير، الصغير جدا؟ لكنك تعرف أن حبي لك هو حب كبير،كبير....
قلت لي اليوم إني لو كنت معتادة التسلية وإني أحب ذلك، وإني لم أختر الرجل الذي يناسبني. قل لي، رجاء، يا حبي، أي تسلية يمكن أن أطمح إليها، إن لم تكن البقاء قربك؟ إن لم أعش معك وإن لم نكن صديقين صديقين حميمين؟! (هذا ما ستكون عليه الأمور). هذه هي السعادة الكبيرة التي أطمح إليها.
لا تنسَ الصورة يا نينينيو (2)
لا تتركني أنتظر أكثر!
نلتقي غدا في مكاننا المعتاد.
أريتُ أمي اللعبة (3) وقد وجدتها مضحكة جدا.
(أشعر بنعاس كبير، تأخر الوقت جدا ولن تأتي، وسريرنا الصغير مفتوح.) لو بإمكان ذلك كله أن يكون حقيقيا.
إلى اللقاء، حبيبي فرناندينيو، سأذهب للنوم، حسنا؟
أشكرك كثيرا على قبلك وأرسل إليك الآلاف منها، وكلي يقين أنه من الصعب القيام بذلك بشكل حقيقي، علينا أن نُسر ونكتفي بتبادلها بهذه الطريقة.
أنا صديقتك الكبيرة، الآن وفيما بعد.
أوفيليا كويروش
آه، أريد أن أشطب من حياتي كل الوقت الذي لا أمضيه بالقرب منك!
24 3 1920 (الثانية عشرة والنصف من منتصف الليل)
السفير- 2005/04/29