غالباً ما تظهر مخطوطات أدبية شعرية أو روائية تغير في اسطورة شاعر او كاتب راحل بل ان الأمر اصبح شبيهاً بالسباق الى الشهرة والثروة خاصة بالنسبة الى اقارب او اصدقاء او ورثة الأدباء الراحلين، لكن ما لم يكن في الحسبان ان تظهر مخطوطات شعرية غير منشورة وغير معروفة تخص الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري الذي كان يظن النقاد انهم استنفدوا ادبه وتفاصيل حياته ولم يعد هناك من مفاجآت على سيرة حياته المعروفة. لكن ما يحصل اليوم هو ان الكتاب الشعري الصادر حديثاً وعنوانه «كورونا وكورونيللا، قصائد الى جان فوالييه» الصادر عن «منشورات دوفاللو» في باريس لا يضيف فقط كماً شعرياً الى مجموعة القصائد الكبيرة التي تركها فاليري انما هي تغير وجهة سيرته كلها التي كان بناها النقاد كما الشاعر نفسه على مبدأ اتخذه في صباه وكان تحديداً يبلغ 22 عاما، بأن ينقطع عن الكتابة حول الحب والمشاعر بعد قصة عشق شغوفة اوصلته الى حافة الانهيار واليأس. بعدها عاش فاليري طويلاً، وتزوج وأنجب الابناء واستمر في كتابة الشعر، ذاك الشعر الذهني الصارم والعقلاني واللغوي المتمرس والابداعي انما كان شعراً بعيداً عن القلب ولواعجه. صحيح انه كتب للحب وعن الحب والحبيبة لكن ثمة مفصل زمني وحياتي ابعده عن تلك العواطف وكان معلم القصيدة المنحوتة نحتاً لغوياً صعباً ويعصى على القراء غير المتمرسين، الى ان اخذته الأبحاث والدراسات الأدبية والفنية فوضع عشرات الكتب المتخصصة، وبعد كتبه الشعرية الشهيرة: «بارك الشابة» ـ 1918 و «المقبرة البحرية» ـ 1920، و«فتنة» عام 1922، تحول نحو كتابات متنوعة: «نظرات على العالم الحالي»:
1931، «خطاب على شرف غوتيه»: 1932 و«دوغا، رقص، ورسم: 1938، و»أفكار سيئة وغيرها«: 1942، و»فاوست خاصتي«: 1946، و»افكار حول الذكاء« وغيرها من الكتب الجافة نسبياً والغنية بأفكاره وطروحاته انما بعيداَ عن الشعر، لكنه عاد وكتب الشعر الذهني الذي كان يطلقه ثم يعود اليه وذلك حسب مزاجيته واحساسه المتبدل نحو المشاعر والعواطق، كان فاليري يمر بأزمات نفسية وفلسفية تجعله يرفض احياناً كل المسلمات وكل تفاصيل الحياة اليومية ليعود الى الكتابة مجدداً.
كل هذه المناخات المتضاربة في حياة بول فاليري الذي اعتبره عدد كبير من النقاد عصياً عليهم يعاد النظر بها اليوم اثر اكتشاف قصائد شعرية ومجموعة رسائل هائلة كتبها كلها بوحي من قصة حب عاصفة عاشها وهو في السابعة والستين مع امرأة تبلغ نصف عمره جعلته يعيش الحب والشغف من جديد ويكتب الشعر الغزلي كما لم يفعله من قبل. ولكن من هي تلك المرأة؟
انها جان لوفيتون، وكانت آنذاك روائية شابة توقع كتبها باسم مستعار هو جان فوالييه، وثمة صور كثيرة تجمع هذه الشابة بالشاعر خاصة في مرحلة الحرب العالمية الثانية التي كان له مواقف كثيرة منها كانت تنشر له صور فوتوغرافية عديدة في الصحف والمجلات لكن وجوده مع هذه المرأة كان يمر في الصحافة على انها واحدة من معارفه الكثيرة والعلاقة بقيت سرية كذلك الكتابات المتعلقة بتلك المرحلة لأنه لم ينشر منها شيئاً، لكن، ما كان مصير القصائد المكتوبة لجان لوفيتون؟ مسار العلاقة يشير الى ان فاليري استمر بحبه لجان فترة سبعة اعوام لكن المرحلة انتهت بأن تخلت عنه جان لتغرم بروبير دونويل. عندها انهار فاليري، والمرأة التي من أجلها عاد عن قراره بعدم كتابة الشعر مجدداً ليكتب لها اجمل الأشعار، تخلت عن حبه، واصابه المرض وانعزل في منزله بعيداً عن كل الحياة الصاخبة التي كان يعيشها وبعيداً عن كل التزاماته المهنية ومسؤولياته الكثيرة في »الأكاديمية الفرنسية« وفي »الكوليج دوفرانس«، وفي الجامعات الخارجية وفي المعاهد والصالونات الأدبية التي كان حضوره متوهجاً فيها.
وخلال هذا الاعتكاف في المرحلة الأخيرة بعد فراقه مع جان كان يعيد النظر في كل ما كتبه من اشعار وقصائد لها لكنه لم يلبث ان فارق الحياة بعد شهور قليلة من رحيل جان عن حياته. اما القصائد، فما كان مصيرها؟ ولماذا لم تنشر حتى الآن؟ أكثر من ناقد وباحث في شعر فاليري يعرفون ان الشاعر كتب في سنواته الأخيرة شعراً رائعاً والقصائد هي في حدود 150 قصيدة، رفضت العائلة التي تضم كلاً من زوجته وابنائه، الافصاح عنها لكن الأمر اختلف مع احدى حفيداته »المتسامحة« على ما يبدو مع »خيانة« الجد التي لم تسامحها لا الزوجة ولا الابنة، وهي اتفقت مع الناشر برناردو فاللوا ليصدرها في ديوان شعري يليق بفاليري. لكن مصدر هذه القصائد ليس فقط الحفيدة، انما هناك جزء منها كان بحوزة العشيقة جان التي طالبها فاليري باسترجاعها لكنها رفضت، وهي باعت في مزاد علني عام 1979 في باريس جزءاً صغيراً من القصائد والعديد من الرسائل، كذلك عام 1982 في مزاد آخر في مونتي كارلو. وهذه القصائد بالتحديد هي التي استطاع ان يتناولها ميشال جاروتي في السيرة التي وضعها عن الشاعر فاليري.
كذلك استخدمتها الباحثة سيليا برتان في سيرة كتبتها عن جان فوالليه، والكتابان يصدران هذا العام او مطلع العام 2009، الى جانب كتاب »كورونا وكورونيللا« قصائد الى جان فوالليه الصادر حديثاً ليشكلا معاً نافذة جديدة على نتاج بول فاليري الغني والخصب في الشعر والفلسفة والعلوم الفنية والفكرية، وفي هذا الكتاب بول فاليري آخر سيظهر امام القراء، او ربما هو الوجه الحقيقي له الذي لم يفعل سوى اخفاء ملامحه طوال سنوات حياته، او ربما هو القلب الذي جعل الشاعر عقله يتغلب عليه ويكسره ويهدم احلامه وامنياته من دون ان يدري انه سيتمرد عليه يوماً ليعود ويطفو على سطح الحقيقة التي لطالما بحث عنها في كتاباته.
قصائد من »كورونا وكورونيللا« لبول فاليري
جان، جسدك يلاحقني
آه من يديك المليئتين يا جان
آه من الأفكار التي يعود اليها صمتكِ وصوتكِ
وذاك المزيج من الظلال والصيف الذابل
الذي شربنا منه في عمق الغابات المميت..
ما ان أتركك، لتصيري جان افكاري
المتكئة ككائن حنون فوق طاولتي حيث اكتب
وحيث قلبي فجأة يرسمها متطاولة امامي
فيتخبط عملي في مجاهل روحي
همومنا، مللنا، واجباتنا، اعمالنا
ليست امام الحب سوى سعاة ضائعة آه من القبلات الغالية، آه من اللمسات الناعمة، آه يا جان، يا افتتان عملي المعلق.
(...) وأبياتي الشعرية، أبياتي الشعرية الحزينة، تلك التي كتبتها بكل فني وبكل قلبي، يجب ان تذبل. الآن، انت تجعلينني اضحوكة.
لقد توقفت عن قول اشياء كهذه. كبريائي، كما عاطفتي يجب ان تمنعاني عن ترك اي اثر.. لن تكوني يا ابياتي الشعرية هذه مطبوعة بتأن وفي كتاب صغير كنت اراه امام عيني، وهو ليس له.. ناشر...
سوف اشعر بالخجل لأنني فعلت هذا، ولأنني شاركت في وضع هذا التاج الذي كنت انت ابياته (..) انا احبك يا ابياتي الشعرية ومجرد ان اراكِ افكر بأنه كان هناك سواك الكثير، الكثير... ولكن يجب الا نثق بأحد ولا يجب ان نؤسس على أعمال اي قلب..
المستقبل
الخميس 13 تشرين الثاني 2008