القسم الأول . الفصل الخامس 2
لقد غمر التيار المعني بالعواطف الذاتية كتاب القصة الرومانسية القصيرة في الخليج العربي فاهتموا كثيراً بالتعبير عن عواطف الحزن، والحب وتقلبات الوجدان بين اليأس والرجاء . وكما شغلتهم علاقة الرجل بالمرأة في نظام الزواج، واشتقوا منها مشاعر القلق والخوف والحيرة والخيبة، شغلتهم هذه العلاقة مرة أخرى، ولكن في أقوى العواطف التي يمكن أن تقوم بين الرجل والمرأة، وهي الحب .
وينبع نمو عاطفة الحب لدى كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة من تأثرهم بالقصة العربية، وبخاصة القصة المصرية - فالحق أن عاطفة الحب قد تطورت كثيراً في فنون الأدب العربي الحديث ( وبخاصة بعد أن شاعت بين الأدباء قصص بول وفرجيني، وتحت ظلال الزيزفون، وسيرانودي برجراك، وآلام فرتر ورافائيل . ومثال هذا الحب الرومانسي موجود في كتابات وقصص كبار كتاب الجيل الماضي مثل قصة زينب لهيكل، وكثير من قصص تيمور، وعودة الروح لتوفيق الحكيم وإبراهيم الكاتب) للمازني (21).
وتعبر القصص القصيرة التي عالجت عاطفة الحب بين الرجل والمرأة عن انهيار ما كانت تمثله تلك العاطفة من حلم أثير، كما تعبر عن تداعي صورة المثال المجنح . إما بقوى غيبية كالقدر أو الصدفة، أو أن تداعيها ينبعث من تداعي قيم الفضيلة والشرف، فهي بذلك لا تخرج عن تصوير الشعور العارم بالخيبة والانهيار في هذه الفترة .
وأول ما نعثر عليه من قصص الحب الرومانسي في الخليج العربي قصة (يوم إنزال السفن ) (22) التي نشرتها جريدة (البحرين ) بتوقيع مجهول في عام 1943. وهذه القصة تتميز عن القصص التي نشرتها بكثير من السمات الفنية الناضجة . ورغم ذلك فقد توارى كاتبها ولم يشأ التصريح بإسمه وإن كنت أرجح أن كاتبها هو عبدالله الزائد الذي رمز لإسمه بالحرف الأول (ع) وقد كان الزائد ينشر مواد أدبية كثيرة دون إشارة إلى إسمه .
وتصور هذه القصة كيف يجول الحب في صدر فتاة جميلة ويتهادى مع كل آمالها حتى يصبح حلمها الكبير . ولكنها لا تكاد تشعر بتفتح هذا الحلم حتى تأتي صدفة قاهرة تقتلعه من داخلها وأمام ناظريها .
ويقف الكاتب طويلاً مع بطلة القصة (مريم ) فيصف مظهرها الخارجي بما هي عليه من جمال ورقة وحلاوة واستدارة رائعة لوجهها وعينين ساحرتين وشعر ذهبي طويل، ويصورها الكاتب مغرمة بهذا الجمال فهي تنظر دوماً إلى مرآتها تتفحص شعرها، وجسمها، لأنها اليوم تحب (عامر ) الذي يعمل بحاراً مع والدها (نوخذا ) السفينة . ولا يعبأ الكاتب بهذا الفارق الطبقي بين البحار الفقير وبين ( مريم ) بوصفها ابنة أحد ربابنة السفن لأنه يريد أن يسمو بعاطفة الحب سمواً كبيراً، ترتفع فيه عن ذلك الفارق .
وحيث أن البيئة المحلية لم تكن تتيح اللقاء بين الرجل والمرأة فإن الكاتب يلجأ تخلصاً من ذلك إلى تصوير الحدث في القصة من خلال بدء موسم الغوص . ففي هذا اليوم يتجمع ( البحارة ) لدفع السفن في البحر، كما تأتي الفتيات على الشاطئ ليغنين ويعبرن عن الفرح ببدء الموسم، وتبدو بطلة القصة هنا وهي تستعد للذهاب إلى شاطئ البحر مع الفتيات حيث سيكون هناك ( عامر ) الرجل الذي تحبه، ويجمع هذا الموقف بين انبثاق الحلم الذي يمثله عامر .. وبين تسلل الحزن الذي ينبعث لها من أعماق يائسة بسبب مشاعر رومانسية دفينة نابعة من عدم اهتمام عامر بها، وما إن تصل إلى الشاطئ حتى يستقبلها عامر من بين جميع الفتيات ويهيئ لها مكاناً نظيفاً في السفينة ويبدي لها حماساً وحباً . فتدهش ( مريم ) وتنتابها هزة عنيفة من البهجة والسعادة، وتحدث نفسها :
( سأسجل في مذكراتي أن أهنأ يوم في حياتي) يوم إنزال السفن (وبذا تستسلم لحلم لذيذ في اللقاء وتنتظر عامر وهو يدفع مع الرجال السفينة الكبيرة بظهورهم القوية، وفجأة انزلقت السفينة بسرعة فائقة فوق الأخشاب المدهونة فهوت بمن عليها، وصرخ الرجال والنساء ولكن تلاشت جميع الصرخات مع صوت مفزع لعامر الذي أصبح جثة مهشمة ونظرت مريم إليها باهتة وهي تردد ) مات .. مات .. ) .
ويكون موت عامر بهذه الصدفة الباغتة انهياراً قهرياً لحلم الفتاة بعد أن تجسد الحب لديها، وتوهج في قلبها، وتخلص من اليأس وتفتح في عالم يذكرنا بالأجواء الرومانسية العبقة التي جالت فيها بطلات الحب في الروايات الرومانسية العربية، فهي في غمرة اللقاء بعامر تستل منه مزماراً ) وجعلت تمر به على شفتيها الرشيقتين فتبرز منه صوتاً موسيقياً ساحراً يتفق وأغنية حبيبها عامر ( وهو ينشد ) هو يا مال ) (23) مع الرجال .
وقد أراد الكاتب أن يجعل لتلك المصادفة نوعاً من الانبهار والألق بحيث تكسب الحدث النهائي السريع .. خيبة مأساوية عميقة . وتكون مفردتها (مات .. مات) التي ترددها بمثابة الصدى الداخلي لتلك الخيبة، لأن الموت هنا هو موت حلمها الحقيقي .
وقد هيأ الكاتب لهذه الخيبة القهرية انسياباً يشبه انسياب الحلم، فقد استغرق الجانب الأكبر من القصة لتصوير تراقص الحلم في قلبها، فهي سعيدة بجمالها، وفتنتها، وبالحناء في يديها، وهي سعيدة برقصها على الشاطئ، وبالأغاني التي سترددها، وهي منطلقة كل الانطلاق من أجل هذا اليوم، وكما يصف الكاتب ذلك :
( نهضت مريم مبكرة، وبعد أن أخذت حماماً ساخناً خرجت تختال في مشيتها. وذهبت من فورها إلى الحجرة التي تسكنها (مرآتها العزيزة) تلك التي تعكس لها صورتها وتكشف لها جمالها كلما تاقت إلى رؤيته وما أكثر ما تتوق . جعلت مريم تمشط شعرها آناً وتسرحه آناً وتتأمل في سواد عينيها .... جعلت تتناول فطورها وهي تدق بحذائها الجديد اللماع على سطح الحجرة دقات موسيقية تجاوب بها دقات الطبول المارة بحجرتها وهي في طريقها إلى الساحل حيث يجتمع الناس كبارهم وصغارهم رجالهم ونسائهم (كذا) وكلهم فرحون متحمسون لذلك اليوم البهيج الذي ينتظرونه بفارغ الصبر ... وربما انقطعت عن الأكل وراحت تتحدث في نفسها إلى (عامر) ذلك الشاب الساحر الذي سلب منها أنسها وصفاء حياتها، فتظل تعاتبه في ثورة تامة وفي خشوع تارة أخرى . وهي تذرف الدموع الغزيرة من مقلتيها .. ) (24).
ونلمس من خلال هذا الوصف صورة راقصة للمشاعر التي تضج في قلب بطلة القصة، وتتردد جوانبها بين الحلم .. والإحساس بالحزن الداخلي . ولكن لا يلبث الكاتب أن يفتح دائرة الحلم ويتسع بها عندما تلمح ( مريم ) بوادر حب عامر لها . فيتوارى ذلك الإحساس الحزين وتأتي بعد ذلك المصادفة القهرية (الموت المفاجئ (لتقذف بالحلم الدائر وتحطمه بكل قسوة .
ورغم أن الكاتب يلجأ إلى المصادفة كما يلجأ الرومانسيون إليها غالباً عندما يجعلون منها عاملاً من عوامل السقوط والتداعي للمشاعر الفردية المتفتحة، فقد حرص على أن يميز الوصف لديه بقدرة وعناية تنقل لنا الكثير من المظاهر المحلية في مجتمع الخليج لا لكي يصور واقعاً اجتماعياً رثاً، بل لكي يضفي جواً رومانسياً حالماً، متسللاً من الخارج ليعانق مشاعر بطلة القصة .. فهو يصور فرح النساء بهذا اليوم الذي سيذهبون فيه إلى الشاطئ بل إنه يجعل البطلة مع الفتيات يرددن إحدى أغاني ) المراداة ) (25) الشعبية، كما يبين كيفية استعدادهن لهذا اليوم في ارتداء الملابس الجميلة .. ورسم الأيدي بالحناء ونحو ذلك مما تتعارف عليه البيئة المحلية لتجعل من هذا اليوم يوماً ممتلئاً بالمشاعر والعواطف، وليكون بعد ذلك جواً حقيقياً ملائماً لضربة القدر ولعواطف بطلة القصة التي تعيش أحلامها في هذا اليوم بصورة مختلفة عن غيرها من الفتيات .
وإذا كانت الصدفة قد اصطبغت هنا بموقع عرضي وميلودرامي وهي تستلب وجود الحلم والتدفق العاطفي في بطلة القصة، فإنها عند أحمد كمال في قصة ( القبلة المبتورة ) (26) تظل في عرضيتها ولكنها تنشر آثارها الميلودرامية، فترسم بها صورة بالغة للانهيار الذي يعقب الحلم وعواطف الحب .
فالقصة تصور حباً نما بين طفلين، حتى كبرا . ولقي الفتى نجاحاً في حياته الاجتماعية، وطلب منه عمه أن يتزوج ابنته التي تربى معها وأحبها منذ كان طفلاً فيقبل، ولكن قبل أن يتم الزواج كان في غرفته مع حبيبته يريد أن يقبلها، فتدخل عليهما خالته لتقول له بأنها أخته في الرضاع وأن عليه أن يبتعد عنها . ويصدم الفتى في ذلك فيغمى عليه ويصاب بلوثة جنونية، أما الفتاة فقد تزوجت ثم توفيت أثناء ولادتها، وقد أطلقت اسم حبيبها على ابنها الذي تركته بعد الوفاة .
والكاتب يصر على أن يتسع الأثر الميلودرامي بعد انهيار عاطفة الحب حيث يبرز لنا ما تثيره الصدمة والجنون والموت من تصفية للفرد بعد أن تنتكس المشاعر الصافية والمجنحة وترتد إلى الخيبة والتحول، ولعل توغل الخيبة هنا لا يأتي من بزوغ الحدث الميلودرامي بقدر ما يأتي من عدم القدرة على الاستمرار في حياة تداعت فيها القيم الشامخة والمثل التي أقامت قائمة عنيفة لوجود الحب والافتتان العاطفي بين شخصيتي القصة . فقد كانا يعيشان في تقارب روحي وتفاعل سما بمشاعرهما ووحد بينهما وفجأة وجدا نفسيهما أمام ضرورة تحطم مشاعرهما وتحولهما نحو عاطفة أخرى . ولكن انهيار عاطفة الحب الأولى لا تتيح الانسجام الجديد . وكأن وجود الفرد في هذه القصة مرهون بتحقق الحلم وانسجام العاطفة.
من كل ما سبق ندرك مدى ما تفعله الصدفة من انكسارات تحقق أسباباً خاصة لمأساة الفرد، لأنها لا تأتي إلا في سياق وجودها العرضي، فتجعل البطل أمام قوى غامضة في حين أن الأحداث المحركة لمأساة البطل أو ضياعه لا تظهر على أنها مصادفة، إذ أنه لابد من إيجاد الضرورة التي تبطل مفعول الصدفة، تلك التي تتألف في حلقة معقدة من العلاقات السببية، بحيث تكف الصفة العرضية للأحداث، وتأتي بها في خضم تفاعلات عديدة ملتحمة تقود إلى النهاية المحتمة . فما من شيء يفسح مجالاً واسعاً للمصادفة بحيث تصبح مثمرة من الناحية الفنية سوى تلك التفاعلات المتعددة المفعمة بالغنى والخصوبة التي تفقد المصادفة كلية من خلالها صفتها العرضية(27).
إن الكاتب الرومانسي في هذه الفترة يحرص حرصاً شديداً على أن يجعل البطل مقهوراً بأسباب لا خيار له فيها . ولا قدرة له على ردها أو تجاوزها. وقد كانت الصدفة العرضية وسيلة إلى ذلك، غير أننا في قصة ( كنت أحسبه شهماً ) لأحمد كمال نجد انهيار عاطفة الحب يرجع إلى خلوِّ المجتمع من قيم الفضيلة والشرف . فالرجل والمرأة في هذه القصة يفقدان التواؤم والانسجام عندما اختلت بعض القيم المثالية من حولهما . فلقد غاب البطل عن حبيبته فترة طويلة . ثم عاد إليها تنتهبه الأشواق في أن يجد لديها الخلاص من عناء السنين والحنين إلى الوطن . وما إن يصل إلى ميناء المدينة حتى يركض باحثاً عنها بين البيوت فيفاجأ بالتغيير العمراني في المدينة .. ويخالطه شعور غامض : ( لابد أن التغييرات شملت العاصمة على ما يظهر من كافة وجوهها ). ويكتشف ذلك بالفعل فهو حين يستدل على بيت حبيبته يجد كل شيء قد تحول في حياتها. فقد ذبل وجهها الجميل وذهبت طراوته، ودخلت قلبها الآلام. ولم تعرف السعادة، لأنها خدعت برجل وعدها بالزواج وحياة الشرف. وطمعت في أن تحيا حياة شريفة وتترك عنها العهر القديم، ولكنها وجدت الرجل الذي دخل في حياتها يبيح شرفها للآخرين ويتاجر به. فيتلاشى في داخلها الحلم.
وحين يدرك الحبيب العائد ذلك يرتد في داخله حلم الغياب وتنتكس عواطف الشوق والحب . فقد تغيرت في نظره هذه المرأة بسبب غامض يجول في أعماقه ولكن لا يدرك له كنهاً محدوداً :
( وبينما كانت مسترسلة في شكواها سيطر عليه شعور غريب لم يتذكر أن خامره مثله من قبل إلا في ليال طفولته عندما كانت أمه تخيفه بعسس الليل، فكان يتململ آنذاك في حجرها من الرعب والفزع ويضع أصابعه في أذنيه يصمها عن سماع الأصوات المنكرة .. إنه الآن يشعر الشعور ذاته، فقال مخاطباً نفسه : مال هذه المرأة قد تغير فيها كل شيء حتى صوتها الناعم انقلب إلى صوت مبحوح أجرش كعلقات الحجارة الصلبة إنه يود لو يشرد بسمعه إلى حيث لا يطرقه صوتها، لقد أدرك أن كل شيء هنا على عكس ما يرضاه لنفسه ) (28).
وتتعلق المرأة به وتتضرع متوسلة منه الصفح ولكنه يركلها باحتقار ويخرج عنها وفي طريقه إلى الخارج تلتقي عيناه بالزوج المخادع .. فيردد في داخله .. ( نذل .. كنت أحسبه شهماً ).
لقد صورت هذه القصة خيبة الحلم عند الرجل وارتداد عواطفه إزاء المرأة مقترناً بانهيار وضعها الاجتماعي وسقوط خلاصها الوجداني . فالرجل هنا عاجز عن أن يصفح أو يغفر للمرأة خطيئتها، لأنه أرادها مثالاً صافياً تحقق له حلمه الذاتي البعيد، فهو نموذج للبطل الرومانسي الذي لا يقبل لمثله وقيمه أن تشوبهما رذيلة، أو أن تأتي عليها عوادي الأيام لتخفي منها الطهر والبراءة، لذا فهو عندما يكتشف ما وقعت فيه من زيف يتحول إلى احتقارها ولا ينظر إلى ظروفها ودوافع سقوطها، لأنه تحت سيطرة نزعته الفردية التي أرادت أن تستأثر بالحلم والحب . لم يجد تبريراً لهذه النزعة سوى الصوت الغامض المبهم الذي ينبعث في داخله .. ليؤكد أن تحولات البطل الرومانسي ليس من الضرورة أن ترتبط بعلاقات ودوافع منطقية تنبع من الواقع الذي يعيشه، بل إنها قد تأتي من شيء مبهم في أعماقه، لا يدرك له كنهاً ولكنه يدرك له خضوعاً وانقياداً .
أما المرأة فقد ازدوجت لديها مظاهر الخيبة . فهي من ناحية لم يتحقق لها حلمها في أن تعيش الإخلاص والشرف مع الرجل الذي تزوجها وكأنه أراد أن ينقذها في حين أنه توغل بها إلى الخطيئة . وهي من ناحية ثانية تتعلق بالحبيب العائد وتطلب منه الخلاص في أن يصبح سيداً لبيتها ولكنه يهرب عنها ويحتقرها . فقد جاء إليها حالماً، وهي تتعلق به منقذاً، وحيث يسقط حلمه فيها، يسقط حلمها في أن يكون لها منقذاً .
إن البطل الرومانسي لا يمكن أن يكون منقذا في عالم يقوده إلى الانهيار والخيبة لأنه نفسه يعاني من أزمة البحث عن المثل العليا التي تستوعب عواطف الحب في وجدانه . إنه يخوض هذه الأزمة بتوهج ذاتي بالغ، فيقع في نهاياته ومآزقه وقوعاً قد يكشف عن أن الخلاص سراب ووهم مجرد .
وتصور لنا قصة ( عاشق الصورة ) (29) لعلي زكريا الأنصاري كيف تتوقد مشاعر الشخصية الرومانسية أمام صورة جامدة، بحيث تستلهم منها عواطف من الحب والخيال وكأنها تبحث عما في داخلها من ( مطلق ) عن الحب والجمال . عبر ما تراه من ( مجرد ) في اللوحة الفنية لصورة امرأة جميلة . ويجعل الكاتب بطله يخوض هذه المهمة الصعبة ثم يؤول إلى نهاية مرة خائبة.
إنه يعشق الصورة المعلقة في غرفته التي يستأجرها من سيدة، فتشغله، وتمثل له كل القيم التي يحلم بها في المرأة من فتنة وجمال، ومن تعلق روحي بعد أن أوحى له خيالها أنها مخلوق روحاني سام، ويزداد اتصاله بها . فيتوهم معها الأحاديث ويتصورها في غاية الطهر والبراءة . ويندفع للبحث عنها بعد أن أخذ عنوان صاحبة الصورة من السيدة التي استأجر منها الغرفة، وحين يذهب إليها يكتشف أنها في عمر جدته، لأن الرسام رسمها منذ أكثر من خمسين عاماً، ويتجرع مرارة خيبته وهو يسخر من نفسه ومن أوهامه .
القسم الأول . الفصل الخامس 3
قاد الشعور بالخيبة والتخلف الشديد في المجتمع إلى تمزق العواطف الفردية، فالشخصية تقف دوماً أمام إحساس كبير بالتناقض بين الصفاء ونقاوة المشاعر والظلم والقيود على الحرية والانعتاق . ثم تقف أيضاً أمام افتقارها وحاجتها الشديدة إلى الانسجام، وإقامة التوازن مع الواقع المحيط بها حتى لا يفلت منها الزمام وتغرق نفسها في اليأس والتشاؤم .
وندرك التناقض بين الصفاء والفطرة الإنسانية وبين الظلم والأنانية المستبدة في قصة .. ( الطفولة المعذبة) (35)، لعلي زكريا الأنصاري .. التي يصور فيها ما يتعرض له عالم الطفولة من إيذاء واضطهاد، وبخاصة من الآباء الذين يقوم الارتباط بينهم وبين الأطفال وفق شروط الامتثال والخضوع .
وتحتوي هذه القصة على احتضان رومانسي لمشاعر الطفولة، يحرص الكاتب في الوقت نفسه على أن يوجد لها منطلقاً واقعياً يتمثل في نقد الأسلوب التربوي المتخلف الذي يمارسه الآباء في تربية أطفالهم . فالأب في هذه القصة يضطهد ابنه ( محسن ) ويحرمه من المتع البريئة ويضربه ويحقره أمام الأطفال الذين يرثون له، ويكرهون هذا الأب القاسي . وتتولد مشاعر الحزن والخجل والانطواء وعدم الثقة في نفسه، وبخاصة حين يتمادى الأب في اضطهاده، ويذهب إلى مدير المدرسة ليخبره أن ابنه عاق يـتبع أبـناء السـوء، فيتـعرض الطـفل لظلـم شديد حـيث يضربه المـدير ضـرباً مبـرحاً ثم يودعه في غرفة مظلمة يوماً كاملاً ليكون عبرة لغيره من الأطفال، فيقرر بعد الخروج أن يهرب من والده، ويتجـه إلى بيـت خـالته مشحـوناً بالأمـل فـي أن يجـد الحـرية
والتربية التي يحلم بها ولكنه يضل الطريق، فيصادفه رجل يرجعه إلى بيت والده لتظل حياته كلها تحت وطأة الخوف والظلم وتكمن الملامح الرومانسية في هذه القصة في التعشق الشديد لمشاعر الطفولة وهي تعايش العذاب بفطرتها وصفائها ومدركاتها النقية النقيضة لمدركات سيطرة الإنسان في واقع الأبوة المتعجرفة . وتبلغ تلك المشاعر ذروتها عندما يتمزق في داخلها الإحساس بالأبوة، ويتحول إلى كره وبغض شديدين نحو الأب وبخاصة وهو يحمل في أعماقه الأحلام والآمال بالحرية عندما يرى ابن خالته ( عزيز ) الذي يربيه والده تربية جيدة ويقدم له الهدايا وينعم عليه بالعطف والحنان، فتنتشر في قلب الطفل مساحة عريضة من الإحساس بالظلم، والكره والرغبة في الانعتاق وبخاصة عندما يصوره الكاتب بعد خروجه من الغرفة المظلمة الموحشة، وقد امتزجت مشاعر الانعتاق مع ضخامة الإحساس بفداحة الظلم.
إن القيم الرومانسية هنا تتعلق برباط وثيق مع ما يريد الكاتب تصويره من انهيار المثل الصافية والأحلام الفطرية كما تنمّ عنها مشاعر الطفولة التي يشتاق إليها الرومانسيون . فلقد تعرضت الآمال البسيطة الفطرية عند محسن للاصطدام مع واقع الأب الظالم الذي يسيء تربية ابنه، في حين لم تتجاوز تلك الآمال عالم الطفولة ومشاعرها البريئة في اللعب بحرية . أو التوافق مع الأطفال الآخرين والانطلاق معهم في حلم بعيد كذلك الحلم الذي نفّس به عن حرمانه الشديد عندما تصور نفسه يلعب مع ابنة خالته ( وضحة ) لعبة الزواج، وكأنهما يحلمان بها عند الكبر .
ويبرز الظلم في هذه القصة باعتباره قيمة رومانسية تبعث على الخيبة والانهيار وتطيح بالأحلام الصافية، كما يكشف تصوير الكاتب لردود فعل هذه القيمة من الناحية النفسية لدى الطفل عن مقدرة فنية في التحليل النفسي، تمكن فيها الكاتب من أن يضفي لمسات واقعية على ما يثيره من مشاعر وأجواء رومانسية (36). خاصة عندما أوجد معادلاً لمعاناة الطفل تمثل في ابن خالته الذي يعيش أجواء العطف والحنان .. إن رصد هذا المعادل وردود الفعل والتفاصيل يمكِّن الشكل القصصي من الوضوح والتماسك بدون شك .
وفي قصة ( المتشائم ) لعلي زكريا الأنصاري .. يشتاق بطل القِّصة إلى عالم الطهر والبراءة والفطرة، مؤكداً البعد الشديد بين هذا العالم والحياة الواقعية بكل ما فيها من نوازع محطمة لطموح الفرد . إن بطل القصة هنا يشعر بجسارة الواقع وفوضوية الحياة الإنسانية . فتنطوي حياته على نفسية متشائمة تقطع كل صلاتها بالرجاء والتفاؤل، معللاً ذلك بأن التشاؤم وسيلة من وسائل مواجهة أرزاء الواقع، حيث يكون الفرد أكثر قدرة على تحمل المصائب بينما التفاؤل يجعله عرضة للصدمة والانهيار، ومن هنا فهو يرتضي لنفسه أن يدعى من قبل زملائه بالمتشائم، وأن يواجه رسوبه في الدراسة بتشاؤم آخر، وأن يستقبل الامتحان بأفكاره السوداوية . فلا يكاد يدخل القاعة حتى يكتشف أن الطلبة يقدمون الامتحان في مادة أخرى غير مادته، فيخرج مشيعاً بنظرات الرثاء .
إن الكاتب في هذه القصة لا يحلل لنا نفسية المتشائم كما فعل مع (مشاعر الطفولة)، بل إنه يترك ذلك لطبيعة الحدث الذي يكشف عن نتيجة فكرة التشاؤم، ونهايتها الطبيعية المؤدية إلى الخيبة والسقوط . فالبطل شخصية جاهزة في إطارها النفسي العام . وحين أراد الكاتب أن يقرأ لنا أفكاره ( المتشائمة) وهو في طريقه إلى الامتحان، كشف لنا عن شخصية تنعى على المجتمع مدنيتها وفوضويتها . فهو يرى البسطاء في الطريق ويتصور أن حياتهم خالية من القلق نظراً لبعدها عن هموم المعرفة والفكر وانشغالها بتوفير الحياة وسبلها . ويكشف لنا في خواطره هذه عن صورتين : الأولى سلبية المثقف الذي لا يدرك حقيقة السعادة، ومعنى تناقضات الحياة، بل يفترض أن المعرفة والوعي والثقافة عبء، لأنها تجعل الإنسان موجوعاً بالحياة وما يجري فيها، بل إنها تسبغ شيئاً من التعالي على الشخصية.
أما الثانية .. فهي صورة الشوق الرومانسي إلى حياة الفطرة والطهر والبراءة فهو يشعر بنوع من الفوضى والقلق فيقول في نفسه :
( والمسؤول الوحيد عن هذه الفوضى التي تسود العالم هي (المدنية) وهي من صنع الإنسان، فبسببها يجب على الأفراد أن يخوضوا في غمار المتاعب ليسايروا ركبها، والويل للأمة التي يتخلف أفرادها عن الركب، فهناك الذل والعبودية والخنوع، وكأن الإنسان وهو ينجرف بهذا التيار يشقى وهو يحسب أنه يسعى إلى السعادة، ويتأخر وهو يشعر بأنه يتقدم ويظل يوهم نفسه بهذا التقدم، فكأن المدنية إذن شر لا بد منه . ولو خير الإنسان - أو محمود على الأقل - بين هذه الحياة التي يحياها بشرورها ومشاكلها، وبين حياة البداوة والبساطة والطبيعة، لما تردد في أن يختار الحياة الثانية) (37).
ولا ريب أن هذه الخواطر تعبر عن تعطش صاحبها إلى حياة أكثر صفاء وطهراً وهو ما يأتي غالباً في القصة الرومانسية في ذروة من ذرى الشعور بالخيبة والانهيار . ورغم أن الكاتب في هذه القصة لا يتمكن من الربط بين صورتي السلبية والشوق إلى الفطرة، وبين صورته المتشائمة،فإنه يكشف عن محاولة جادة في تقديم صورة رومانسية لقلق الشخصية المثقفة، فهي نموذج برجوازي تخلخله ضخامة التخلف الاجتماعي والاقتصادي فتقع في دوامة من القلق والتردد بين المشاركة في الإصلاح .. أو التهرب منه، وتفصح قصة (المتشائم) ذريعة هذه البرجوازية في إنسلاخها من دورها التاريخي، واختيارها الهروب والخضوع لأسباب واهية لتؤكد أن وعي الفرد وفكره إن هما إلا عبء يقود إلى القلق والتراجع .
وإذا كان معظم كتاب القصة الرومانسية يقتادون أبطالهم إلى الخيبة من خلال انهيار القيم الإنسانية . أو من خلال سلطة التقاليد وقهرها لحرية الفرد، فإن فاضل خلف في قصة ( السهم الأخير ) يفجر مشاعر الخيبة والحزن والتشاؤم من داخل الأسرة الصغيرة، عندما تتفكك علاقاتها وتتمزق أواصرها، فتنتهي إلى المأساة والفجيعة .
إن بطل القصة هنا يواجه مشكلته بين زوجته، وأمه . ويروي سارداً لصديقه ما فعلت به هذه المشكلة من تدهور وسقوط وتمزق . فهو ما إن تزوج تحت رغبة الأهل حتى وقعت المشاجرات بين الزوجة والأم، كل منهما تريد السيطرة عليه، فلا يطيق الحياة ويضطر إلى الانفصال عن بيت أهله . ورغم ذلك يقع في مشاجرة مع زوجه الحامل، فيضربها ضربة طائشة وينتابه الإحساس بالجرم والتأنيب الشديد، ويتضاعف كل ذلك عندما تتوفى زوجته أثناء إجراء عملية إخراج الجنين منها، فيستسلم لليأس والحزن والتشاؤم وعذاب الضمير .
ولا يقدم الكاتب في هذه القصة تحليلاً كافياً لنكبة البطل من خلال مشاكل الأسرة، وإن كان قد وضع أيدينا على بعض خيوط الاتصال بها، ومن أجل ذلك فهو يسبغ عليه شعوراً مؤسياً من أن القدر هو الذي قاده إلى نكبته وتدهوره وحزنه فهو يقول لصديقه :
( لقد طعنتني الأقدار في الصميم، وضربني الزمن ضربته القاضية فأصبحت ضاري الجسم، محطم القلب، أهيم على وجهي في متاهة الحياة لقد كنت فيما مضى ألوم المتشائمين في الحياة وأسخر من ادعاءاتهم ... وأعجب من الباكين الذين يذرفون الدمع غزيراً مدراراً. أما الآن فقد عرفت السر في وجوم السواد الأعظم من الناس، الذين قست عليهم الأيام آه يا صديقي لو كنت أستطيع الترفيه عن قلوبهم المقروحة... إذن لكنت أسعد الناس ) (38).
هذه صورة رومانسية من صور الضياع والخيبة، تذكرنا بتهويمات المنفلوطي مع مشاعر الحزن والتوق إلى قيم الفضيلة، والشوق إلى المثل التي تنقل ضياع الفرد . فالرومانسيون يبحثون دوماً عن مجتمع بلا بؤس .. بلا شقاء .. بلا أحزان .. يبحثون ويتمنون أن يكون بأيديهم تحقيقه، لكن مأساتهم تكمن في عجزهم، وفي إحساسهم بأنهم يبحثون عن ذلك في مجتمع يمتلئ بمظاهر الحزن والسقوط والخيبة والتشاؤم . وهذه كلها معالم بارزة في تمزق العواطف الذاتية، وتحللها في مواجهة بشاعة الواقع الاجتماعي .
إن أغلب الكتاب الذين عرضنا لهم ومنهم فاضل خلف في القصة الأخيرة (السهم الأخير ) يصورون شخصياتهم وهي في حمأة المواجهة تحت تأثير قوى ميتيافيزيقية غامضة، فالقدر هو الذي يثير مصائر الخيبة والإحباط، وهو الذي يصوغ حياة الفرد مجرداً من الاختيار والموقف والمشاركة، وهذه نزعة من النزعات الهروبية المتفاقمة في القصة الرومانسية رغم أن بعض الكتاب لا يعدم محاولة تلمس الأسباب والدوافع، كما رأينا في ما أبرزته بعض القصص من زيف التقاليد وضغط الحرمان والكبت والقيود الشديدة على المرأة، والشوق إلى المجتمع الفاضل . ولكن يظل هذا التلمس متأثراً بالركون إلى قوى القدر، ومنطق الصدفة ومظاهر المعالجة الرومانسية التي لم تكن تواجه الأسباب الحقيقية لقلق المجتمع في كثير من الأحيان .
وأخيراً فإن أكثر ما حققته الرومانسية خلال هذه الفترة من ترسيخ للأصول الفنية في شكل القصة القصيرة، يمكن الإمساك به في قصة ( أشباح الليل ( لعلي سيار، وقصة ) الطفولة المعذبة ) لعلي زكريا الأنصاري . ففي هاتين القصتين نجد سمات فنية تحليليلة ناضجة، وكلتاهما جعلت ملامحهما الرومانسية صادرة عن الواقع الاجتماعي . فصورت الأولى قلق المرأة في المجتمع التقليدي، وصورت الثانية صراعاً بين نزعتين : الظلم والتوق إلى مجتمع الطهر والصفاء كما رأينا فيما سبق من تحليل لهما .