القسم الثاني . الفصل الأول 7
لم تستطع القصة القصيرة في الفترة الأولى من خلال اتجاهها الرومانسي أن تستقطب قدراً كبيراً من آثار التغير الاجتماعي والاقتصادي في مجتمع الخليج العربي، وإن كانت لم تخل من ملاحقة بعض المظاهر المستجدة، ويرجع ذلك إلى عاملين أساسيين : أحدهما أن القصة القصيرة خلال العقدين الرابع والخامس من هذا القرن كانت في مرحلتها الأولى، بكل ما سيطر فيها من تجارب مبكرة ومتحفظة انشغلت أساساً باستحداث هذا الفن، فضلاً عما جاء فيها من تقليد لموضوعات القصة العربية . والآخر أن التغير الاقتصادي في تلك السنوات لم تظهر نتائجه الملموسة في بناء المجتمع نظراً لأن المردودات الاقتصادية الجديدة لم تكن قد أتت بمشاريعها الضخمة في تغير أحوال البلاد بتطور التعليم، والحراك المهني والديمجرافي، وبخاصة فيما يتصل بحركة الهجرة، وبناء المدن الجديدة وما صاحبها من تقويض لمظاهر البداوة، والحياة الأولى ببساطتها وتجمعاتها التي لم تكن تختلف عن التجمعات البشرية في القرية.
ومنذ بداية العقد السادس من هذا القرن يتغير الوضع، وتتشكل الظروف الجديدة في الخليج العربي، حيث تتجاوز القصة القصيرة مرحلتها الأولى، وما رافقها من مظاهر البداية، كما يسفر التغير الاقتصادي السريع عن تجاوز ذلك التريث بإقامة معطيات جديدة متوغلة في حياة الإنسان وحركة المجتمع.
لقد أضحت القصة القصيرة أكثر صلابة وتميزاً وانتشاراً، ويأتي امتدادها الرومانسي في هذه الفترة ليرصد القلق الذي رافق التغير، وليعبر في كثير من حالاته عن صراع لا تتكافأ موازينه بين الجيل القديم والجيل الذي قدر لكتاب القصة القصيرة انتماؤهم إليه، ومن هنا تبرز أشكال الانهزام أمام الجيل الأول بجميع معتقداته وتقاليده البالية.
ولم يكن قلق التغير نابعاً من المعتقدات الاجتماعية والأخلاقية، فحسب بل لقد صحب ذلك اضطهاد سياسي عنيف، وإجهاض لوسائل التعبير وحرية الأفراد، كما صحبه أيضاً ذلك التطور الاقتصادي (الرأسمالي) الذي عمق من التناقضات الاجتماعية، فشاعت بذلك مشاعر القلق والاغتراب والعزلة للفرد.
لقد خرج الجيل الجديد في جو مفعم بالخيبة والقلق، والشعور بالانتهاء، وبخاصة بعد أحداث أواخر العقد الخامس من هذا القرن، ولم يتمكن هذا الجيل حتى نهاية الستينات من أن يتلمس بوضوح الطريق الصحيح في التخلص من هذه الأجواء المحبطة، بل إنه ظل في حالة من التمزق والقلق، يعبر عنها كتاب القصة الرومانسية تعبيراً بالغاً بحكم دخولهم فيها ومعايشتهم لها، ففي الوقت الذي يدرك البطل الرومانسي لديهم تخلف التقاليد وجورها، نجده غير قادر على رفضها والخروج من شرنقتها، بل إنه يستسلم لها ويستقبل آثارها كي تجرفه وتهزمه شر هزيمة، وفي الوقت الذي يدرك شيئاً من معالم الخطأ والخلل في واقعه أو ذاته يكون قد دفع بنفسه ( اختياراً ) إلى ذلك الحصار بقيود الواقع أو قيود الذات كي تضيق عليه الدائرة إلى حد الاختناق والسقوط.
وتعبر أشكال الخروج أو الخلاص من حالة التمزق والقلق، عن الجذور العميقة التي تربط هذه الحالة بالمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع في الخليج العربي، فحين يشتد الإحساس بزيف الحالة الحاضرة وما جاء به التغير السريع من مظاهر الحضارة التي هدمت الحياة الماضية يبرح ببعض الكتاب شوق عارم إلى المجتمع القديم، وما فيه من حياة ملؤها الصفاء والبساطة، أو ما يرتبط بها من مظاهر البراءة الأولى في حياة الإنسان.
وفي الوقت نفسه يقرن بعض كتاب القصة القصيرة بين حالة التمزق والقلق والخيبة، وبين مظاهر ميتافيزيقية تكشف عن تناقضات شاملة في الحياة أو الموت، حيث تسيطر أسئلتها المغلقة على ذهن الشخصية، وتدفع بها نحو عملية البحث اللامجدي الذي ينتهي بنوع من العدمية والعبث والسقوط، كما يربط كتاب آخرون بين انهيار الذات الإنسانية وقلقها، وبين تداعي الجانب الوجداني لدى البطل حين يفقد ( الحبيبة ) التي تشكل بالنسبة إليه مفتاح الدخول أو الخروج في حالة التمزق.
كل هذه تعد روافد أساسية تشتقها الرومانسية من المجتمع في هذه الفترة، وتستمد بعض جوانبها من رواسب الرومانسية التي بزغت في الخمسينات، وبخاصة فيما يتصل بتصوير ردود الفعل من الصراع مع التقاليد والمعايير السلوكية المتخلفة، أو ما يتصل بتصوير قلق العلاقة بين الرجل والمرأة الذي يسوقها إلى هاوية الحزن والفراغ والعزلة، فهي طوال هذه الفترة تظل محرومة من حقوقها رغم ما حققته من مشاركة كبيرة على الصعيد الاجتماعي والتعليمي.
وقد جاءت المظاهرة الأولى في تاريخ المرأة الكويتية عام 1961 تعبيراً عن الرغبة الشديدة في الخروج من أجواء الكبت والحرمان، فقد كانت (من صنع ربات البيوت المطالبات بالحرية.. حرية التفكير.. وحرية العمل وحرية الحركة) (1)، ولكن حين وضع الدستور في البلاد حرمت من حق الترشيح والانتخاب في مجلس الأمة، وحدث ذلك أيضاً في البحرين مع قيام (المجلس الوطني ) لذا ظلت المرأة تعاني مرارة النظرة المتخلفة من المجتمع ومن الرجل الذي لم يكن هناك ما يردعه من تحقيق نزواته العابرة في تضييع المرأة بالطلاق أو بالتنكر لعواطفه نحوها.
وتعبر القصة الرومانسية عن جوانب كثيرة من هذا الوضع الذي عاشته المرأة في هذه الفترة لتكون بذلك امتداداً حقيقياً لرومانسية الفترة الأولى.
غير أن أكثر ما يميز الرومانسية في سنوات العقد السادس هو سماتها الثائرة المتمردة الباحثة عن معاني الخلاص الاجتماعي والوجداني للفرد، وهي السمات التي دفعت بها إلى توظيف الأطر والأجواء العبثية والأفكار العدمية المتشائمة المغرقة في اليأس، والمعبرة عن الرفض في آن واحد، وذلك ما وجدناه بكثرة في قصص محمد الماجد، وبدايات سليمان الخليفي.
أما أشكالها الفنية فأبرز ما يميزها هو ذلك القدر من الجهد الذي يحرص على المواءمة بين الشكل وحالات الصراع والتمزق والقلق الحاضرة في حياة البطل الرومانسي، كما سنرى في تحليلنا وعرضنا.
تستمر القصة الرومانسية في هذه الفترة في تصوير النزعة المتحررة من التقاليد، وإذا كانت تعد في ذلك امتداداً لرومانسية الخمسينات فإن نزعتها هنا تكون أكثر تحرراً، كما يكون أسلوبها متسماً بالرفض الشديد والإدانة القاطعة، وفيما عدا ذلك تظل جوانب الامتداد بين رومانسية الفترتين قوية واضحة وبخاصة في معالجة طبيعة الموضوع، والشكل الفني الذي يحرص على التلاؤم مع أغراض الدرس الأخلاقي.
ولأن العواطف الفردية هي أكثر الجوانب التي تتعرض للإيذاء والاضطهاد في الصراع مع التقاليد فإنها بذلك تصبح فيصلاً في انبهار البطل الرومانسي وسقوطه، لأنه يجابه بها الأحداث من غير أن يعطي للمنطق العقلي دوره في توجيه المصير النهائي، رغم أنه يجنح غالباً نحو التحرر والانعتاق من ربقة القيود الاجتماعية، ولعل ذلك ما يؤكد لنا بأن الرومانسيين (مهما تكن من صلة بين أدبهم والحياة الواقعية، فهي صلة الحالم المتحرر من حقائق المجتمع، ومما يقدسه ذلك المجتمع من تقاليد لأنه يعيش في عالم لا هادي فيه سوى القلب والعاطفة) (2).
إن النزعة المتحررة في عالم البطل الرومانسي لا تحول دون انهزامه وخيبته الشديدة، فهو يتصور نفسه فرداً واحداً في مواجهة قوى التقاليد وجيل الآباء، بل إن هذه التقاليد تستحيل في نظره إلى قدر غاشم، ويمكن أن نجد ذلك في كثير مما كتبته هداية سلطان السالم من قصص قصيرة . ففي قصة (رأيتها) تصور لنا كيف تنتكس عواطف الفرد نحو أشد أنواع المصير خيبة وانتهاء، فالبطل عاش في كنف أبويه محبوباً يرعيانه بالعطف والحنان، وقد أحب (طيبة) التي كان يراها ساعات خروجها من المدرسة ولا يلمح من بين عباءتها غير وجهها المستدير وعينيها الواسعتين وأنفها الدقيق، فيصمم على الزواج منها، ولم تسمح له التقاليد أن يرى شريكة حياته إلا بعد إتمام كل طقوس الزواج، ويفاجأ حينئذ بأن المرأة التي زفت إليه مسربلة بأغطيتها لم تكن حبيبته لأنه رأى (طيبة) جالسة بعيداً عنه مع البنات، ويتلقى بذلك ضربة قاسية تسقط جميع الآمال في قلبه.
لقد تحكمت سلطة التقاليد بشدة في مصير البطل، فقد أدت به إلى نهاية مزدوجة، حيث أسقطت جميع أحلامه الفردية، وجعلت منه إنساناً ضعيفاً يعيش ذكريات أحزانه ويبكي خيبته الشديدة . ومن ناحية ثانية جعلته يشعر بالنقمة على كل ما يحيط به، ولا بأس من أن نقف مع جانب من أسلوب الكاتبة الذي يوجه مصير شخصية القصة وجهة لا تخلو من الاحتجاج والرغبة في التحرر، فهي تقول بضمير المتكلم الذي يتميز بروح الاعتراف والاحتجاج :
(إن الفرحة كانت تغمرني من رأسي إلى أخمص قدمي، قد تبدلت إلى نكد لا يطاق والسعادة التي كانت ترفرف فوق عشي الصغير قد ماتت فيّ . والآمال العراض التي بنيتها بعصارة حبي وصلابة عزيمتي، وقوة إيماني قد تحطمت إرباً إرباً، وكرهت نفسي وكرهت الأوضاع الفولاذية التي تسير عليها بعض التقاليد في بلادي . كرهت كل شيء في الوجود حتى الأشياء الحبيبة إلى نفسي.
(كنت أحب تمسك المرأة الكويتية بزيها الوطني الخاص. العباءة، الفضفاضة التي تستر محاسنها فتقيها شر الذئاب البشرية.... ولكن في تلك الليلة كفرت بكل شيء وتمنيت إذا كانت المرأة سافرة بلا قناع، حرة بلا قيود تفعل ما تريد وترفض ما تكره ) (3).
إن الكاتبة هنا تقف مع نتائج الظاهرة الاجتماعية لذا فهي تسلك بأسلوبها القصصي مجالاً قد يبعدها عن شروط اللغة الفنية في القصة، ولكنه يقربها قرباً شديداً من طبيعة الدرس الأخلاقي الذي تريد أن تلقنه للقارئ، ومن هنا جاء المقطع السابق دعوة صريحة للسفور والتحرر من القيود التي تفصل بين الرجل والمرأة، وربما كانت هذه الدعوة الأولى في القصة القصيرة التي أرادت فيها الكاتبة - بحكم معايشتها لمعاناة الفصل بين الجنسين - أن تربطها بالمصير الرومانسي لشخصيتها في القصة.
ويفرض الاهتمام بنتائج الظاهرة الاجتماعية الشكل التقليدي الذي تجري عليه القصة الرومانسية غالباً، فالبطل هو الذي يسرد الأحداث بعد أن تكون قد فعلت فعلها في حياته وأوغلت به عواقب الاستسلام، إنه يبدأ من نهايته التي وقع فيها ليعيد ترتيب المأساة حول مشكلة التقاليد، ومن هنا تطغى لغة السرد في قصص (هداية السالم) على نحو يخلق لديها مظاهر الرتابة في مفردات الاعتراف والاحتجاج.
والبطل في معظم قصص الكاتبة (امرأة). وهذا أمر طبيعي ما دامت معظم قيود التقاليد تجول في عالم المرأة غالباً، كما أن طبيعة مشاعر المرأة أقرب إلى خلق الأجواء الرومانسية التي تسيطر على أسلوب الكاتبة . ونجد هذه المرأة في قصة (النار) (4) وهي تروي مأساتها لصديقتها في لغة سردية تهيئ لشخصية القصة إمكانيات كبيرة من العرض والاستدعاء للمشاعر والأحداث فوق مساحة زمنية عريضة من حياة الشخصية.
لقد عاشت بطلة القصة مع أختها في بيت عمها فتربيتا مع ابني عمهما جاسم وعبدالوهاب وعندما كبروا كبر معهم حب قوي، حيث أحبت بطلة القصة عبدالوهاب، وأحبت الأخرى جاسماً، ويموت جاسم إثر حادث عندما ذهب مع أخيه خارج البلاد، ومن هنا تبدأ المفارقة المأساوية في حياة البطلة، فعندما يرجع عبدالوهاب تستقبله ابنة عمه بالأحلام والأشواق، والآمال العريضة، ولكن لا تمضي فترة بسيطة حتى يعرض عليه والده الزواج من ابنة عمه فيرفض في بداية الأمر، ثم يوافق على مضض شديد، وتظن بطلة القصة أنه كان يرفضها في حين أنه كان يرفض الزواج من أختها الكبرى قبل الصغرى . ويتم الزواج، وتنتهي القصة بمشاعر الحرمان والخيبة للمرأة والرجل في آن واحد.
لقد قادت التقاليد هنا إلى مفارقة مأساوية، حيث أعطت الحبيب لمن لا يحب، وانتزعت منه حبيبته لتعاني ويلات الغيرة من أختها أقرب قريباتها، وتأتي صورتها إزاء تشكيل مثل هذا الحدث مستسلمة عاجزة مؤثرة حياة العزلة والكبت، غير قادرة على مواجهة ضعفها الذي يؤدي بها إلى مصير مجهول.
وفي قصة (أقوى من النار) لا تختلف الأبعاد الفنية للحدث وهي تنسج خيوط المأساة الاجتماعية التي تقضي على حياة المرأة عندما تكون في مجابهة التقاليد، فالبطلة تذعن لاختيار الأب والأم وتقبل الزواج من زوج أختها التي يفاجؤها الموت وهي تضع مولودها فلا تستطيع أن تحكم لها اختياراً بل تستسلم لرغبة الوالدين . وهنا تتعرض عواطفها للاضطهاد الشديد فقد حرمت من حبيبها الذي رأته في ليلة زفافها وهو ينظر إليها بحنو وشوق، كما أحست بأنها تقوم بإهانة أختها المتوفاة حين اقترنت بزوجها.
إن جميع الأحداث في قصص الكاتبة تنتهي نحو الأسلوب التعليمي واستخلاص الصفة الخلقية . ولا نلمح للمرأة خلالها قدرة على المواجهة أو التحرر، ولكن حين تقع عليها قيود الواقع وتحاصرها وتضطهدها تبدو رغبتها في التحرر، ومن ثم يبرز الجانب التعليمي في أسلوب الكاتبة، ويتجلى ذلك مباشراً صادراً مما أسبغته الأحداث في القصة من آثار التخلف التي ترويها بطلة القصة بأسلوب متكرر مثل :
(بين مأساتي ومأساتك يا أختاه شبه غريب وإن اختلفت التفاصيل فأنا وأنت ضحية للعادات . ضحية للذين يظنون - حتى اليوم - أن المرأة ناقصة عقل ودين، وأنها بالتالي لا تملك حق تقرير مصيرها . ولا حق لها في أن تقول لا إذا قرر المقررون أمراً لا ينسجم مع رغبتها) (5).
إن الدرس الأخلاقي هنا يتلازم مع صورة الانهزام والسقوط التي تنتهي إليها بطلة القصة، ويعتبر ذلك أكثر ما اتجهت إليه الرومانسية التقليدية في هذه الفترة . فالقيمة الأخلاقية لها ضرورتها الكبرى في صياغة القصة الرومانسية، وقد استخلص ذلك الناقد الفرنسي فيليب فانتجم حين أخذ يؤكد بشدة على ضرورة هذا المطلب الرومانسي بقوله : ) على القصة أن تكون أخلاقية، إن لم نقل معلم أخلاق، ويجب ألا يعبر الدرس الذي تحويه بحوادث تزيد أو تقل اعتباطية . عليها أن تخرج من حالة الأشخاص العاطفية ما كان يمكن أن تحصل عليه، فيما إذا كان الوصف صحيحاً، وفيما إذا كانت المواضيع مأخوذة من عالم قريب من عالمنا. لنشعر كأن ظروف الحياة الخاصة التي تثار فيها هي ظروفنا) (6).
إن هداية السالم تخيب كثيراً من آمال المتتبع لتجربتها في كتابة القصة القصيرة عندما يشتد اهتمامها بالحوادث التي تستقطب عمراً زمنياً طويلاً في حياة البطلة، بحيث تصبح الفكرة الأخلاقية أمرا بسيطاً إلى أبعد حدود البساطة أمام تقاطع مجرى الأحداث وخطوطها المتعددة الفضفاضة، وربما تحركت هذه الأحداث بصورة اعتباطية كما وصف ذلك ) فانتجم ( أو ربما تحركت بشكل مفتعل ولكنها رغم ذلك لا تفقد اتصالها بصورة العالم الرومانسي الذي تنسجه الكاتبة للمرأة في مجتمع الخليج العربي . ولعلها في قصة (ضاع عمري) (7) أكثر حماساً للتعبير عن هذا العالم فهي تبدأ الأحداث من نهايتها، حين تكون البطلة في المستشفى تعاني أمراضها النفسية والجسدية، وترجع بذاكرتها إلى الوراء لتتداعى إليها صورة الأحداث المريرة التي عاشتها في صراع عنيف مع تقاليد المجتمع، ويسيطر هذا الارتداد إلى الماضي كما في القصص السابقة حتى يصبح سرداً عادياً مغرقاً في الانثيال والتراكم، لا تتمكن الكاتبة من ضبطه عبر عملية التداعي والارتداد.
لقد أحبت (حصة) ابن الجيران (إبراهيم) وظلت تتصل به خفية، وحين سافر عنها ليكمل دراسته تعاهدا على الوفاء وانتظرت عودته ولكنها في غياب الحبيب تكره على الزواج من (مبارك) الثري المسن، ولا تجد سوى الرضوخ لأوامر الأب الذي يتذرع بالكذبة المعروفة) أنه يفهم مصلحتها أكثر منها (. وتتحول حياتها إلى شقاء فلا تسمح له بالاقتراب منها حتى يطلقها، فتزداد عليها القيود لأن للمجتمع تقاليد مسرفة حول المرأة المطلقة، فهي لا يحق لها الخروج أو إبداء الرأي في أي أمر من الأمور، وحينئذ يرجع الفتى الذي تحبه ليعود إليها الأمل،ولكنها هنا تقف مرة ثانية أمام التقاليد فقد عرض عليها والدها أن تتزوج أحد الأثرياء (عبدالمحسن) فرفضت وصارحته بحبها لإبراهيم فاستشاط الأب غضباً بدعوى أنه من أسرة أصيلة وعريقة بينما ذلك الفتى لا أصل له . وتستسلم أخيراً لرغبة الأب وسيطرته فتتزوج من عبدالمحسن . وتظل في حالة نفسية محبطة تؤدي بها إلى المرض، وفي نهاية القصة تموت بين ذراعي حبيبها إبراهيم الذي يحاول أن يعيد إليها الأمل دون فائدة .
تظل سنوات العقد السادس من هذا القرن مفعمة بكثير من أشكال السقوط ومصائر الانهزام أمام أرزاء الواقع الاجتماعي وتمزق علاقات الفرد ، ولعل مرد ذلك هو قرب عهد هذه السنوات بأحداث الخمسينات التي انتكست بآمال القوى الاجتماعية وجعلتها تتجرع آلامها الذاتية ، وتعاين المرارة التي أتت على تطلعاتها بالهزيمة ، وخاصة في أشكال المواجهة مع مشاكل الواقع الاجتماعي وتجارب الفرد الذاتية في أوساط الطبقة المتوسطة بوصفها أكثر الطبقات ارتباطاً بأحداث القلق الاجتماعي والسياسي طوال فترة الخمسينات.
وهنا تستمر القصة القصيرة في التعلق بالأشكال الرومانسية التي تقوم بنسج قسمات الانفصال والعزلة وعدم القدرة على المواجهة في الشخصية ، وقد أدى هذا التعلق بكثير من كتاب القصة القصيرة إلى أن يعيشوا قلقاً مزدوجاً بين عملية الاهتداء إلى الشكل القصصي وبين السمات الإنسانية العاجزة التي يبثها في الحركة العامة للحدث والشخصية .
وتتمثل جوانب من هذا القلق في قسم كبير من القصص القصيرة التي كتبت في الستينات وعلى الأخص لدى سليمان الشطي وحسن يعقوب العلي وسليمان الخليفي ثم خلف أحمد خلف الذي تتراوح مستويات القصة لديه في السنوات الأخيرة من الستينات ، ولا تستقر على شكل معين، فهي قد تكشف عن سمات شديدة الضعف ، أو تكشف عن سمات متطورة ، وهي بين الوصف والسرد التقليدي أو الارتداد إلى الماضي أو التأمل في النموذج البشري تأملاً خارجياً أو محاولة التوغل إليه بالتحليل كما وجدنا ذلك في قصتي " فداء للشباب " و " لم يكون هذا الموت ؟ " وهي ترتكز أيضاً - من وجهة النظر النفسي والاجتماعي - على نظرة قلقة منكفئة مع مصائر السقوط والانهزام وسلوك العجز والضعف البشري ، وكل ذلك ينبع من دوائر القلق الاجتماعي والفكري السائد " الذي يؤدي - كما يذهب جورج لوكاتش - إلى امحال صورة الإنسان والواقع المصور ، وإلى الهبوط به وتشويهه ، إنه يستبعد كل ما يقع خارج مجاله ، وعلى الأخص كل ما من شأنه أن يضفي على الإنسان وبيئته دلالة اجتماعية ، وهذه نتيجة طبيعية لمنشئه "(19).
ولعل معالم من هذه الصورة القائمة التي يخلعها الكاتب من نوازعه الفنية والفكرية المضطربة قد انعكست على جزء كبير من تجربة الكاتب خلف أحمد خلف في القصة القصيرة .
في قصة " بلا استئناف " يحاصر كاتبنا بطل القصة بعقدة نفسية مريضة لا مفر له أن يعيشها بكل دلالاتها السلبية التي تعوق حركته في الواقع وترتد بسلوكه نحو الضعف والانطواء ، فهو يعاني من خجل شديد يتضاءل به أمام الآخرين ، ولا يستطيع أن يواجه أخطاءهم ، إنه يمر صدفة أمام رجل أعمى يؤذيه الأطفال فيتلقى ضربة قاسية منه ويقذفه بالسباب في حين يحاول أن يفهمه خطأه أو يتدارك الموقف ولكنه لا يستطيع ذلك فيذهب مع آلام الضربة نحو " دكان أبو علي " الذي تعوّد شراء حاجاته منه فيطلب دفتر حسابه منه ويراجعه ويستنكر ما عليه من مال فقد دفع بالأمس كل الحساب الذي عليه ، ولكن ما أن يحدجه " أبو علي " بنظرته الكريهة حتى يرتد إليه الخضوع والاستسلام . لقد أراد في هذا الموقف ، وفي موقفه مع الرجل الضرير أن يخرج من عقدته ولكنه لا يفلح في ذلك . وتظل عبارات صديقه الساخرة تمزق أعماقه المتخاذلة :
" أنت يا صديقي .. كأنك في حمام ، وقد غطى الصابون وجهك فأغمضت عينيك .. فدخل شخص ما .. ليفاجأ بك عارياً تماماً .. ولكنك لم تكن تعرفه.. فخرجت من الحمام وأنت تبحث في كل عين عن صورتك العارية فيها "(20).
ويردد الكاتب هذه الصورة في بداية القصة ونهايتها لتعبر عن حالة الحصار التي يعيشها هذا النموذج البشري مع أزمته الذاتية ، بل إن أسلوب الكاتب في المواجهة بضمير المخاطب وما ينطوي عليه عنوان القصة " بلا استئناف " من دلالة يؤكد لنا حتمية الحكم النهائي بالانطواء والضعف الذي جعل محاولة الخروج منه نوعاً من العبث .
إن الإحساس بعدم القدرة على مواجهة الواقع الخارجي أو الواقع الذاتي يعد إطاراً رومانسياً مغرقاً يحاصر به الكاتب جميع شخصياته ، ويجعلها تحتضن ما يعقب محاولاتها اليائسة من مصائر الخيبة والانتهاء ، فهي إشارة إلى وجود ذلك العالم المغلق في ذات الكاتب الذي يباعد بينه وبين انتزاع الثقة ، واستشراف المستقبل .
إن النزعة الرومانسية لدى خلف أحمد خلف تجعل المصائر المؤسية في قصصه تصدر في شكل أحكام مسبقة ، ويوحي لنا بذلك ما ينهجه الكاتب غالباً من وسائل في الشكل القصصي تعتمد على انتزاع النماذج البشرية ، واصطفاء حركتها الخارجية كي تعكس في نهاية الأمر مشكلتها الداخلية "الانتهاء" من غير أن ندرك لها منطقاً يحمل دلالة موازية تفسيراً أو تأويلاً.
فالبطل يندفع في قصة " إنه يحاول الانتحار "(21) إلى التخلص من الحياة بعد أن أحاط به إحساسه بالعجز والعنف أمام التركة التي خلفها والده (أولاده الأربعة عشر ، وزوجاته الثلاث) حين فاجأه الموت ، وجعلنا بذلك ننتهي مع يقينه بعدم إمكان مواجهة الفرد للواقع . ولا يتميز منطق الحدث في القصة الذي يدفع إلى هذا اليقين بشيء سوى ذلك المحتوى التعليمي الذي يجسم خطأ انسياق الآباء مع تقاليدهم وقيمهم في الزواج ، أو تربية الأبناء بطريقة تجعل منهم جيلاً غير قادر على معالجة مشاكله ومواجهتها.
وربما حملت بعض نماذجه البشرية معاناة سطحية للقلق كما في قصة " لمن تعب هذا النهار "(22) التي لا تعدو كونها موقفاً طارئاً تضعف دلالته الفنية نظراً لرتابة الصورة الخارجية التي يقوم عليها ، والتي تنقل إحساساً ذاتياً سريعاً لذلك الزوج الذي لا يرضيه أن تذهب نقوده مقابل التسريحة العالية لشعر زوجته ، ولكنه رغم ذلك لا يستطيع إظهار عدم الرضا .
لقد وقع خلف أحمد خلف في بداية تجربته مع القصة القصيرة في اسار التعبير عن قلقه بشتى الأساليب والموضوعات ، وإن كانت مغرقة في استهلاكها . ولعل نزعته الرومانسية الأولى كانت سبباً في خلق هذا الاسار، فهي أحياناً تدفع - كما رأى فيشر - للاعتقاد بعدم وجود موضوعات ممتازة "فكل شيء يمكن أن يكون موضوعاً للفن "(23).
وهذا ما يفسر لنا عدم استقرار الكاتب على شكل فني يحقق له ما أراد من التجاوب مع الواقع (24) الذي يحيط به ، وليس التجاوب مع واقعه الذاتي المحاصر بنزعات الضعف والعجز .
ولعل في اهتمام الكاتب بعنصر المفاجأة أو الصدفة ما يشكل عاملاً من العوامل التي تجذبه نحو انتزاع الهواجس الذاتية التي تباعد بينه وبين حركة الواقع الاجتماعي ومجراه الشامل . إذ تأخذه الأحداث المفاجئة نحو حركة الآثار الفردية من غير أن تبرز واقعاً له دلالته الاجتماعية البازغة في ملامح الحدث وملامح الشخصيات ، ولقد اعتمدت معظم ما عرضنا له من قصص الكاتب على " الصدفة " كقصة " فداء للشباب " وقصة " بلا استئناف " وقصة " إنه حاول الانتحار " وأخيراً قصة " الطفل الغريب "(25) ، وجاءت الصدف في هذه القصص لتخلق للكاتب مجالاً رحباً يهوي به نحو الهموم الفردية . أي أنها تفتح له سبل الاتصال بالذات الرومانسية التي تعايش المحاصرة والقيود الداخلية من عجز أو خوف أو خضوع . وربما اكتسبت من هذه الناحية وظيفتها الفنية ، وخاصة في غرابة ارتباطها بالشخصية ، ففي قصة " الطفل الغريب " أثارت الصدفة مشاعر بعيدة من الخوف والوجل في مجموعات النساء اللاتي تواجدن في الحديقة . فقد تدحرج طفل صغير قرب الحديقة بعد أن صدمته سيارة مسرعة جعلته يتكوم بشكل لا إنساني . واندفعت النساء يبحثن عن أطفالهن من أثر الخوف والفزع . ويصور الكاتب أثر هذه الصدفة على (سمية) . التي ظلت وحدها في النهاية تبحث عن ابنها الصغير حتى اعتقد الجميع أن الطفل الميت هو ابنها . وخلال ذلك يحيل الكاتب هذه الصدفة إلى خوف مجهول غامض يبرز بمنطق قدري ليحاصر شخصياته جميعاً بالخوف والوجل.
إن الكاتب يصطنع جميع الوسائل الفنية التي تحقق له مقدرة على الدخول إلى العالم الذاتي الذي يتصل بهموم الفرد ، وقد وفرت له الصدفة شيئاً من ذلك ، كما حققت له مواقف الاحتضار والانتهاء رجوعاً إلى الماضي المهزوم كما رأينا ذلك في قصة " لم يكون هذا الموت ؟ " وهو حين يربط هذه المواقف بالتوجه السردي المباشر عبر ضمير المخاطب أو المتكلم يحقق نوعاً قريباً من المناجاة الداخلية التي تنزع إلى ذاتها بكل ماهي عليه من انتكاس في المشاعر ، وانكفاء على الذات .
ونجد ذلك مثلاً في قصة " تخريفات " التي خلق للشخصية موقفاً حافلاً بامكانية التعبير عن الذات بصورة مباشرة .. فالبطل على فراش المرض وأمامه أبناؤه الذين يستمعون إلى تجربته الشاقة في الحياة ، أو لنقل تجربته المهزومة مع ذاته . فهو قد تزوج المرأة التي يحبها (أم أولاده) والتي كان يرى في عيونها سحراً وبريقاً ولكنه منذ الشهر الأول من الزواج أحس بفراغ عواطفه نحوها ، وفقد إحساسه بذلك البريق والسحر والضحكة الجميلة . ويكشف لنا هذا الإحساس عن رؤيته العبثية التي بدأ ينظر بها إلى زوجته وإلى الحياة ، كما يدل هذا التحول على شذوذ عواطفه التي تنتقل من أنانية فردية إلى مثالية بعيدة تؤدي به إلى عزلة داخلية. فقد كانت أنانيته وحبه لذاته يباعدان بينه وبين الحبيبة التي أصبحت زوجته . فهو يقول :
" زوجتي .. حبيبتي بالأمس .. ماذا كان فيها يسحرني ، ولماذا لا تسحرني اليوم .. لماذا ؟ لقد أمست زوجتي مجرد امرأة .. امرأة كغيرها .. ليست لها خصوصية واحدة .. وما أفظع ذلك .. وها أنتم الآن أمامي يا أبنائي ، اعترف أمامكم بأن ليس هناك حب .. إنما هناك مثالية نحياها في داخلنا .. وتلقي انعكاساتها على أول إنسان مصقول .. (قابل لتلك الانعكاسات) .. كنت حقاً أحب ولكني لم أكن أحب أمكم .. بل كنت أحب نفسي .. وهكذا كل منا في هذه الدنيا لا يحب إلا نفسه ولا يخاطب إلا نفسه تماماً كما أفعل الآن "(26).
إن هذه ( الأنا ) التي تشكل خيبة البطل تنطوي في حقيقتها على مثالية متورمة أو حالة عصابية مستعصية جعلته يتصور أن عواطف الحب سر إلهي لا يرقى إليها البشر ، وأمام ذلك يتضاءل موقعه الإنساني إلى حد الشعور بالانتهاء . فقد انتهى الحب بالنسبة إليه وانتهت زوجته ، بل إن كل ما تعنيه المرأة في حياته قد انتهى بسبب غموض ( الأنا ) وهوّتها العميقة في نفسه.
لقد أوحى الكاتب برغبته الجادة في التحليل النفسي ، وحاول تفسير حالة الخيبة والنكوص من وجهة نفسية ، لكنه على الرغم من ذلك يسبغ على شخصيته في هذه القصة كثيراً من المشاعر الرومانسية اليائسة التي تكشف عن قلق ذاتي متأصل في تجربته ، وتسفر عن أمكنة فارغة تستقطب آثار خيبة مريرة تبدو له من العالم حوله ، ومن ثم تفقد شخصياته صلابتها وتماسكها وتعلن عن هزيمتها بالدخول اختياراً في مصيرها.
إن القصص الأولى لخلف أحمد خلف تعد علامة بارزة فيما جاءت عليه بدايات المرحلة الجديدة التي تدخلها القصة القصيرة في الخليج العربي منذ بداية الستينات ، فهي قد استنفذت كثيراً من مظاهر القلق في الشكل والموضوع ، حيث تعلقت بالرواسب الأولى التي تجاوزتها المرحلة السابقة ، كما عبرت عن التطلع الفني الجديد ، والنزعة المتحررة الضافية ، ولم ترتبط هذه الظاهرة بخلف أحمد خلف فحسب ، بل هي ترتبط بمعظم الكتاب الذين بدأوا تجربتهم الرومانسية في القصة القصيرة خلال الستنيات . ثم انتقلت بهم هذه التجربة نحو تشكيلات الواقعية وتداعياتها . ويشير كل ذلك إلى طبيعة المرحلة الجديدة التي تمر بها القصة القصيرة ، فهي من الوجهة التاريخية تعد مرحلة انتقالية متطورة تنعكس حتى في قصص بعض الكتاب الذين ينتمون إلى الجيل الأول " المؤسس " ثم يواصلون الكتابة في هذه الفترة ، ويمكن أن نعد علي سيار نموذجاً لذلك فهو عندما سدت عليه جميع الطرق بعد أحداث الخمسينات في البحرين وذهب إلى الكويت وعاود الكتابة في صحافتها مع بداية الستينات ، جاءت كتاباته أول امتداد لقصصه في الخمسينات ، ولكنه لم يلبث أن تجاوزها - أيضاً - نحو توظيفات الواقعية. ويمكن أن نقف هنا مع قصتيه " السيد " و " في يدي جماجم " اللتين تربطانه برومانسية الفترة الأولى أكثر من غيرهما . في القصة الأولى نجد بطل القصة ضحية المجتمع الذي يسوقه إلى الجريمة والانحراف رغماً عنه ، والمجتمع هنا يتمثل في سلطة الأب والنماذج البشرية الأخرى التي تفتقد الفضيلة وتزج به نحو شر لا يعلم عنه شيئاً ، فهو منذ كان طفلاً يواجه التشرد بسبب والده الذي طلق أمه وأخرجها مع ابنها من البيت ليلقيا بنفسهما على جدته العجوز ، ولا يجدان وسيلة للعيش سوى أن تعمل الأم في بيوت الآخرين وتخدمهم ، وكذلك صبيها الصغير ، ولكنه حين يكبر يستغني عنه البيت الذي يعمل فيه فيهيم على وجهه باحثاً عن العمل ، وفي غمرة بحثه الشاق يستغله أحد التجار ليورطه في العمل مع عصابة في تهريب المخدرات ، ولا يدرك ذلك في بداية الأمر ، ولكن عندما انهالت عليه حياة مادية جديدة مليئة بالمباهج والملذات أدرك ما وقع فيه ، ولم يستطع الرجوع عن أمره لأنه وقع تحت تهديد من معه ، ولا يستمر طويلاً في ذلك إذ سرعان ما تقبض عليه الشرطة وتودعه السجن ليتلقى بعد ذلك نبأ وفاة أمه من أثر الصدمة. إن فكرة انطلاق مأساة البطل الرومانسي من ظاهرة الطلاق وصدمتها النفسية استهلكتها قصص الخمسينات ( فاضل خلف - أحمد كمال - فهد الدويري ) حيث تنتشر أبعاد هذه المأساة فوق حياة عريضة مليئة بالأحداث المتلاحقة لتنسج من كل ذلك تشكيلاً قصصياً ميلودرامياً ونموذجاً بشرياً بريئاً ، ولكن تشاء بعض القوى في المجتمع أن تطارد براءته وصفاءه الإنساني لتجعل منه فريسة جرمها ورذيلتها ، وهذا ما تحتويه قصة " السيد " من خلال أحداثها التي تلخص عمراً زمنياً في حياة البطل لتقدم تناقضات الحياة بين الفضيلة والرذيلة أو الخير والشر ، ولتضفي أجواء من مشاعر الحزن والاشفاق ، وخاصة حين تبدأ القصة من مفارقة رومانسية هي في حقيقتها نهاية الأحداث ، فقد زج بطلها في السجن ، واستقبل فيه يوماً جديداً يطلق عليه مجتمعه (الآثم في نظره ) (يوم الأم) في الوقت الذي يتلقى نبأ وفاة أمه ، ويمكن لنا أن نستشف المشاعر الرومانسية التي لا تخلو من إحساس النقمة على المجتمع من بداية القصة التي تمثل في تكنيكها وسياقها السردي نهاية الحدث : " بعد ساعات قليلة تشرق شمس يوم جديد ، يوم سميتموه يوم الأم، ومن غرائب الصدف أنني ولدت في هذا اليوم قبل خمسة وعشرين عاماً . وفي هذا اليوم سأروي لكم قصتي وأنا قابع في ركن مظلم رطب من أركان الزنزانة 147من السجن الذي يجثم على أطراف المدينة اللامعة .. المدينة التي تحتفلون فيها هذا اليوم بعيد الأم ... ومن الكوة الصغيرة أستطيع أن أرى الأضواء وأرى بركة النور التي تسبح فيها مدينتكم المتوهجة .. ومن هذه الكوة أيضاً أستطيع أن أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون بل وأكاد أحس لفحة الزفرات الحارة تطلقها بعض الصدور وهي على مشارف يوم جديد تطلقون عليه يوم الأم .. ولكن لماذا أبدأ القصة من آخرها .. ؟ ذات يوم .. يوم أسود.. دخل أبي إلى البيت وكان الوقت ظهراً.. قال لأمي في برود عجيب .. اليوم يجب أن ينتهي كل شيء ... "(27) بهذه الصورة يبدأ الكاتب قصته .. حيث تجري الأحداث بعد ذلك في تلاحق عجيب يصبح البطل راويتها منذ عبارته " ولكن لماذا أبدأالقصة من آخرها " التي تفتح إمكانية كبيرة لقيام أسلوب السر التقليدي طوال القصة ومن زاوية نظر حادة ومؤثرة. وتعود هذه العبارة نفسها لتلقي بنفسها ثانية في القصة الأخرى " في يدي جماجم " لتجعل من القصتين نموذجاً واحداً لتقنية السرد ونمطيته ، وإذا كان البطل قد أطل في بداية القصة السابقة من زنزانة السجن فإنه في قصة " في يدي جماجم " يبدأ رواية أحداثه المؤسية من مستشفى الأمراض العقلية بعد أن اقتيد إليه مجنوناً ، وفي كلتا الحالتين يعبر الكاتب عن ذلك الاضطهاد القدري الذي يهدد رغبة الانسان في الحلم والاستمرار في الحياة . لقد ذهب بطل هذه القصة إلى دراسة الطب في انجلترا ليحقق حلمه الرومانسي في أن يصبح طبيباً يدخل السعادة والأمل في قلوب المعذبين على الأرض من أبناء وطنه . والكاتب هنا يفسح مكاناً كبيراً لانتشار هذا الحلم في صدر بطل قصته ، فارتباط هذا الحلم بعذاب الآخرين يقابله ارتباط ذاتي يتصل بتحقيق أمنية أمه في أن يعود إليها ابنها طبيباً ، فالأم بالنسبة إليه تعني مشاعره ووجدانه الأكثر صفاء وإيغالاً في حياته ، وحين يعود بعد غربة السنوات الطويلة وحنينها الشديد حاملاً شهادته وأحلامه ، تستقبله المفاجأة القدرية ، فقد وجد أمه مريضة على الفراش تنتظره منذ سنة كاملة كي يقوم بعلاجها ، وبذا يقدر له أن تكون أمه أولى تجاربه مع الطب فيحتضنها في موقف تتجمع فيه مشاعر الخوف والحلم، حيث تطرق مسامعه كلماتها الماضية.. (غداً تعود إليّ طبيباً)... ولكن المرض كان قد تمكن منها فماتت وماتت معها جميع أحلامه وأمانيه ، وأخذ يتساءل : " ماذا بقي لي من شوق السنوات السبع وعلم السنوات السبع " لم يجد شيئاً يمكن أن يربطه بالعالم فاحتضنه الشارع ليهيم فيه مجنوناً مطارداً حتى يتم القبض عليه ليودع في مستشفى الأمراض العقلية. وتنتهي القصة بالجنون كما انتهت إليه العديد من قصص النماذج البشرية في الخمسينات ، وهو هنا لا يتعدى موقع الاحتجاج الفردي الذي يلقى سؤالاً لا مجدياً في مصير الشخصية، إنه يصرخ في نهاية القصة " هل أنا مجنون حقاً.. ؟ " أنا الذي سلخت من عمري سبع سنوات لأمنحكم الصحة والعافية .. أتحول في نظركم بين لحظة وأخرى إلى مجنون خطر تطاردونه في كل مكان ؟ كذابون - كلكم كذابون .. أنا عاقل عاقل جداً وأقسم لكم بالله العظيم على ذلك .. "(82). وهذه المعاني والمشاعر الرومانسية التي صاغت لنا بعض شخصيات القصة عند علي سيار تدخل في سياق العديد من التجارب القصصية الأولى للجيل الثاني من كتاب القصة القصيرة ، الذي تعايش مع الاجواء المفعمة بأصداء الخيبة ، وتطلع بالأحلام الجديدة في سنوات الستينات . فالشخصيات تخرج لديهم في محيط كبير من القلق .. قلق التغير وقلق الظروف السياسية ، وقلق الخيبة والنكوص (فضلاً عن القلق الفني الذي يصوغها والذي تمر به بواكير التجربة الأدبية عادة )، ومن هنا تقع أغلب النماذج فريسة لأخطاء لم ترتكبها ، أو تندفع للجريمة بدوافع ذاتية متأزمة محاصرة بعناصر العجز والتحلل البشري كما في قصة " الوجه الذي تأكله الديدان " (29) لخليفة العريفي ، وقد مزج الكاتب في هذه القصة بين زاويتين من الزمن الماضي تحمل الأولى علاقة البطل بالعاهرة التي يقتلها ، وتحمل الثانية علاقته بالزوجة التي خانته مع مدير السجن ، ويمتزج الزمنان لأنهما يحملان رائحة واحدة من الخيانة والاحباط . إن الجريمة والانتحار والموت والجنون والحيرة دوائر تبدأ منها الشخصيات الرومانسية وتنتهي إليها أيضاً ، والكتاب يحيطونهم بها إحاطة شاملة من أجل التعبير عن عدم الرضا بالحياة السائرة في عصرهم ، فكأن تلك المصائر هي الخلاص والفكاك من إسار تلك الحياة ، التي تبدو تناقضاتها الهائلة لغزاً كبيراً لا يمكن تبديده . وهذه هي مأساة البطل الرومانسي كما تعبر عنها الشخصية في قصة ( الحلم ) لعبدالله علي خليفة حين تتساءل بمرارة شديدة : " كيف يستطيع المرء أن يكون فقيراً وشريفاً في نفس الوقت ؟" . وتجيب طبيعة الحلم الرومانسي الذي خرجت إليه شخصيتا القصة على ذلك . فهما يعيشان على هامش الحياة منفيين فقدا سعادة الماضي ولم يجدا وسيلة تؤمِّن لهما العيش غير المغامرة والسرقة ، إنها وسيلة للابقاء على الحياة والنقمة عليها أيضاً . فكلاهما سدت في وجهه الطرق بعد أن أضناه البحث عن العمل الشريف ، أحدهما طرد من المدرسة ، وتبرأ منه الأب والاصدقاء والمرأة التي يحلم بها أيضاً ، ولم يبق له إلا أن يرغم نفسه على الحياة . والآخر قتله الفقر والافلاس وطمح في السعادة والثراء . يجتمعان كلاهما في حلم واحد عبر مغامرة يقدمان عليها نحو سرقة الطائرة المحطمة على شاطىء البحر بعد أن عرفا ما تحويه من أدوات ثمينة ستحقق لهما ثروة كبيرة ، وبين مشاعر الخوف وتطلع الحلم يندفع أحدهما نحوها في غفلة من الحارس ، ولكن لا يلبث القمر أن يخرج من بين السحب الداكنة فيضيء مكانه ويكشفه للحارس الذي يطلق عليه النار ليبدد لهما كل شيء في الظلام . لقد تحركت شخصيتا القصة طوال هذا الموقف بمشاعر مزدوجة نجدها في احساسهما الكبير بالحلم واحساسهما الكبير بالخوف من القدر . وقد عبر الكاتب في احساسهما الأول عن مدى الحرمان الاجتماعي الذي ينطلقان منه نحو الحلم فقد تجسد لهما في هذه المغامرة شعور طاغ بالانتصار على وضعهما المدقع حتى أصبحت في نظرهما طريقاً نحو الخلاص الاجتماعي ، إذ يقول أحدهما: " آه لو حققنا ما نحلم به ؟ سوف نشتري أشياء رائعة فعلاً سوف نشتري بيتاً بأكمله ، سوف أعيد ذكريات قديمة ، سوف أشتري لأمي سجادة وثوباً جديداً ، سوف أتزوج من التي رفضني أهلها لأني لا أملك حتى الحصير ... " (30). إن الكاتب هنا يعبر عن رغبة في تغيير الواقع ، ولكنها رغبة تنطلق عبر التناغم الفردي الذي لا يصدر عن وعي بالأسباب الكبرى في الحرمان والفقر وإنما يصدر عن إيمان بقوى القدر التي تقف في وجهها وتخيب آمالها باستمرار ، فكأن مغامراتها ثورة على القدر نفسه وليس على الواقع ، لذا يتساءل أحدهما "عن سر هذا القدر اللعين الذي يقف في دربه بهذا الشكل . هو فقير وابن فقير ولا يريد سوى أن يثرى ، ولا يريد سوى حياة أفضل ، فلماذا تقف الأشياء في وجهه بهذا الشكل ". والشخصية الثانية أيضاً تحدث نفسها " كيف يستطيع المرء أن يتزوج دون أن يدفع في وجه القدر قبضة حديدية ؟ ". وكل ذلك يجسد لنا الإحساس الثاني الذي يحرك الأسلوب الرومانسي لدى الكاتب وهو الخوف من القدر . ذلك الذي لم يكن ثمة مفر من مواجهته عندما تسلل القمر بكل هدوء من بين السحاب كي ينتهي بالحلم نهاية بالغة القسوة . وبذا تكون هزيمة الرغبة في التغيير نابعة من الحدث القدري . من ذلك القمر الذي بثه الكاتب كثيراً من المشاعر الرومانسية الحزينة الكئيبة في بداية القصة فغلف الجانب المكاني فيها بما يتلاءم مع غنائية الحلم الداخلي في شخصيتي القصة. إن رغبة الكتاب في تغيير الواقع تصدر في بدايات هذه الفترة من مشاعر القلق والحيرة ذات المحتوى الوجداني والعبثي ، رغم قلة بزوغها في العالم الرومانسي الذي يجول فيه كثير من كتاب القصة القصيرة في الستينات . ونجد ذلك في حيرة بطل قصة (أرض الأجداد ) لعبدالله خليفة في حلمه بتغيير الواقع ، كما نجده في قصة " وردة حمراء " لعيسى هلال التي تتناغم فيها تلك الرغبة مع الموقف الرومانسي ، فالبطل في هذه القصة يعيش الحيرة والسأم والفراغ القاتل، ولا يستطيع كل يوم أن يتحاشى المنظر المشؤوم لتلك المرأة المغمورة بعباءتها السوداء التي تقف في الخارج تطلب العطف والمسألة . ولكنه في أحد الأيام يصمم على أن يضع بعض النقود في يدها ، وحين يقوم بذلك تقدم له وردة حمراء . وينتظرها ثانية كي يعرف سرها ، ولكنه يجد مكانها امرأة أخرى تقدم له وروداً أخرى فيتركها للبحث عن تلك المرأة . وفي غمرة سؤاله عنها يعرف أنها قد توفيت بعد أن صدمتها سيارة . لقد حاول الكاتب أن يجعل من الوردة الحمراء صورة للرغبة الداخلية العارمة في التغيير والخروج من الحيرة. ولكنها تظل مجرد رمز للاتصال الوجداني بهذه الرغب ة، ذلك الاتصال الذي يكشف عن أزمة ذاتية غير محددة المعالم.. فهو يقول : " باقة ورد أحمر ، أخذ يرددها على لسانه أكثر من مرة ، وهو ينظر إلى البحر من خلال نافذة الاتوبيس المتوجه إلى مدينة المنامة .. يا رب ما سرّ الورد الأحمر ولكن الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها أن كل وردة حمراء .. تبعث فيه الرغبة للانطلاق .. وتغيير واقعه ، سأل نفسه يا رب أهذا ما كانت تهدف إليه .. ولماذا ؟؟"(31). إن هذه المشاعر بما فيها من اتصال بالرمز في " الوردة الحمراء " تفصح عن أجواء الحيرة والقلق التي لا يستطيع البطل أن يدرك ملامحها ، ومن ثم فهي تهوى في قرار سحيق ، ومناخ وجداني مهيأ للضياع والحيرة ولإطلاق الأسئلة الصعبة التي لا يجيب عليها إلا القدر، أو الحتميات التي تقررها ظروف الواقع. ومنطق الصدفة القدرية هو أكثر ما يغلف حياة الرومانسيين باليأس والعزلة والإحساس بالضعف والغموض أمام قوي الواقع وأزمات الذات ، وقد جاءت هذه الصدفة في قصة " الوردة الحمراء " لتستلب الاحساس الجديد في ذات البطل ولتجعله أكثر حيرة وانطواءاً . وفي قصة " سخرية وجود "(32) تأتي الصدفة القدرية لتجرد البطل من الإحساس الحقيقي بمعنى الحياة ولتنطوي به في اسار عزلته وعذابه واحساسه بتعاسة الحياة ، فقد شاء منطق القدر أن تفارق أمه حياتها في يوم ميلاده ، مما يجعل الجميع يطارده بالادانة والذنب لأنه كان سبب وفاة أمه ، وخاصة والده الذي كان يضطهده بشدة في الوقت الذي لم يكن يشعر بذنب حول وفاة أمه لأنه لم ير وجهها ، وقد دفعته حالته المحاصرة بهذا المنطق الظالم إلى عزلة عميقة إذ انتهى بعد كل ذلك إلى أن أمه هي التي أذنبت نحوه حين قدمته إلى هذا العالم المزيف ، ويعد ذلك قمة الشعور الرومانسي الذي يمكن أن يحرّك شخصيته في القصة ، فقد جعله الكاتب يشعر أنه كان فارس خلاص لأمه وأنه لم يكن شؤماً ونحساً كما أدين بذلك من المجتمع ، لأنه أنقذ أمه من تعاسة الوجود . وتنتهي القصة بهذه النهاية الموغلة في الاحباط والخيبة إذ يناجي أمه بقوله : " أماه .. ها أنذا أتعذب بالنيابة عنك .. وأعيش تعاسة الوجود ومرارة الحياة ". كل ذلك يؤكد الصورة السلبية الساخطة للبطل الرومانسي ، ويرسم الوجه الممزق القسمات الذي يواجه به أزمته الفردية ، ومشاكل الواقع من حوله مواجهة غير متكافئة القوى ينقاد فيها بارادة غامضة ، تتضاعف سلطتها عليه من فرط إيمانه بالقدر ، وإذعانه للقوى التي تستلب حريته ، رغم شوقه إليها ثم انسياقه في محيط الخلل والقلق الدائر ، رغم رغبته في الاندماج مع وحدة جماعية تحقق له حريته وتخلصه من عناء الظلم الذي لا يستطيع أن يدرك مصادره تماماً كما لا يستطيع بطل قصة " نفوس معذبة "(33) لعيسى هلال من أن يدرك غربة والده وضياعه الذي أدى إلى ضياع الأسرة جميعاً . وكما لم تستطع سائر الشخصيات الرومانسية في قصص الستينات خاصة من أن تدرك قضية انهزامها أمام قوى الواقع ، وتتخلص من مصائرها الثقيلة الوطء. |