القسم الثاني . الفصل الأول 7
تستمر القصة الرومانسية في هذه الفترة في تصوير النزعة المتحررة من التقاليد، وإذا كانت تعد في ذلك امتداداً لرومانسية الخمسينات فإن نزعتها هنا تكون أكثر تحرراً، كما يكون أسلوبها متسماً بالرفض الشديد والإدانة القاطعة، وفيما عدا ذلك تظل جوانب الامتداد بين رومانسية الفترتين قوية واضحة وبخاصة في معالجة طبيعة الموضوع، والشكل الفني الذي يحرص على التلاؤم مع أغراض الدرس الأخلاقي.
ولأن العواطف الفردية هي أكثر الجوانب التي تتعرض للإيذاء والاضطهاد في الصراع مع التقاليد فإنها بذلك تصبح فيصلاً في انبهار البطل الرومانسي وسقوطه، لأنه يجابه بها الأحداث من غير أن يعطي للمنطق العقلي دوره في توجيه المصير النهائي، رغم أنه يجنح غالباً نحو التحرر والانعتاق من ربقة القيود الاجتماعية، ولعل ذلك ما يؤكد لنا بأن الرومانسيين (مهما تكن من صلة بين أدبهم والحياة الواقعية، فهي صلة الحالم المتحرر من حقائق المجتمع، ومما يقدسه ذلك المجتمع من تقاليد لأنه يعيش في عالم لا هادي فيه سوى القلب والعاطفة) (2).
إن النزعة المتحررة في عالم البطل الرومانسي لا تحول دون انهزامه وخيبته الشديدة، فهو يتصور نفسه فرداً واحداً في مواجهة قوى التقاليد وجيل الآباء، بل إن هذه التقاليد تستحيل في نظره إلى قدر غاشم، ويمكن أن نجد ذلك في كثير مما كتبته هداية سلطان السالم من قصص قصيرة . ففي قصة (رأيتها) تصور لنا كيف تنتكس عواطف الفرد نحو أشد أنواع المصير خيبة وانتهاء، فـالبطـل عـاش فـي كنف أبـويـه محبوبـاً يرعيانـه بالعطـف والحـنـان، وقـد أحـب (طيبة) التي كان يراها ساعات خروجها من المدرسة ولا يلمح من بين عباءتها غير وجهها المستدير وعينيها الواسعتين وأنفها الدقيق، فيصمم على الزواج منها، ولم تسمح له التقاليد أن يرى شريكة حياته إلا بعد إتمام كل طقوس الزواج، ويفاجأ حينئذ بأن المرأة التي زفت إليه مسربلة بأغطيتها لم تكن حبيبته لأنه رأى (طيبة) جالسة بعيداً عنه مع البنات، ويتلقى بذلك ضربة قاسية تسقط جميع الآمال في قلبه.
لقد تحكمت سلطة التقاليد بشدة في مصير البطل، فقد أدت به إلى نهاية مزدوجة، حيث أسقطت جميع أحلامه الفردية، وجعلت منه إنساناً ضعيفاً يعيش ذكريات أحزانه ويبكي خيبته الشديدة . ومن ناحية ثانية جعلته يشعر بالنقمة على كل ما يحيط به، ولا بأس من أن نقف مع جانب من أسلوب الكاتبة الذي يوجه مصير شخصية القصة وجهة لا تخلو من الاحتجاج والرغبة في التحرر، فهي تقول بضمير المتكلم الذي يتميز بروح الاعتراف والاحتجاج :
(إن الفرحة كانت تغمرني من رأسي إلى أخمص قدمي، قد تبدلت إلى نكد لا يطاق والسعادة التي كانت ترفرف فوق عشي الصغير قد ماتت فيّ . والآمال العراض التي بنيتها بعصارة حبي وصلابة عزيمتي، وقوة إيماني قد تحطمت إرباً إرباً، وكرهت نفسي وكرهت الأوضاع الفولاذية التي تسير عليها بعض التقاليد في بلادي . كرهت كل شيء في الوجود حتى الأشياء الحبيبة إلى نفسي.
(كنت أحب تمسك المرأة الكويتية بزيها الوطني الخاص. العباءة، الفضفاضة التي تستر محاسنها فتقيها شر الذئاب البشرية.... ولكـن فـي تـلك الليلـة كـفـرت بكـل شـيء وتمـنيـت إذا كانـت الـمـرأة سافـرة بـلا قـنـاع، حـرة بـلا قـيـود تـفـعـل ما تـريـد وتـرفـض مـا تكره ) (3).
إن الكاتبة هنا تقف مع نتائج الظاهرة الاجتماعية لذا فهي تسلك بأسلوبها القصصي مجالاً قد يبعدها عن شروط اللغة الفنية في القصة، ولكنه يقربها قرباً شديداً من طبيعة الدرس الأخلاقي الذي تريد أن تلقنه للقارئ، ومن هنا جاء المقطع السابق دعوة صريحة للسفور والتحرر من القيود التي تفصل بين الرجل والمرأة، وربما كانت هذه الدعوة الأولى في القصة القصيرة التي أرادت فيها الكاتبة - بحكم معايشتها لمعاناة الفصل بين الجنسين - أن تربطها بالمصير الرومانسي لشخصيتها في القصة.
ويفرض الاهتمام بنتائج الظاهرة الاجتماعية الشكل التقليدي الذي تجري عليه القصة الرومانسية غالباً، فالبطل هو الذي يسرد الأحداث بعد أن تكون قد فعلت فعلها في حياته وأوغلت به عواقب الاستسلام، إنه يبدأ من نهايته التي وقع فيها ليعيد ترتيب المأساة حول مشكلة التقاليد، ومن هنا تطغى لغة السرد في قصص (هداية السالم) على نحو يخلق لديها مظاهر الرتابة في مفردات الاعتراف والاحتجاج.
والبطل في معظم قصص الكاتبة (امرأة). وهذا أمر طبيعي ما دامت معظم قيود التقاليد تجول في عالم المرأة غالباً، كما أن طبيعة مشاعر المرأة أقرب إلى خلق الأجواء الرومانسية التي تسيطر على أسلوب الكاتبة . ونجد هذه المرأة في قصة (النار) (4) وهي تروي مأساتها لصديقتها في لغة سردية تهيئ لشخصية القصة إمكانيات كبيرة من العرض والاستدعاء للمشاعر والأحداث فوق مساحة زمنية عريضة من حياة الشخصية.
لقد عاشت بطلة القصة مع أختها في بيت عمها فتربيتا مع ابني عمهما جاسم وعبدالوهاب وعندما كبروا كبر معهم حب قوي، حيث أحبت بطلة القصة عبدالوهاب، وأحبت الأخرى جاسماً، ويموت جاسم إثر حادث عندما ذهب مع أخيه خارج البلاد، ومن هنا تبدأ المفارقة المأساوية في حياة البطلة، فعندما يرجع عبدالوهاب تستقبله ابنة عمه بالأحلام والأشواق، والآمال العريضة، ولكن لا تمضي فترة بسيطة حتى يعرض عليه والده الزواج من ابنة عمه فيرفض في بداية الأمر، ثم يوافق على مضض شديد، وتظن بطلة القصة أنه كان يرفضها في حين أنه كان يرفض الزواج من أختها الكبرى قبل الصغرى . ويتم الزواج، وتنتهي القصة بمشاعر الحرمان والخيبة للمرأة والرجل في آن واحد.
لقد قادت التقاليد هنا إلى مفارقة مأساوية، حيث أعطت الحبيب لمن لا يحب، وانتزعت منه حبيبته لتعاني ويلات الغيرة من أختها أقرب قريباتها، وتأتي صورتها إزاء تشكيل مثل هذا الحدث مستسلمة عاجزة مؤثرة حياة العزلة والكبت، غير قادرة على مواجهة ضعفها الذي يؤدي بها إلى مصير مجهول.
وفي قصة (أقوى من النار) لا تختلف الأبعاد الفنية للحدث وهي تنسج خيوط المأساة الاجتماعية التي تقضي على حياة المرأة عندما تكون في مجابهة التقاليد، فالبطلة تذعن لاختيار الأب والأم وتقبل الزواج من زوج أختها التي يفاجؤها الموت وهي تضع مولودها فلا تستطيع أن تحكم لها اختياراً بل تستسلم لرغبة الوالدين . وهنا تتعرض عواطفها للاضطهاد الشديد فقد حرمت من حبيبها الذي رأته في ليلة زفافها وهو ينظر إليها بحنو وشوق، كما أحست بأنها تقوم بإهانة أختها المتوفاة حين اقترنت بزوجها.
إن جميع الأحداث في قصص الكاتبة تنتهي نحو الأسلوب التعليمي واستخلاص الصفة الخلقية . ولا نلمح للمرأة خلالها قدرة على المواجهة أو التحرر، ولكن حين تقع عليها قيود الواقع وتحاصرها وتضطهدها تبدو رغبتها في التحرر، ومن ثم يبرز الجانب التعليمي في أسلوب الكاتبة، ويتجلى ذلك مباشراً صادراً مما أسبغته الأحداث في القصة من آثار التخلف التي ترويها بطلة القصة بأسلوب متكرر مثل :
(بين مأساتي ومأساتك يا أختاه شبه غريب وإن اختلفت التفاصيل فأنا وأنت ضحية للعادات . ضحية للذين يظنون - حتى اليوم - أن المرأة ناقصة عقل ودين، وأنها بالتالي لا تملك حق تقرير مصيرها . ولا حق لها في أن تقول لا إذا قرر المقررون أمراً لا ينسجم مع رغبتها) (5).
إن الدرس الأخلاقي هنا يتلازم مع صورة الانهزام والسقوط التي تنتهي إليها بطلة القصة، ويعتبر ذلك أكثر ما اتجهت إليه الرومانسية التقليدية في هذه الفترة . فالقيمة الأخلاقية لها ضرورتها الكبرى في صياغة القصة الرومانسية، وقد استخلص ذلك الناقد الفرنسي فيليب فانتجم حين أخذ يؤكد بشدة على ضرورة هذا المطلب الرومانسي بقوله : ) على القصة أن تكون أخلاقية، إن لم نقل معلم أخلاق، ويجب ألا يعبر الدرس الذي تحويه بحوادث تزيد أو تقل اعتباطية . عليها أن تخرج من حالة الأشخاص العاطفية ما كان يمكن أن تحصل عليه، فيما إذا كان الوصف صحيحاً، وفيما إذا كانت المواضيع مأخوذة من عالم قريـب مـن عالمنـا. لنشعـر كـأن ظـروف الحيـاة الخاصـة الـتي تثار فيهـا هـي ظروفـنــا) (6).
إن هداية السالم تخيب كثيراً من آمال المتتبع لتجربتها في كتابة القصة القصيرة عندما يشتد اهتمامها بالحوادث التي تستقطب عمراً زمنياً طويلاً في حياة البطلة، بحيث تصبح الفكرة الأخلاقية أمرا بسيطاً إلى أبعد حدود البساطة أمام تقاطع مجرى الأحداث وخطوطها المتعددة الفضفاضة، وربما تحركت هذه الأحداث بصورة اعتباطية كما وصف ذلك ) فانتجم ( أو ربما تحركت بشكل مفتعل ولكنها رغم ذلك لا تفقد اتصالها بصورة العالم الرومانسي الذي تنسجه الكاتبة للمرأة في مجتمع الخليج العربي . ولعلها في قصة (ضاع عمري) (7) أكثر حماساً للتعبير عن هذا العالم فهي تبدأ الأحداث من نهايتها، حين تكون البطلة في المستشفى تعاني أمراضها النفسية والجسدية، وترجع بذاكرتها إلى الوراء لتتداعى إليها صورة الأحداث المريرة التي عاشتها في صراع عنيف مع تقاليد المجتمع، ويسيطر هذا الارتداد إلى الماضي كما في القصص السابقة حتى يصبح سرداً عادياً مغرقاً في الانثيال والتراكم، لا تتمكن الكاتبة من ضبطه عبر عملية التداعي والارتداد.
لقد أحبت (حصة) ابن الجيران (إبراهيم) وظلت تتصل به خفية، وحين سافر عنها ليكمل دراسته تعاهدا على الوفاء وانتظرت عودته ولكنها في غياب الحبيب تكره على الزواج من (مبارك) الثري المسن، ولا تجد سوى الرضوخ لأوامر الأب الذي يتذرع بالكذبة المعروفة) أنه يفهم مصلحتها أكثر منها (. وتتحول حياتها إلى شقاء فلا تسمح له بالاقتراب منها حتى يطلقها، فتزداد عليها القيود لأن للمجتمع تقاليد مسرفة حول المرأة المطلقة، فهي لا يحق لها الخروج أو إبداء الرأي في أي أمر من الأمور، وحينئذ يرجع الفتى الذي تحبه ليعود إليها الأمل،ولكنها هنا تقف مرة ثانية أمام التقاليد فقد عرض عليها والدها أن تتزوج أحد الأثرياء (عبدالمحسن) فرفضت وصارحته بحبها لإبراهيم فاستشاط الأب غضباً بدعوى أنه من أسرة أصيلة وعريقة بينما ذلك الفتى لا أصل له . وتستسلم أخيراً لرغبة الأب وسيطرته فتتزوج من عبدالمحسن . وتظل في حالة نفسية محبطة تؤدي بها إلى المرض، وفي نهاية القصة تموت بين ذراعي حبيبها إبراهيم الذي يحاول أن يعيد إليها الأمل دون فائدة .