القسم الأول . الفصل الرابع 1
بدأت القصة العربية في مراحلها الأولى متوجهة إلى المجتمع توجهاً لا يسعى إلى التصوير فحسب بل يسعى إلى عرض صورة الحياة ووصف الأحوال الاجتماعية، واستصراخ القيم الإنسانية لما كان يراه الكاتب العربي من مظاهر الخلل الكبيرة التي تعترض قادة الإصلاح في المجتمع، ويمكن ملاحظة ذلك لدى عدد من رواد القصة القصيرة في الوطن العربي أمثال محمد لطفي جمعة، والرافعي، ومحمد تيمور، ومحمود تيمور، والمنفلوطي وغيرهم سواء في مصر أو بلاد الشام والعراق.
وقد تأثر كل هؤلاء بالأفكار الاجتماعية والإصلاحية التي سادت في عصرهم فتبنوا نشرها وعملوا على تمكينها بما أمكن لديهم من أساليب وأدوات في فن القصة، فكانوا يقومون بما يقوم به المصلح الاجتماعي من دور، وكاتب مثل المنفلوطي كان دون شك يصدر في أدبه عن تأثر واضح (بكثير من المصلحين الاجتماعيين، الذين رأوا ما يجره التمدن الغربي على المجتمع الشرقي الإسلامي من ضروب الفساد الاجتماعي كالقمار وشرب الخمر وإدمانها وسقوط الفتيات، وموت الفقراء شقاءً وبؤساً مما يدعوه إلى تكريس مقالاته وقصصه للدفاع عن الفضيلة ومحاربة الرذيلة، داعياً إلى الحرص على الفضائل النفسية والاجتماعية ومكارم الأخلاق (1) ).
وفن القصة بطبيعته الفنية وبقدرته على التصوير والعرض للمشكلة الاجتماعية أو لفساد القيمة الإنسانية، يمكن أن يصبح أداة فعالة يناضل بها الكاتب الذي يلتزم بدوره الإصلاحي في بناء المجتمع، وحيث اقترنت المرحلة الإصلاحية في الوطن العربي بمظاهر الصحوة واليقظة، وبوضوح الشخـصية المحـلية وبـروز الطبقة المتوسـطة التي قـادت حـركات الإصـلاح،
واغتنمت فرص التغير الاجتماعي والاقتصادي، فقد رأينا القصة الاجتماعية القصيرة بأهدافها التعليمية الواضحة تستوعب شروط تلك المرحلة وتتمثل لظروفها التاريخية .
وتأتي القصة القصيرة في البحرين والكويت بموضوعاتها الاجتماعية وبمعالجاتها الإصلاحية والتعليمية حصيلة لظروف اجتماعية وعوامل سياسية واقتصادية لا تختلف عما واجههه المواطن العربي، وبخاصة في مصر وسوريا والعراق . فقد اقترنت فكرة الإصلاح لأحوال المجتمع ومفاهيمه وللوضع السياسي والاقتصادي في البلاد خلال الثلاثينات والأربعينات والخمسينات بظهور القصة القصيرة في الصحافة وارتبطت هذه المرحلة التاريخية بأدوار اجتماعية قلقة ومضطربة واجه فيها المجتمع انتقالات حادة أو ملامح صراعية كثيرة بين الأفكار الاجتماعية المتحررة التي دعا إلى ترسيخها رواد الإصلاح والتحرر الاجتماعي، والمفاهيم الجديدة التي برزت بعض الشيء لتكون أولى بوادر التغير الاقتصادي بعد اكتشاف النفط، وبين الأوضاع والتقاليد الاجتماعية المزمنة الثابتة التي استقرت أشكالها في حياة الناس وفي طرائق تفكيرهم ومعيشتهم وسلوكهم، وأنماط الحياة لديهم، في الزواج والطلاق والتربية، وغير ذلك .
ومن هنا فإن المعالجة الإصلاحية والتعليمية في القصة الاجتماعية القصيرة تأتي لتعبر عن ضرورة اجتماعية انكشفت أمام الكتاب خلال هذه الفترة، فأرادوا تجميعها ورتقها وعلاجها من أجل مواكبة العصر، وانتزاع مظاهر التخلف والجهل، وتثبيت القيم والمثل .
إن القصة القصيرة في الخليج العربي تنشأ وتنمو في هذه الفترة التي تعد إرهاصاً شاملاً في جميع أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . وتدفع الحركة الوطنية الإصلاحية في كل من البحرين والكويت هذا الإرهاص دفعاً قوياً، وتبرز معها دعوات التحرر الاجتماعي وضرورة التماسك والتكافل وترك الأخلاقيات التي من شأنها أن ترتد بالإنسان إلى التفكك والضياع والسقوط . وفي الوقت نفسه تتضح المواجهة مع عيوب الإدارة المحلية وفساد أجهزتها وحاجتها إلى القوانين التي تحمي أبناء الطبقات الاجتماعية البسيطة حين تتعرض لشقاء المهنة وشظفها في البحر .
كما تتضح أيضاً أشكال المواجهة مع إصلاح وضع المرأة في التعليم .. وفي البيت وفي علاقتها مع الرجل .. زوجاً وأباً وأماً، وفيما يسيطر عليها من التقاليد التي تقعدها في البيت أو تجعلها تمارس أكثر العادات والطقوس جهلاً وسوءاً .
لذا تجد القصة القصيرة في هذا الدور الاجتماعي الواسع مادة خصبة عريضة لصياغة أفكار كتابها ونظراتهم في المجتمع والحياة والقيم والأخلاق ودعواتهم المتحرر إلى تحقيق الضبط والتماسك الاجتماعي وبخاصة داخل الأسرة الصغيرة التي تمثل في نظر الكاتب مجتمعاً كاملاً آسراً بالقضايا، وقد أعانهم في ذلك أفكار دعاة التحرر الاجتماعي كما قوى صوتهم من خلال الصحافة المحلية وعبر المقال الاجتماعي الذي بسط الدعوة إلى الإصلاح، كما اعتركت أفكار التحرر مع القوى المحافظة وهي في سبيل دعوتها إلى إصلاح التعليم وتحرير المرأة من بعض قيودها. إن مظاهر هذا الوعي تمثل لكتاب القصة الاجتماعية قاعدة فكرية صلبة ينطلقون منها إلى معالجة ما يشاهدونه في المجتمع من مشاكل وصور وسمات بارزة ولوحات اجتماعية بائسة أو مؤسية، خاصة إذا أدركنا معايشة كتاب القصة القصيرة في البحرين والكويت خلال هذه الفترة لكتاب المقالة الاجتماعية الإصلاحية أمثال .. عبدالعزيز حسين، وأحمد السقاف، وعبدالله زكريا الأنصاري، وخالد خلف، وغيرهم من الكويت وعبدالله الزائد، وعلي سيار، ومحمود المردي، وعبدالرحمن الباكر وغيرهم من البحرين، فمثل هذه المعايشة أتاحت المجال للفكرة الإصلاحية والتعليمية أن تبرز بوصفها تياراً فكرياً عاماً شمل كل ألوان الأدب والفكر كالشعر والمقال وبوادر المسرح .
ويأتي تأثر الجيل الأول من كتاب القصة القصيرة في الخليج العربي بالقصة العربية في مراحلها الأولى في أقطار عربية أخرى بمثابة دفعة أخرى نحو الـتوجـه إلـى الاتـجـاه الاجتمـاعـي فـي الـقـصـة الـقصـيرة، فمـعـظــم هـؤلاء الـكتاب تفتحت أعينهم على قصص تيمور ولاشين والمنفلوطـي والمويلحـي وهيكل وغيرهم من الرواد، فوجدوها تقوم بدور بارز في معالجة مشاكل المجتمـع وتوجيهه وتطوير مفاهيمه السائدة، لذا بثت فيهم روح التقليد والأحياء لأسلـوب القصة العربيـة ومضامينهـا السائدة حول موضوعـات المجتمـع العامـة.
ويتحدد الاتجاه الاجتماعي في القصة القصيرة خلال هذه الفترة بكل ما ارتكز عليه من ملامح الرؤية الإصلاحية التعليمية في ناحيتين : إحداهما الموضوع الاجتماعي أو القيمة الاجتماعية والأخلاقية التي تنبسط ظلالها واضحة فوق مظاهر السلوك، وصورة الوضع الاجتماعي القائم ممثلة في أحواله وقوانينه وسننه، وصورة المفاهيم والتقاليد والطقوس التي تتعلق بالذهن الجماعي وتقوده إلى الممارسة الاجتماعية الخاطئة أو المنحرفة ثم صورة العلاقات الاجتماعية التي تدور في نطاق الأسرة الصغيرة أو في نطاق الرجل - بوصفه أباً وزوجاً - والمرأة بوصفها أماً أو زوجة فتتورم هذه العلاقات - وبخاصة في وجه المرأة - لتكشف عن مشاكل دامغة لها رواسبها وتوغلها فيما مضى وفيما يرتهن في الواقع الحاضر.
والناحية الثانية أن المعالم الفنية لهذا الاتجاه الاجتماعي في القصة القصيرة تتحدد من خلال المعالجة الإصلاحية والتعليمية التي يقيم لها الكتاب الوزن الأساس في طرح المشكلة وبسطها أو عرضها وتناولها . فتكون الصورة الفنية التي تحكم اصطفاء الكاتب للمشكلة أو القيمة الاجتماعية خاضعة لطبيعة المعالجة التي تتوخى غاية الإصلاح وتلقين الدرس الأخلاقي، فهي تفرض ما تستدعيه - بحكم الغاية أو الرؤية - من مواضعات وتقاليد فنية وأساليب مختلفة.
ويتدرج الاتجاه الاجتماعي للقصة القصيرة في الخليج العربي من معالجة المغزى الأخلاقي والسلوكي، إلى المعالجة الإصلاحية المباشرة للمفاهيم والتقاليد، إلى المعالجة التعليمية للوضع الاجتماعي العام وأخيراً إلى المعالجة التعليمية لوضع الأسرة والمرأة. كما سنبين ذلك فيما سيأتي .