القسم الثاني . الفصل الثالث 6
تستمر تنويعات النزعة التحليلية في القصة الواقعية القصيرة مع استمرار شغف البحث في المعاني الإنسانية ودلالاته الاجتماعية ذات الخصوصية المتميزة . ويكشف النهج التحليلي عن أصالته بمقدار ما يتوصل إليه من رهافة وشفافية في صياغة الموقف الذي يكشف عن عدائه لمظاهر انحلال المجتمع ومفاهيمه التي تفتت قوى الجماعة البشرية، وتقسم بين نماذجها فتثير اغترابها وعزلتها . ومن هنا فإن الكاتب كلما اقترب من صياغة هذا الموقف بات على قرب من النظرية الواقعية في أخصب مظاهرها الفنية، ولعل في تجربة سليمان الخليفي ما يوضح لنا دور أصالة الكاتب وموهبته في تأكيد اقتران ذلك الموقف مع المعرفة العميقة المتطورة بوظيفة الفن . إذ أن قصصه القصيرة منذ بداياتها، وحتى مرحلتها الأخيرة تمثل تصاعداً، بل تقارباً نحو موقف أكثر وضوحاً من المجتمع من ناحية والفن من ناحية أخرى .
ففي بداياته الأولى التي خرج بها مع بداية الستينات كان من أولئك الذين لفهم انحلال المجتمع وحاصرتهم خيبته ومظاهر قلقه الشديد فكتب ) قاع الجدار ( و ) مجتمع العظام ( و ) خارج اللوحة ( و ) الحبل المبهم ( معبراً عن تسليمه بما هو كائن، ويقينه بنوع من الحتمية الميتافيزيقية التي كانت تؤول إليها شخصياته ضمن تساؤلاتها المهوِّمة البعيدة عن تناقض الكون والحياة والسعادة والشقاء ونحوها .. وكان الكاتب فيها يستمد أثراً من آثار قراءاته في فلسفات العدمية، وفي التراجيديا الكلاسيكية التي كانت تعمق لديه الشعور بالتناقض المأساوي، حيث تأخذ الحبكة دورتها الكاملة في نسج مصائر بالغة التأثير .
ولكن سليمان الخليفي لا تثبت نظرته مع تلك المسلمات الهلامية، إذ أنه يبدأ في إدراك قوانين جديدة للصراع الذي تخوضه شخصياته في القصة القصيرة، فقد بدأ يكشف مصادر التناقض في الحياة الاجتماعية من غير تعميمات، أو لجوء إلى الأجواء المعتمة التي كان يتجنب بها من الظهور بموقف محدد إزاء الظواهر والتناقضات الواقعية. ونجد ذلك منذ قصة ) الأسئلة المغلقة ( التي جسم فيها المصير الاجتماعي مرتبطاً بالآثار الراهنة لتطور المجتمع البرجوازي، مما جعل الشخصيات تثير السؤال حول انسحاقها مع تناقضات هذا المجتمع . وليس مع معميات أعماقها الممزقة .
وبعد هذه القصة يواكب الخليفي المدركات الواقعية الجديدة التي يحتفي بها غيره من كتاب القصة القصيرة، مع معايشته وقربه الشديد مما تفتح به ذلك الاحتفاء من أبعاد فنية وفكرية جديدة . ومن ثم تكون تجربة سليمان الخليفي هي الاستمرار المتواكب مع منطلقات معاصريه من الكتاب في الواقعية التحليلية. إنها التجربة المستمرة لأبعد القيم الفنية ارتباطاً بالتطور الكيفي الذي لبعت فيه تلك الواقعية دورها الكبير، إذ لم ينحرف عن اهتمامه بفن القصة القصيرة كما رأينا مع سابقيه الذين توزعت اتجاهاتهم ما بين الصحافة (علي سيار)، والبحث العلمي (سليمان الشطي)، والمسرح (عبدالعزيز السريع).
والقصة القصيرة عند سليمان الخليفي تتبنى الاتجاه الغالب عند سليمان الشطي، وعبدالعزيز السريع وعلي سيار، الذي توخى البحث عن المعنى الداخلي في الشخصية منتزعاً منها كل ما تستجمعه مواقفها من ظروف اجتماعية ونفسية، تنعكس من واقع موضوعي بعيد الدلالة، ويلجأ الخليفي إلى تمثيل ذلك المعنى مستعملاً أبعد الوسائل الفنية قدرة على الالتفاف والرصد للوقائع الصغيرة التي يكون له ارتباطها الوثيق بالموضوعات الجوهرية في الواقع، حتى أنها تصبح بما تحمله من أبعاد العصر متخطية حدود الملاحظة للواقع اليومي، ومنغمسة مع انفعالها العميق بالحياة الذي يخرج مقطراً .. مكثفاً .. في مواقف وشخصيات نموذجية تبدو أحياناً ذات محتوى شعري أخاذ . وتبدو أحياناً أخرى رموزاً فياضة بمغزاها الواقعي .
ولعل أبعد ما يسجله الكاتب في صياغة هذه المحتويات الداخلية برؤية تحليلية متطورة يمكن استقصاؤه في قصتي ) في الداخل والخارج ( و ) اختلاط (، كما يمكن تلمس ملامح كثيرة منه في بقية قصصه الأخرى التي ينشرها بين فترات متباعدة، يستجمع فيها قدراته الفنية بإحكام شديد، فهو كاتب لا يلهث في اقتناص تجاربه القصصية من أجل النشر . حتى أنه يعد من ذوي ) الإنتاج الشحيح ( كما وصفه بذلك بعض النقاد، من غير أن يعيب ذلك تجربته الأدبية، بل إنه ربما كان أحد مؤشرات تطور نظرة الكتاب إلى الأدب والفن . ففي مرحلة استمرار الرومانسية كان كثير من كتاب القصة القصيرة لا يعبأ كثيراً بالدقة الفنية، ولا يمهل للتجارب اليومية أن تعتمل مع ملكاته بنضج، ولذا وجدنا ظاهرة الإنتاج القصصي الغزير، كماً والمتبسط كيفاً عند محمد الفايز وهداية السالم ومحمد الماجد .. في حين اختلف الأمر مع ظهور الواقعية الفنية، حيث أصبحت التجربة لا تخرج في شكلها الفني إلا بعد استيعابها ومكابدة معانيها الأكثر دلالة وتميزاً .
وقصة ) في الداخل والخارج ((30) ترتكز على أكثر من منطلق يحقق لها ثراء الأسلوب، وغنى الواقع الذي تنغمس فيه من خلال الانغماس في الشخصية لتبرز له بعداً كلياً يحتوي على أقرب عناصر الحياة الواقعية في المجتمع الكويتي. فهي تنطلق من وعي اجتماعي يتخلص من ترسبات البداية المضطربة التي لم تهتد إلى شكل فني محدد، كما رأينا ذلك في تحليل نماذجها مع ) استمرار الرومانسية (، وهي تنطلق من معايشة التجربة الأدبية وما حققته من انتقال، حيث يخوض سبل الاستفادة من التعبيرية التي نهجتها القصة القصيرة عند سليمان الشطي، وخاصة في قصة ) الصوت الخافت ( ويكون ملتقى هذه الاستفادة في الاتجاه بالقصة القصيرة إلى بناء فني غير مألوف، تتفتت من خلاله وحدة الحدث في شكل زوايا أو مرايا تتعاضد جميعها في رصد الشخصية الواقعية، وتحليل منطوياتها الموحية .
إن بطل قصة ) في الداخل والخارج ( يتقمص أكثر من شخصية واحدة بما يوحي بتعدد رؤوس الموقف العام الذي تلتف حوله هذه القصة فهو يبدأ بالشاب ذي العينين الجميلتين اللتين صبغهما الإعياء بلون كريه، والأنف الكبير القبيح، يشرب الخمر، ويخاطب نفسه، والكأس بأعماق مطفأة، ثم يدخل المسجد ليؤم المصلين، وليقذفوا به في الخارج حين يعرفون سكره.
ثم تخرج لنا شخصية الإمام بأنفه المتكور ومنخريه الواسعتين يخطب أمام الناس، ويحظى بالاحترام ويسأل عن أمور الدين، ولكنه رغم ذلك يبدو نموذجاً بشرياً متحذلقاً يستغل مكانته الدينية فيضطهد الشاب الفقير ويتنكر لوصيته، ويرفض تزويجه من الفتاة التي أرادها، لأن أفكاره تتنافى مع أفكار الإمام . ثم يبدو ) اللص ( ذو الأنف الكبير البشع الذي يتسلل لسرقة البيت الكبير كي يسد جوعه وعريه ) وهو يسرق لأن الجميع قد سرقوا منه إمكانية البروز بينهم بلا تعرض لأكثر القواعد بداهة ( ويبدو أيضاً .. المدير ) المسئول ذو الوسامة ( حتى أنفه الكبير لم يسيء لمضمون الوسامة ) في شخصيته .. التي تضطهد ( الفراش الفقير وتحقره أمام لفيف أصدقائه الزائرين ذوي الكروش الكبيرة . وأخيراً يبدو ) أحمد ( إنسان في غاية القبح . كل شيء فيه غير عادي حتى أنفه الكبير وهو يعيش الحرمان من حبيبته التي تتزوج أخاه .
وهكذا تبدو مسارب الشخصية التي يرصدها الخليفي بالتحليل رصداً يدخل عليها من جميع زوايا وجودها الاجتماعي والنفسي، إنها جميعاً شخصيات قبيحة متحللة بزيف المجتمع، أو منطفئة بشذوذها النفسي، ولكنها تنم في صورتها الكلية عن وجه واحد يحمل القبح والتشويه الذي يسفر به ذلك المجتمع. وقد جعل الكاتب الأنف الكبير البشع رمزاً لهذا القبح لأنه يبدو سمة مشتركة بينهم جميعاً (31)، وتنبغي الملاحظة إلى أن الكاتب يستقطب القبح والتحلل في الشخصية من غير أن يعزلها عن وجودها الاجتماعي، إنه يسبغ عليها هذه الصورة باعتبارها مصيراً لتناقضات المجتمع الرأسمالي الذي تجتمع فيه مبررات الزيف والقهر والضياع . ولعل شخصية الإمام - بصورة خاصة - هي البعد الأكثر حيوية في نقد المجتمع حين تتخلق في داخله شتى القيم التي تقوم مع قيامها . فهو ) نموذج ( لشخصية تستغل الآخرين باسم الدين . فالناس تسلِّم بالاحترام والإجلال لرجل يجيد الكلمات النحوية ) تؤدي إلى نتائج حاسمة ما إن يرغب ( . لطيف ونظيف، والمسجد في الحي يحتاج إلى إمامة، هذه جملة من الظروف المعينة التي تستغلها بعض النماذج البشرية من أجل تغليف نفسها بهالة كبيرة .
وكذلك الأمر حين انقلبت الشخصية إلى ) المسؤول (، نموذج بيروقراطي مستغل. أو حين انقلبت إلى ) لص ( يرى سرقة الآخرين في النهار متمثلة في شكل استغلال يومي من الأغنياء للفقراء فيدفعه ذلك إلى أن يسرق ضد العرى والجوع والحاجة . وبذا فإن هذه النماذج المتداخلة والمتشابكة في قبح واحد ترتبط جميعها بقيم اجتماعية شاملة المحتوى، تبث في انطباعنا إحساساً قوياً باختلال مواضعات المجتمع وتزعزع قيمه، ومن هنا اكتسبت المواقف نموذجيتها، وتأثيرها الواسع، خاصة أن الكاتب يصطنع لها وسائل فنية تغني المشاهد الجزئية، وتقرب دورانها مع المشكلة الجوهرية، فهو يلجأ إلى الشكل التعبيري الذي لا يعبأ بالمنطق التقليدي للحدث، بل يلاحق المشاهد، واللقطات والجمل الموحية بمفارقات الواقع، وهو يبدو متأثراً بالطابع الملحمي في الواقعية الفنية حين يلجأ إلى المشاهد الجزئية القصيرة التي تذكرنا بطريقة ) بريخت ( في المسرح الملحمي، وليس هذا فحسب بل إن تفجير الطاقة الشعرية في أعماق شخصياته يعتبر جانباً مما يربط الكاتب بتأثره السابق، انطلاقاً من الاتصال المكثف بالممارسة الاجتماعية في الواقع، وهو الاتصال الذي يحقق أخصب المظاهر الفنية في القصة السابقة، إذ تخلص الكاتب به من غثاثة المظهر الخارجي وتفاصيله الثقيلة، وأتاح له أن يصل تنقياته الدقيقة للمشاهد واللقطات التي يتحرك بها الواقع الخارجي بتلك الحركة المكثفة في أعماق شخصياته، وهي تتناوب أدوارها بصورة موضوعية مقنعة، وبذا أصبح رصد الانعكاس بين الخارج في مواقفه المصفاة.. والداخل في لغته الشعرية المتواكبة مع تلك المواقف تعبيراً عن تشخيص الباطن الداخلي، وحثه على المشاركة )بوعي( في صياغة مواقف النقمة أو الاضطهاد.
ويبدو توظيف اللغة الشعرية في هذه القصة أبعد ما يحققه الكاتب للنزعة التحليلية من وسائل تؤصل قدرتها على الاستبطان للمعنى الداخلي في الشخصية، ونعتقد أن المنولوجات الشعرية الداخلية جاءت في هذه القصة تكثيفاً للواقع الموضوعي الذي أحاط بأدوار شخصياتها المتناوبة، وتفجيراً لبعض الدلالات التي لم تستطع المواقف الملتقطة تجسيمها نظراً لتتابعها التلقائي السريع .
ثم تأتي قصة (اختلاط ) (32) لتؤكد لنا جوانب أخرى في تأثر سليمان الخليفي بالطابع الملحمي . فهو كاتب مشدود إلى ثقافته المسرحية منذ بداياته الأولى في قصة ) قاع الجدار ( . ولا ريب أنه قد استمد من هذه الثقافة ما ينطبق من مفاهيمها على الفن القصصي، ولعل الطابع الملحمي الذي يحدده ) بريخت ( في الأعمال المسرحية من تلك المفاهيم التي استمد الخليفي أثرها في القصة(33)، وخاصة في قصة ( اختلاط ) .
لقد صور الكاتب في هذه القصة شخصية مريضة ) بكثرة النسيان ( ولكن لم يفصل حالتها النفسية عن محتوى علاقاتها الاجتماعية بل إنه جعل هذه الشخصية تنطوي على مجمل التناقضات الواقعية في المجتمع الكويتي، فمن خلال الذاكرة المشوشة التي يرصدها الكاتب بأسلوب الراوية نكتشف المفهوم الاجتماعي الراهن الذي يقرر مصائر الأفراد، فالنسيان ظاهرة نفسية فردية تبدو عاملاً للاتصال بالواقع الموضوعي الشامل . لقد استعار بطل القصة كتاباً من صديقه في الجامعة وأرجعه له، ولكنه نسي ذلك فتوهم بأنه كل مرة يريد إرجاعه فينسى . ويحاول أن يتخلص من هذه المشكلة بأن يضعها في موضع عملي مع أفكاره الثورية فيكتشف عدم قدرته على ذلك . وبذا فهو يعيش تناقض الجيل الحاضر بين التعلق بالنظريات وبين فراغ الممارسة العملية . وهو يعيش تناقضاً آخر .. فهو يرغب في الزواج من فتاة يؤهله له أصله ونسبه العريق في حين يتأكد لديه شيء مناقض من قراءاته ) أصل الإنسان ودور العمل وأصل الطبقة ودور الاقتصاد ... الخ ... (. وهو بعد ذلك يتحفظ من الاختلاط حين يتذكر أحداثه المريرة في الجامعة .. أو حين يتذكر فتاة المكتبة التي لامس ساعدها البض .. ومع ذلك يجلس في سيارة الأجرة بمحاذاة امرأة تحتك به، ويكاد يتكئ على جسمها ببراءة ونية طيبة .
بهذه الصورة أصبحت هذه الشخصية انعكاساً للتناقض اليومي في الحياة الواقعية، وتجسيماً كاملاً للقوانين والظواهر الطارئة مع التطور، وهذه تعتبر أهم ما تتفتح عليه عيون الكاتب بعد بداياته القصصية الأولى . فالتناقض لا يبدو ميتافيزيقياً تهويمياً كما كان في تلك البدايات، بل إنه تناقض الحياة الاجتماعية التي تتعلق برواسب تقليدية دينية (وخاصة حول قضية الاختلاط) أو تتعلق بقشرة الحضارة البرجوازية الجديدة (استثمارات النفط) التي يستعرضها المجتمع بخواء، ويغطي بها تناقضاته الدميمة الجوفاء .
ولا يخفى أثر الطابع الملحمي في التجسيم الفني السابق، فقد أراد الكاتب من زوايا التناقض أن يجعل من الحياة الاجتماعية في الكويت حاضراً مريضاً متداعياً . أي أن يحيط بصورة شاملة مما هو كائن، فرصد - برؤية ملحمية - بعض الأحداث التي أصبحت توقظ الاهتمام بالوعي العام وتحرك مشاعر الجميع كأحداث الاختلاط في جامعة الكويت (34)، وهزيمة الواقع العربي في 1967، وحتى الماضي الكويتي تبدو ارتباطاته حاضرة في نسيج التناقض ونسيج السرد القصصي، وكل ذلك يجعلنا أمام مساحة عريضة من الرصد والاستكشاف للواقع .
وتقربنا قصة ) اختلاط ( من الطابع الملحمي بوجود الراوي الذي لم يجعله الكاتب وسيلة تقليدية للسرد بل جعله يحقق خاصية التغريب كي يمثل المواقف تمثيلاً درامياً يخلصنا من إمكانية معايشتها وتقمصها بشدة، فالشخصية النموذجية وعلاقاتها المتشابكة تتابع صورتها من غير تلاؤم أو انتظام، كما قامت بها الحياة أمامنا وكما يؤدي إليها أسلوب الراوي . وهو يستبعد الصورة المنتظمة في العرض، ويستبعد خاصية المعايشة التامة لحادث الاصطدام الذي يأتي في نهاية القصة، إذ أنه يكسر إيهامنا بالواقع ويذكرنا أكثر من مرة قبل هذا الحادث، أن السيارة متجهة إلى مكان الحادث كان يقول مثلاً :
) وبما أن السيارة ستصطدم بعد لحظات قليلة جداً، لذا سأكمل موضوعي بسرعة حتى نكون متهيئين للحظة الحادث ( .
إن الشخصية في قصص الخليفي تبدو فيما تكتنزه من زوايا المعنى الاجتماعي والنفسي كالاسفنجة التي تمتلئ ثقوبها الصغيرة بالقدر الأكبر مما يحيط بها . وبذا فهي غالباً ما توحي لنا بأنها بؤرة المجتمع ونموذجها الكلي الذي لا يمكن أن ينتمي إلا لمجتمع الكويت . إذ أن ما يميز تحليل الخليفي لشخصياته هو أنها تحتوي دلالتها الاجتماعية بعد استقطاب طويل للجزئيات الصغيرة المترامية في عالم الشخصية والمنتزعة من ألصق المواقف بالواقع الكويتي، ولا يؤثر الكاتب لهذا الاستقطاب استعمال تيار الوعي اللهم إلا في مواقف جزئية ؛ ربما لأنه وجد هذا الأسلوب قد استنفذ كثيراً عند غيره من كتاب القصة القصيرة.
ويمكن القول أن قدرة الكاتب على تكثيف المواقف، وتكثيف اللغة هو بديله عن تيار الوعي، إذ خلق به شخصيات ذات محتويات شعرية أو ملتفة بغلاف ذهني، قد يثير ارتباك القارئ والتباس متابعته . رغم أنه يسلط مقدرته تلك على شخصيات قد ينظر إليها على أنها بسيطة، أو عادية لا تشتمل خصائصها الاجتماعية والإنسانية على قوانين عامة في الصراع الاجتماعي لأنها مشتقة غالباً من بين علاقات ) العائلة ( الصغيرة أو علاقات الرجل والمرأة . ونعتقد أن هذا أكثر ما يميز السرد التحليلي في قصص الخليفي، إذ أنه استطاع أن يجعل في الحياة العادية المألوفة أبعد حدود المأساة الاجتماعية . لقد جعلنا نرى تلك الحياة على أنها غاية في التعقيد، والتحلّل . وعدم الانتظام، الأمر الذي يجعلها منطوية على غير ما هي متبدية عليه . وهذه رؤية تستثير -دون شك - نظرة نقدية حادة غير مداهنة للواقع الراهن وتركيباته المتناقضة، وهو ما تنهجه معظم قصص سليمان الخليفي .
ففي قصة ) عصرية خميس ( (35) تبدو الزوجة ) نورية ( رمزاً لمجتمع معقد مبهم يتحالف على الزوج بما يكيل في داخله المخاوف والفزع من جميع الأشياء، ويعكس فيها المشاعر السوداوية التي جعلته يرى في نورية عالماً يخلو من الحقيقة. تتنامى صورته بمفارقة يبذرها الشك والقلق في وفائها وعلاقته بها بعد عام من زواجه، وحين تجمعه عصرية يوم خميس في سهرة مع أصدقائه، يتجسم له القلق في صورة المرأة العاهرة التي كان شعوره نحوها ينم عن ) لقاء ذاتيهما حيث لا نفرة أو هرب ( أي أنها تحتوي حقيقة مفقودة في زوجته التي تظل واقعاً يعاني عدم الإشباع، لأنه يكتشف خيانتها مع ابن الجيران، ومع ذلك يكون إنساناً مرغماً على تطويقها وتقبيلها، فهي بالنسبة إليه الواقع الاجتماعي المتواطئ والمتحالف على إحاطته بالمصير .
وتبدو الخيانة الزوجية تمرداً على هذا الواقع في قصة ) زواج ( (36) لأن قيم الحياة الجديدة في الكويت أحالت الزواج إلى أحد أشكال العهر ) الشرعي ( . فالرجل الطاعن في السن يتزوج من فتاة صغيرة بامتيازاته الاقتصادية، وتعيش في أسرة بينها ) محسن ( الشاب الذي رفضته تلك الفتاة . ولكن الرجل العجوز يتداعى لتتصاعد علاقة حب محرمة بين محسن ونجيبه . يدفعها حقد الأول على عمه الكهل وحقد الثانية على أهلها سبب نكبتها في هذا الزواج . وتكشف القصة عن اختلال منطق العلاقة الاجتماعية التي تقوم في حياة تزدوج فيها ترسبات الدين والتقاليد ومفاهيم نظام متخلف يقتحم الواقع بذكاء وتآمر تماماً كما يجسد كل ذلك ) الرجل العجوز ( الذي جعله الكاتب سبيكة لذلك الاختلال المتجسم في العهر الآخر بين ) محسن ( و ) نجيبه ( .
وتستمر الخيانة الزوجية في قصة ) يأكلون على سفرة ساخنة ( (37) لتحتوي مفارقة اجتماعية أكثر إيلاماً وشدة، إذ يخون الرجل زوجته مع الخادمة الهندية، وتخون المرأة زوجها مع السائق، فتبدو أشكال هذه الخيانة رمزاً للفراغ وعدم الإشباع الحضاري في مجتمع الكويت الذي يدفع ثمناً باهظاً بسبب تطوره نحو نظام اقتصادي حديث . فهو يستنبت بسرعة شديدة طبقات اجتماعية متداعية القيم، لأنها تتألف من رواسبها التقليدية الماضية ومفاهيمها الحضارية المصطنعة، ولذا تبدو معانيها بتلك الصورة المركبة التي يرتكز عليها تحليل الكاتب، وبخاصة حين يجعل لممارساتها الاجتماعية وجهاً .. ولخيانتها وجهاً آخر.. كأن تصطنع الزوجة في قصة ) تزوجت ( واقعاً مستهلكاً:
) قميص وربطة من بيروت، تنورة وجوارب من سوريا، وحذاء من إيطاليا، وبقية الموجودات من بقية الدول ما عدا الغاز والزوج فهما من الكويت وبعض أشياء قليلة ( (38).
وفوق ذلك فهي تقتني لها اسماً غير اسمها الحقيقي ) موزة ( لأنه لا يليق بكويتية وخصوصاً بواحدة من أسرتها، ثم تتعلق بزوجها حباً، ولكنها تنفر من تصرفاته المتواضعة وتعاليمه التي تختلف عما تلقنته من والدها. كل ذلك جعل معنى هذه الشخصية قائماً على تركيبة اجتماعية مهجنة بأصولها التقليدية وتكويناتها البرجوازية الجديدة .
ولم يجعل الكاتب من ذلك المعنى قالباً جاهزاً توضع فيه شخصياته جميعها لأنه يتتبع مسارات الشخصية بطريقة معقدة، وآية ذلك أن الخيانة الزوجية في القصص السابقة لا تأتي من مواقف مباشرة تسفر عنها بوضوح بل إن الكاتب يصنع من المشاهد الجزئية العديدة دوائر يتضاءل حجمها، فإذا اكتشفنا ما تقع فيه الشخصية من خيانة أدركنا مدى ما تحيط به تلك الدوائر من أسباب وعلاقات في رصد المصير السابق، ولعل أوضح الأمثلة في ذلك قصة ) عصرية خميس ( . فالكاتب يجعلنا في حالة الإبهام والغموض مع المشاهد الصغيرة التي تفسر سلوك ) نورية ( فإذا جئنا إلى المشهد الأخير الذي يصور )ظلين منعكسين يتعانقان على الأرض الآجرية( أدركنا ما تنطوي عليه المشاهد برمتها من إفصاح وتفسير لهذا المصير، كما أدركنا ما ينطوي عليه الإبهام والغموض في لغة الخليفي القصصية من ضرورة وقصدية .
ويمكن القول أن مناط التحليل في القصص السابقة قد اعتمد بدرجة كبيرة على تجميع المشاهد الجزئية التي لا ترتبط ببعضها من الناحية المنطقية، ولكنها ترتبط وفق نظام ذهني تكون مهمته الأساسية التفسير والتحليل للمعنى القائم في الشخصية، ولهذا يكاد سليمان الخليفي يرهقنا بتعليقاته الذهنية حول تلك المشاهد لأنه يغادر الجوانب المبرزة في المشهد الواحد ليفسر الجوانب الموحية والخفية، وهذا ما يجعل مهمته الفنية ألصق بطريقة التعبيريين، فالمشهد الذي يجمع بين نورية ويعقوب يقف الكاتب فيه مع عبارة : ) عطيني ماي .. ( التي يقولها الزوج لينظر إليها على هذا النحو :
) عندئذ تمشي نورية وكأن للعطاء هناك مشية خاصة ... فلتركيز الخطوات وعدم انغلاقها الكامل إيقاعه اللذيذ مع الأرض ورقصة الجسم العفوية، هذه عملية حب لابد تجاه العالم، وتجاه الزوج ... إلا أن شعوراً بالغ التعقيد يتجاوز مع هذا العطاء وهذه الصلة والقربى لتستوي تلك في وضوحها وعمقها أكثر بعداً ... ( (39).
وعلى هذا المنوال تجري معظم المشاهد التي تكون في الغالب مألوفة، بسيطة ولكنها مغمسة في شبكة ذهنية يستنبط معانيها بدقة رغم عدم انتظامها . وقد يعني ذلك أن الكاتب يتأثر بالمفهوم التجريبي الذي وقف عنده الكاتب القصصي الحديث، عندما بدأ ينقل الواقع مضطرباً لا نظام فيه بسبب ما توحي به الخاصية الذهنية عادة من تحرر واستبعاد لوجود قالب محدد تنسكب فيه معاني الإنسان وتعقداته الشديدة .
وأياً ما كان الأمر فإن هذه الخاصية الذهنية التي يتفتح عليها وعي الكاتب تعد شكلاً جديداً في تطور القصة الواقعية التحليلية، لأنها استطاعت أن تستخرج المعاني الداخلية العميقة في حياة الإنسان، بعد ما طرأ عليها من تطور اجتماعي واقتصادي غير متوازن في هذه الفترة، بل إنها تبلغ مبلغ التحليل العلمي في عثورها على المعنى الرصين المتماسك للشخصية في قصة ) صناديق ( (40)، التي تلتف بتفسيراتها المكثفة حول أدق تفاصيل الواقع الاجتماعي والنفسي لشخصية تنتمي إلى الماضي وترفض بما تصطنعه لها من أجواء عبقة بروائح الماضي حاضر الجيل المشوه بانحلال عصر النفط *.