القسم الأول . الفصل الرابع 1
إذا كان هدف الإصلاح قد وجد له سبيلاً إلى التغلغل في بعض مظاهر الحياة الاجتماعية عن طريق معالجة القيمة الأخلاقية أو السلوكية فإنه يجد هذا السبيل أكثر وضوحاً ومباشرة فيما يعكسه الوضع الاجتماعي من أحوال سيئة ومظاهر تفتقر أكثر من غيرها إلى البناء والإصلاح الذي يضمن للمجتمع اتصالاً صحيحاً بشكل الأنظمة الحديثة، وتنحية صريحة لما هو عليه من تخلف .
لذا تأتي القصة الاجتماعية القصيرة التي تعالج أحوال المجتمع السيئة لتشترك في هدفها مع قصة المغزى الأخلاقي والسلوكي، ولكن لتكون أكثر منها مباشرة في الجهر بالإصلاح والتهذيب، كما أنها أكثر منها إحساساً بالمصير والمعاناة المؤسية التي يمر بها الفرد في المجتمع، فالوضع الاجتماعي الممتلئ بالفساد والاضطراب والذي تكثر فيه المصائب والآلام والمظالم يكون صورة بارزة مثيرة لهواجس الكاتب المصلح، وحافزة له على المعالجة الصريحة .
ولقد كان مما يغذي المعالجة الإصلاحية المباشرة في القصة خلال سنوات نشأتها ونموها في البحرين والكويت هو أن المجتمع كان أحوج ما يكون إلى الإصلاح والتغيير . إصلاح يعلن ويسفر عن الخطأ والخلل الدائر دون تحفظ أو مواربة، فقد ظلت البلاد فترة لا تحكمها قوانين واضحة أو منصفة، والإجراءات القضائية لم تكن تعتمد على قوانين موضوعة من قبل المشرع فشاعت المظالم وبخاصة بين صفوف الفقراء، من تطاول التجار وملاك السفن الذين يسخرونهم للعمل في البحر، الذين لا يمتلكون حقاً يحميهم
وفوق ذلك فقد كان الفساد الإداري شائعا في البلاد وهو ما دفع الحركة الوطنية بمطالبها الملحة في الإصلاح، وإذا كانت الإدارة في البحرين قد وقعت في أيدي البريطانيين فهي في الكويت كانت تعاني من عدم اهتمام المسئولين، ولم يكن هناك عناية بالمصالح العامة، ولا يوجد تنظيم يكفل تحقيق العدل للناس، فالتلاعب كثير وفي كل فرع من فروع الإدارة (16) لذلك برزت آثار اجتماعية قلقة متخلفة وبخاصة في وضع الطبقات الفقيرة، وانبعثت معها صيحات الإصلاح مرددة أصداءها في جميع الكتابات المتحررة، وفي القصة الاجتماعية القصيرة بصورة خاصة .
وأكثر ما برزت من تلك الآثار كان في مجتمع البحر، الذي عاصر بعض كتاب القصة القصيرة الفترة الأخيرة منه، حيث كانت التجارة التقليدية في صيد اللؤلؤ و الأسماك والسفر إلى الموانئ الخارجية عن طريق البحر، وقد كان العمال الذين يشتغلون في البحر يتعرضون لشتى أنواع السخرة و الاستغلال غير الإنساني في الوقت الذي يعانون فيه من سوء المعيشة وفقرها وتخلف الحياة، والحرمان من مباهجها وفرصها البسيطة كالتعليم ونحوه .
وأول قصة تطرح لنا بعض مظاهر المعاناة في مجتمع البحر هي قصة (بين الماء والسماء) (17) - وهي أيضاً أول قصة تنشر بعد عودة الصحافة في الأربعينات - ألفها خالد خلف بتوقيع مستعار (ولد عريب) كما هو شائع لدى كثير ممن كتب القصة خلال هذه الفترة . وتصور القصة ما يتعرض له الإنسان في مجتمع البحر من صراع مرير مع وضعه المتخلف الذي يخلو من الضمان الاجتماعي، ومع عوامل الطبيعة ممثلة في قسوة البحر وغدره، واجتياح العواصف والرياح التي تقلب البحر إلى قوة هائلة تنذر بالمصير المجهول . وتبدأ القصة بالكارثة التي وقعت بالسفينة الشراعية حين صرعتها الرياح وأخذت المياه تدخل إليها، بينما البحارة يواجهون ذلك بعزم وخوف حتى غرقت السفينة ونزلوا في زورق صغير، ولا يلبث هذا الزورق أن يأتي عليه البحر، والى هنا والكاتب يقدم لنا صورة مثيرة نلمح فيها موقفا شيقا ملتهبا .. ولكن لا يلبث بعد ذلك أن يدير سياق القصة، فيلجأ إلى صورة (فانتازية) يتحرر فيها من الواقع حيث يقيم فيها حوارا بين روحين صعدتا إلى السماء بعد أن غرق الزورق يدور حول الوضع الاجتماعي للبحار وأسلوب وقايته من مخاطر البحر .
ولا شك أن الجانب الإصلاحي في هذه القصة قد أفسد الخصائص المهمة للشكل القصصي المتكامل من الوجهة الفنية، فهنا غياب بارز للشخصية المتنامية، وفقر واضح في التصوير القصصي لها، وتجسيم مشكلتها الاجتماعية . كما قام الكاتب بلى عنق الحدث الفني في القصة في سبيل أن يقوم ببسط أفكاره التعليمية وتوضيحها وإيصالها إلى العامة من الناس .
وتعنينا هنا هذه التضحية التي يقع الكاتب فيها، فهو لكي يجسد فكرته بقوة وجلاء يضع نفسه أسيراً للأسلوب الخطابي المباشر، وبصرف النظر عن كون هذه القصة بداية ساذجة سواء بالنسبة للكاتب أم بالنسبة إلى نشأة القصة القصيرة في هذه الفترة، فإن أسلوبه القصصي المباشر الذي أراد أن يعالج فيه أحوال المهنة التجارية في البحر، يعبر في الحقيقة عن ضخامة النزعة الإصلاحية من ناحية .. وضخامة المشكلة التي يطرحها ذلك الأسلوب، فكلتا الضخامتين تعملان عملاً واضحاً في إثارة حماس الكاتب وحفزه على اختراق شروط البناء القصصي.
ورغم ذلك فالكاتب في صياغته للحوار بين روحين في موقف فانتازي، ينطلق من احتراق داخلي تمور به نفسه بعد أن أدرك ما يتعرض له الرجال في البحر نتيجة لخلو المجتمع من أساليب الضمان الاجتماعي . ويدور الكاتب حول المشكلة ليبين لنا من ناحية أن البحار حين يتعرض للحوادث المهلكة لا يلتفت إليه أصحاب السفن لمساعدته وبخاصة حين يترك وراءه أسرته دون عائل، وهذه الإشارة التي عرض لها الكاتب سريعاً تفتح الجرح الحقيقي في مشكلته، فيلتقطها من خلال رؤيته الإصلاحية ليقدم لها مخرجاً وخلاصاً ينتقد من خلاله الصناعة البدائية للسفن التي تعرض حياة الرجال وتجارة البلاد للخطر . ومن ناحية ثانية يطالب الكاتب بتعاون الأهالي في الاعتماد على المراكب الحديثة التي تضمن السلامة والنجاح للتجارة.
وهكـذا فقـد اجتمعـت المشكلـة الحـادة للوضـع الاجتماعـي أمـام الكاتـب مـع الــوازع التعليمي الـذي لا تنسجه اللمسـة الفنية بإتقــان، ولا تخطـط لـه الناحيـة الدرامية بدقة، وإنما تتركه تحت سيطرة الأثر الحاد الذي يمر به الكاتب إزاء حالة اجتماعية تنبعث من عوامل الخلل .. والتخلف الاجتماعي الذي تعيشه البلاد .
وقد أثار الوضع البائس للبحار في الكويت - والخليج العربي عامة - كاتباً آخر وهو جاسم القطامي فنشر بعض القصص القصيرة التي عالج فيها برؤية إصلاحية ما يتعرض له مجتمع البحر من مظاهر البؤس والشقاء الاجتماعي.
وأكثر ما جذب هذا الكاتب ووفر لديه إحساساً ضخماً بسوء الوضع الاجتماعي هو ما يتعرض له الإنسان في مجتمعه من استغلال وسخرة فاحشة تأخذ منه رحيق عمره وطاقة عمله وتستلب منه حتى الحرية القليلة التي يمكن أن يتمتع بها . فقد كان العمل في البحر - وبخاصة في الغوص - ) شاقاً ومؤلماً وكافراً بالإنسان، ولم تكن طبيعته الشاقة والكافرة تبدأ وتنتهي في القيام به كعمل وإنما تتمثل في العلاقات الاجتماعية التي أفرزها على مدى قرون من الزمان فقد كانت شبكة علاقات هذه الصناعة الاجتماعية هي التي تصنع العبء على الغواص فوق عبء العمل المجهد، حيث أنه لم يكن ليخرج نتيجة عمله هذا في آخر موسم الغوص إلا بالفتات لإطعام نفسه وعياله ( (18) لذا فإن طبيعة ارتباط الغواص بعمله تأخذ منه كل شيء .. لأنه يظل مأجوراً عن طريق ما يسمى بالدين أو (السلف) الذي تراكم عليه كل عام، بل إن أبناءه يتوارثون هذا الدين ويرتبطون به بصورة قدرية مؤسية حقاً .
ويصور القطامي من خلال المعالجة الإصلاحية المباشرة جوانب دامغة وبارزة من صور ذلك الاستغلال الاجتماعي في قصة ) نهاية بحار (. فالبحار ) أبو حمود ( نموذج للرجل القوي النشط المخلص في عمله المثابر فيه بقوته وصبره وجلده، حتى أصبح (النواخذة) (19) يتسابقون لكسبه والتقرب منه وتسخيره لصالحهم، وفي ليلة تعرضت السفينة التي يعمل فوقها أبو حمود لعاصفة كادت أن تودي بها لولا أن قفز هذا البحار القوي إلى أعلى الصارية وفك حبل الشراع عنها فنجت السفينة، ولكن )أبـو حـمـود (سـقـط مـن أعلى فانكسرت ساقـه . وهنا يرفـض) النوخذة أن يذهب إلى أقرب ميناء لمعالجة البحار لأن مصلحته تقتضي ذلك، وحين يعود أبوحمود إلى البلاد تقطع ساقه ويعيش على الكفاف والمذلة والتماس المعونة، ويحتجب عن الناس حتى يموت كمداً لما أهدره في سبيل العمل مقابل هذه النهاية المنكرة .
والكاتب يبدو أكثر تركيزاً واحتواء للحدث الفني في هذه القصة من سابقه خالد خلف، فقد وضع أمامه شخصية أبو حمود ورسمها بعناية وصور كيف أنها أصبحت نموذجاً للبحار الكويتي النشيط .. ثم نما بهذه الصورة وحولها حتى تصل إلى النهاية التي أرادها له .
والقطامي يرتبط فوق ذلك بصميم القضية الاجتماعية التي كان يفرزها المجتمع التقليدي قبل ظهور نتائج النفط، لأنه يعرض لأخطر مظاهر المجتمع وأبرزها تأثيراً في حياة الطبقة الفقيرة، لذلك يعد هذا الكاتب أول من ينقلنا إلى مظاهر البيئة البحرية المحلية في حيوية ما هي عليه من عنف وصراع يكون فيه الإنسان في مواجهة الاستغلال الاجتماعي الفاحش والمصير المجهول الذي تعلنه عليه قوة الطبيعة ( البحر ) .
غير أن ذلك لا يتم من خلال رؤية واقعية فنية في أسلوبها، ومعالجتها للقضية الاجتماعية في صورتها العامة .. وإنما يتم في معالجة إصلاحية تريد أن يطرأ الاهتمام بحياة البحار وإصلاح بعض أحواله عن طريق التعاطف والإشفاق عليه وإعانته على مواجهة الحياة . فالكاتب لا يعالج قضيته بفكر الفنان القصصي، وإنما بفكر المصلح الاجتماعي لأنه يدعو إلى تلافي الخطأ وإصلاحه والعناية بتصحيحه، ويمكن أن ندرك ذلك بوضوح شديد حين نقرأ ما ينتهي إليه الكاتب في القصة، إذ يقول بعد موت البحار :
(وأظن أن القارئ العزيز يوافقني بعد قراءة هذه القصة الواقعية على ضرورة الاهتمام بحالة البحار الكويتي والعمل على وضع قانون للتأمين على مستقبله، وحياته وإجبار أصحاب السفن على دفع تعويض أو مكافأة في مثل هذه الحالات، أسوة بجميع قوانين البحر المتبعة في الأمم المتمدنة لئلا تتكرر مثل هذه المأساة) (20) .
تنهار الصورة الفنية والمواقف التفصيلية وتدفقها المركز، وتضمحل أمام هذه النهاية ذات الفكرة الإصلاحية المباشرة، لأن الأسلوب القصصي لابد أن ينحاز إلى الإيحاء، أو إلى تشكيل الفكرة في بناء الشخصية وسياق الحدث، ولكن القطامي وهو يعايش الانفعال - عن قرب - للمآسي الاجتماعية في مجتمع البحر والغوص يندفع إلى تشكيل الفكرة بمؤداها الإصلاحي في معزل عن الحركة الفنية للشخصية والحدث العام الذي يقود إليها .
بل إن الكاتب يقفز إلى تلك اللغة المباشرة في ثنايا القصة وكأنه في عجل من أمر إدراك القارئ لفكرته الإصلاحية، وهذا ما يوطد علاقة الكاتب بفكرته التي يريد طرحها ويعد لها منذ البداية .
ولكن رغم ذلك فقد انطوت هذه القصة على إدانة واضحة للاستغلال الاجتماعي في مجتمع البحر، وهي بهذا الجانب تكتسب أهميتها وموقعها في الاتجاه الاجتماعي للقصة القصيرة .
ويواصل القطامي اهتمامه بتصوير البؤس والشقاء في حياة الطبقة الفقيرة التي ارتبطت حياتها بالبحر فيكتب (مذكرات بحار) (21) بأسلوب المذكرات أو السيرة الذاتية الذي اتبعه بعض رواد القصة العربية، ولا يمكن اعتبار مذكرات بحار قصة قصيرة . لأنها تحكي أحداثاً طويلة لا يجري سياقها في وحدة فنية بل تتداخل المواقف حسب ترتيب زمني متسلسل يرويها بلسانه، ولكنه في هذه المذكرات يبرز لنا جوانب دقيقة من حياة البحار لم تجد لها عناية لدى غيره من كتاب القصة القصيرة .. ففي هذه المذكرات ينتقد المعاملة القائمة بين البحار ورب العمل التي تضطر البحار إلى الدين، رغم فقره وفقر مواسم صيد اللؤلؤ مما يؤدي إلى مضاعفة الديون فيكون نتيجة ذلك أشبه بالرقيق الذي لا يستطيع الفكاك من سخرة العمل ومكابدته .
وتصور هذه المذكرات جوانب أخرى داخل حياة أسرة البحار، وما يعيش فيه من حرمان وفراغ تجاه زوجته وأمه وأولاده حتى تتحول حياته إلى قسوة وفظاظة وشعور بعدم الاطمئنان والخوف المستمر من المستقبل الذي توحي به الرحلة إلى البحر، ويعرض الكاتب كل ذلك مترسماً دعوته في الإصلاح الاجتماعي، أو مستصرخاً الضمير الإنساني أو داعياً أولياء الأمر إلى وضع القوانين، ونحو ذلك مما يدفعه إليه أسلوبه المباشر في المعالجة .
ولكن القطامي حين يكتب بعد بضع سنوات من تلك المذكرات ) يوميات بحار((22) يقدم لنا حقاً قصة قصيرة بأسلوب السيرة الذاتية، وربما كانت أول قصة تفاجؤنا بمثل هذا الأسلوب، فهو يضعنا أمام شخصية واحدة تروي رحلتها في البحر خلال ثمانية أيام غير متوالية بل تفصل بينها فترات، مختلفة .. ويتسلسل حدث الرحلة مع التسلسل الزمني ( الطبيعي) فيها راسماً شخصية البحار منذ استعداده للرحلة .. وتوديعه لأمه العجوز التي تتركه يذهب باكية عليه داعية له بالحفظ والعودة سالماً .. ثم يمضي به لمواجهة أهوال البحر وغضبه . ومرض صديقه الذي يموت ويحمل وصيته إلى أهله عندما يصل البلاد بعد العناء الطويل .
ولا يختفي الأسلوب الخطابي عن هذه القصة فمن خلال صورة البحار يريدنا الكاتب أن ندرك ضرورة إصلاح وضعه الاجتماعي . ولكن القطامي في هذه اليوميات يحاول بمقدار أن يغلف بعض أفكاره الاحتجاجية الصارخة بتصوير المشاعر الحزينة المقترنة مع بؤس الحياة الاجتماعية للبحار .
على أن القطامي في اهتمامه وانفعاله بمظاهر الواقع الاجتماعي الرث يعرض لنا في قصة ( البائس ) صورة لبؤس بعض النماذج البشرية فيجعل التجسيد، منصباً على الهيئة الجثمانية وانتهائها، وهو يقرن ذلك بانتهاء العطف والإشفاق والرحمة من القلوب كما فعل محمود تيمور في قصة ( الشيخ جمعة (وغيرها، وأكثر ما يثير الكاتب في هذا النموذج لا البؤس وحده بل أن الشيخ الهرم المحروم نراه مشردا في الظلام بين الذل والمسكنة في الوقت الذي ينعم غيره بالسعادة في النوم، وتلفهم مظاهر الغنى والترف معرضين عما يعيش فيه ذلك الشيخ ..... لذا فهو يتساءل .. ) أينام الناس فيسعدهم النوم وعلى مرمى منهم ومسمع أنة مكدود بائس ؟ ينامون ويستريحون وعلى قيد خطوات منهم شيخ محروم مثلك .. ) (23) ونلمس في ذلك نداء العطف والرحمة والتكافل بين الطبقات، وهو ما تمليه النظرة الإصلاحية التي يمثلها قكر الكاتب .
وكان مجتمع الخليج قبل انتهاء المرحلة التقليدية التي اعتمدت على البحر ومردوداته الاقتصادية، يعيش وضعاً اجتماعياً مسحوقاً متخلفاً، فاستغلال البحر يقسم المجتمع تقسيمات جائرة، حيث توجد فئات تتعرض لشقاء المهنة وجهدها، بينما توجد فئات أخرى تقوم باستثمار ذلك الجهد وتوفير طاقته بكل السبل من أجل مصالحها الخاصة، هذا الوضع ينتج كثيرا من المظالم وصور الانسحاق والاستغلال ولكن القصة القصيرة خلال فترة الأربعينات ( وهي أواخر المرحلة التقليدية ( لم تكن قد نمت بداياتها نموا جيدا، ولم يصبح فنها راسخ الأصول لدى المثقفين في البلاد، لذا لم تواكب تلك المرحلة الاجتماعية مواكبة دقيقة . بل التقطت منها صورا تشير إلى أن مجتمع البحر ظل حتى بعد أن اكتشف النفط يلقى بآثار كبيرة على الحياة الاجتماعية ومظاهرها المختلفة . فضلاً عن أن كتابات القطامي السابقة تعطي انطباعاً واضحاً بأنه يكتب من خلال معايشة مستمرة للوضع الاجتماعي قبل هجرة المجتمع للبحر، وقد كشفت هذه المعايشة عن شعور وطني مخلص يريد إصلاح وضع الطبقة الفقيرة في البلاد، تلك الطبقة التي لم تجد قبل ذلك من ينفعل لها ويكشف جانبها الإنساني العميق .
ولكن المرحلة التاريخية التي تعيشها البلاد خلال الأربعينات والخمسينات لم تكن قصراً على معاناة طبقة معينة أو نماذج بسيطة، بل كانت في الحقيقة مرحلة انتقال وتحول من جميع النواحي .. فهناك تحول اقتصادي هائل تعيشه البلاد من انتاج البحر إلى انتاج النفط، وهناك تحولات سياسية واجتماعية كبيرة ترافق ذلك وتتبع مؤشراته المتصاعدة، ولكن تظل السنوات الأولى من التحول الاقتصادي لا تعلن عن تغير مظاهر المجتمع وتحسن أحوال الفقراء واستفادتهم من المرحلة الجديدة لان انتاج النفط يظل تحت سيطرة الشركات الاستعمارية، وما يرتد إلى البلاد من امتيازات وعوائد اقتصادية لم تستثمر بعد في تطوير البلاد ورفع المستوى المعيشي للطبقات الشعبية، فظلت الأحوال السيئة على ما هي عليه من تدهور، ولم تتغير صورة البؤس الاجتماعي الذي تهرب الجميع عن معالجته وتغييره .
وهنا نجد فهد الدويري في قصة ) زكاة ( يدين الإبقاء على مثل ذلك الوضع الاجتماعي السيء وينتقد الهروب من مسؤولية تغييره . فالبطل لديه رجل غني جاءته الثروة عن طريق عثوره على لؤلؤة كبيرة أصبح بعدها وجيهاً ثرياً، ثم يتذكر وضعه المدقع قبل أن يثرى ويتذكر ما سمعه من أحد المتعلمين من أن البلاد يجب أن تتخلص من المتسولين والفقراء والبؤساء عن طريق إقامة الملاجئ التي تؤويهم وتبعدهم عما هم عليه من شقاء، فيسارع في البحث عنه ليعرض عليه استعداده لإقامة ملجأ وجمعية تحارب البطالة، وحين يعثر عليه، يخيب أمله ورجاءه فقد تنكر المتعلم لفكرته وهزئ منه وطلب أن يدع ذلك لغيره ويقول له :
) لئن ذهبت تحاول تنفيذ كل ما يقوله الناس لم يعدم من ينعتك بالجنون، إن بين القول والفعل يا عم مسافة ما بين القطبين فلا تؤاخذ الناس بما يهرفون ((24) .
بمثل هذه المعالجة التعليمية المباشرة يلفت الكاتب النظر إلى ضرورة إصلاح وضع الطبقة الفقيرة التي لم تستفد شيئاً من التغير الاقتصادي بقدر ما وجدت فيه من استمرار التنكر لأحوالها ولدورها في المجتمع، والجانب الساخر المأساوي في قصة الدويري هذه أنها فضحت سلوك الطبقة المتعلمة لأنها لم تقم بمسؤوليتها المنوطة بها في الإصلاح . لقد صورها الكاتب مدعية تهرف بأقوال وتتراجع عن الأفعال وتضع مسافة من الجنون بين القول والفعل .
إن القصة القصيرة في هذا الاتجاه الاجتماعي تقوم بدعم الدور الإصلاحي الذي تمر به البلاد أكثر مما تقوم بدعم الأصول الفنية للقصة وترسيخ تقاليدها في الخلق والإبداع، ولعل هذا أخطر ما قدر للقصة القصيرة في الخليج العربي أن تمر به وهي في بدايتها الأولى، فلا غرابة أن تفقد وهي ضمن رؤيتها الإصلاحية كثيراً من سمات الفن القصصي الذي تضطرب به الأهداف التربوية والتعليمية أو تحيل أسلوبه إلى عملية اتصال مباشر مع القارئ كما رأينا ذلك في كثير من القصص السابقة، والعامل الأساسي في هذا الاتصال الصريح الذي يعلنه الكاتب في بداية القصة أو خلالها أو في نهايتها يرجع فيما نرى إلى ارتباط نشأة القصة القصيرة في الخليج العربي بالدور الإصلاحي خلال فترة واحدة ( الأربعينات - الخمسينات )، إذ لو أنها نشأت قبل هذه الفترة بزمن لأمكنها أن تواجه الدور بتقاليد فنية، وأصول تقنية أكثر ثباتاً واستقراراً .
إن معظم النماذج القصصية التي نعرض لها لا يمكن تمييزها فنياً ولكن يمكن أن نميز فيها خطاب الإصلاح . ونحن نجد روح هذا الخطاب في بناء الشخصية القصصية .. والموقف الذي يدور حولها .. بل والعبارات التي تصوغها وتقيم دعائمها الفنية، ولعل المفارقة الواضحة التي يقع فيها بعض كتاب هذا الاتجاه الاجتماعي، هو عدم القدرة على استيعاب الفكرة الإصلاحية التي يهدفون إليها ومن ثم تمثلها في بناء الشخصية الفنية في القصة .. أو من خلال الحدث الفني .. فالفكرة تظل مجسدة في ذهن الكاتب مثارة لديه، لأنها تشكل وجعاً في جسد المجتمع وفي قيمه، ولكنه حين يريد صياغتها تفلت منه بعض خيوطها فتتمزق وتتوزع بين التجسيد الفني (في بناء القصة) وبين الاتصال بالقارئ عن طريق الأسلوب المباشر الذي يقوم في هذه الحالة باسترداد ما أفلت من الكاتب أثناء الصياغة، وقد وجدنا ذلك عند جاسم القطامي وفهد الدويري في قصصه الأولى، وخالد خلف في قصة (بين السماء والماء) .
وفي هذه الحالة تغيب نواحي فنية كثيرة فالشخصية القصصية بما هي عليه من بناء وخيال - يمكن أن تتمثل لنظرة أو فكرة ثابتة نحو المجتمع وعن طريقها يمكن أن يحقق القاص رؤيته بما فيها الغرض الإصلاحي، وتعد هذه - فضلاً عن فائدتها بالنسبة لأيديولوجية الكاتب - مطلباً فنياً ضرورياً في القصة حتى ) أن أي وصف لا يشتمل على نظرة شخصيات العمل الأدبي إلى العالم لا يمكن أن يكون تاماً . فالنظرة إلى العالم هي الشكل الأرقى للوعي والكاتب يطمس العنصر الأهم من الشخصية القائم في ذهنه حين يهمل النظرة إلى العالم . إن النظرة إلى العالم هي تجربة شخصية عميقة يعيشها الفرد، وهي أرقى تعبير يميّز مـاهيـته الداخليـة، وهـي تعكـس بـذات الـوقـت مسـائـل الـعـصر الـهـامـة عـكساً بليغــاً ((25) وهذا ما لم يتوفر لبعض كتاب القصة القصيرة في الخليج العربي وبخاصة في بداياتهم . وإذا أردنا الدقة يمكننا أن نقول : إنه لم يكن ضمن مدركاتهم الفنية، فمن السهل أن تجد الكاتب منهم يبدأ قصته بالحديث عن فكرته النظرية ثم يشرع في تلمسها أو إبرازها في القالب القصصي، وغالباً ما يكون مثل هذا المشروع محفوفاً بالخطر وبخاصة في الشكل الفني .
وفي قصة ) إنسان ( لعبد العزيز محمود نجد مصداقاً لملاحظاتنا فضلاً عما ذكرنا فيما سبق . فالكاتب يبدأ القصة بمقدمة طويلة تشبه المقال الافتتاحي، حيث يتساءل عن بعض القضايا والأفكار، يصوغها صياغة تقريرية، ثم يبحث لها بعد ذلك عن شخصية قصصية تحققها وتستجليها فهو يقول :
(مرت بي فترة طويلة كنت أعتقد فيها أو بالأحرى أجبر ذاتي على الاعتقاد أن على المرء لكي يحيا وسط بيئتنا الاجتماعية، أن يتنازل عن كثير من قيمه وفضائله )(26) .
وحين يضع الكاتب فكرته موضع التنفيذ ويأتي بقصته .. وشخصيته ندرك ما أفلت من الكاتب ومالم يفلت مه .. فشخصيته هنا رزينة بعيدة عن عيوب الشباب وطيشه تحب الخير لذاته مهما كانت نتائجه، وهي انعزالية تبتعد عن الناس خوفاً من الخطأ، ولها ولع بالقراءة للمفكرين الذين ينزعون إلى الخير والجمال .. وتحمل ثورة على بعض الأوضاع والقيم المعكوسة في المجتمع، وتعمل في وظيفة حكومية بإخلاص شديد، وفي يوم جاء رجل يريد منها أن تساعده على تزييف رقم حسابه مقابل رشوة كبيرة فيرفض بطل القصة رغم محاولات الرجل واغراءاته، ولكن حين يذهب صاحبنا إلى البيت تصطرع في داخله الأفكار وينقسم إلى شخصيتين .. واحدة ترفض بيع الضمير، والثانية تحرضه على أن يقبل إغراء الرجل فلا يجد مخرجاً من ذلك إلا أن يذهب إلى العمل ويقدم استقالته وابتعاده كلية عن بؤرة الفساد .
والقاص هنا يعبر عن مشكلة اجتماعية تضرب بجذورها في المجتمع كما يعبر عن أثرها الخطير في فكر الفرد . ولكن الشخصية التي يصطنعها الكاتب لا تعبر عما يضطر إليه الإنسان من التنازل عن القيم والفضائل أمام استشراء المشاكل السيئة كالتعامل بالرشوة ونحوها .. بل إن هذه الشخصية ترفض التنازل وتخوض الصراع مع ما هو مضاد لطبيعتها ونزعتها الفاضلة فتخرج بذلك في موقف يتسم بالتحدي . حيث تنازلت عن العمل الذي يعرِّضها لمثل هذه الأزمة .. وبذا يكون الكاتب قد تراجع عن تشكيل فكرتـه تشكـيلاً )قصصياً( لأنه بدأ بتقرير الظاهرة أو المشكلة .. وحين أراد لشخصيته أن تعبر عنها وجدناها تهرب إلى موقف يختلف عما كان في ذهن الكاتب، وهو ما يشي بعدم مقدرته على تطويع الفكرة لطبيعة الحدث القصصي وعدم سيطرته على التقاط الظاهرة أو المشكلة من خلال ما تعبر عنه الشخصية القصصية أو تنظر إليه .
ويمكن أن نرد جانباً من هذه الظاهرة التي يتعرض لها كتاب القصة الاجتماعية إلى إيثارهم لما يمكن أن تعطيه القصة من انطباع أو أثر يدور في فلك النظرة الإصلاحية، أي أنهم يريدون ضمان التأثير المباشر الدامغ في عقل القارئ، وهذا ما لم تبتعد عنه قصة ) إنسان (. إذ أن الكاتب يبدو فيها أكثر انشغالاً بإدانة مشكلة الرشوة ذاتها، وضرورة محاربتها والقضاء عليها عن طريق نزاهة الأفراد وإخلاصهم في العمل الذي يديرونه، والخاطرة النهائية في القصة تضيء لنا ذلك بوضوح حيث يقول :
(بيد أن خاطراً لمع في رأسه كالشهاب، راح يقلقه ويعذبه . ذلك بأنه ترك في سبيل راحته الشخصية وإيثار العافية وظيفة هي أشد ما تكون حاجة إلى المخلصين النزهاء من أمثاله) .
وهكذا نرى أن الدور الإصلاحي الذي تعيشه البلاد يدفع الكتاب إلى مثل هذا الأسلوب ويشكل نظراتهم في صياغة متوازية مع مطالبه وأهدافه . بل إنه يدفعهم إلى ملاحقة مشاكل الواقع الاجتماعي وهي في حالة تجسدها الطبيعي، أي انهم لا يعتمدون على التقاط الواقع الاجتماعي ولا يرونه رؤية إبداعية، بل إن كثيراً منهم يتخذها مثالاً يضربه للقارئ مدعماً به ما يريده من إصلاح لبعض الأوضاع والقيم في المجتمع .. فخالد خلف في قصة(إنسانية ) ينتقد بشدة صورة الطبيب الذي لا يستجيب لنداء رجل جاء إليه من أجل أن ينقذ زوجته التي تعاني المرض الشديد. ويريد في ذلك أن يبين ما يفتقر إليه المجتمع من جوانب إنسانية . فالطبيب الذي يتجرد من ضميره الإنساني يمكن أن يعرض الآخرين إلى الموت كما حدث لزوجة الرجل في هذه القصة .
وهذه القصة (إنسانية) تعد مثالاً لاعتماد الكاتب على الالتقاط والاستشهاد المباشر بما يحدث في الواقع حقيقة فهو يقول في بدايتها .. ) ما أكثر مآسي هذه الحياة، وما أكثر ضحاياها، وها هي إحدى تلك المآسي التي قصها عليّ ضحيتها الأولى، منذ أكثر من سنتين وأخاله اليوم بين قراء هذه القصة، وقد كانت الكويت مسرحاً لهذه الحادثة، وهل في هذه الحياة إلاّ الآلام ) (27).
ولا يختلف هذا الأسلوب الخطابي المباشر عما جاء في بعض الأعمال القصصية الأخرى والتي نشرت بتوقيعات مجهولة، لتكون بمثابة صوت جماعي يجهر بالإصلاح ولا يدعي فيه شرفاً، أو سمواً، فمجلة البعثة الكويتية، تنشر بدون توقيع، ( إبليس قال لي) (28) و (من مذكرات معتوه) (29) بتوقيع )مهذار (ونجد في مثل هذه الأعمال القصصية، خروجاً على أسباب الحرج الفني التي يمكن أن يفرضها العمل القصصي وتجاوزاً لها، حيث يوظف الكاتب طاقاته للاتصال بالقارئ مباشرة، وتلقينه ما يريد من تصحيح وتهذيب وإصلاح، رغم الانشغال بإقامة شكل القصة، ويدفع كتاب القصة إلى ذلك صورة الوضع الاجتماعي وانقلاب أحواله، مما يستدعي معالجتها بجميع أدوات الصراحة والمواجهة والتعرية والكشف، تفادياً لما يتوقع لها من أضرار بعيدة، ولا يهم الكاتب من هؤلاء انزلاقهم نحو الوعظ والإرشاد والبعد عن الأسلوب الفني في كتابة القصة القصيرة، ما دامت تلك المعالجة تصل بهم إلى غرض الإصلاح كما رأينا في الأمثلة التي عرضنا لها .