القسم الثاني . الفصل الثاني 3
يتميز أحمد حجيري من بين جميع كتاب القصة القصيرة في البحرين والكويت بتعلقه الشديد بواقع القرية، وتصوير اللوحات الواقعية التي يستمدها من الريف البحريني .. ولقد عالج غيره من الكتاب موضوعات تنتمي إلى المجتمع الزراعي في القرية، نذكر منهم محمد الفايز، ومحمد عبدالملك وخليفة العريفي وأمين صالح، وخلف أحمد خلف، وعبدالله خليفة، وجميع هؤلاء باستثناء الفايز من كتاب القصة القصيرة في البحرين، الأمر الذي يشير لنا نحو ظاهرة جديرة بالمناقشة، ففي الوقت الذي تبرز ظاهرة الالتفات إلى مجتمع القرية الزراعي بين قصاصي البحرين، يشح هذا الالتفات كثيراً بين قصاصي الكويت، ولا غرابة في ذلك، فالكويت لم تعرف أنشطة المجتمع الزراعي كما عرفته البحرين حيث كانت تحتل لديها دوراً ثانوياً في سوق العمل، سواء قبل ظهور النفط أو بعده (14) . في حين تميزت البحرين في منطقة الخليج العربي بتجمعاتها البشرية التي استقرت مع نظام الزراعة منذ عهود قديمة، واعتمدت عليه حياتها الاقتصادية اعتماداً كبيراً (15)، وهذا مما ربط العلاقات الاجتماعية في الريف بحركة من الصراع مركبة تحتوي على تناقضات ذات أثر بعيد في حياة الأفراد، وهو ما يدعو إلى الاعتقاد بأن المجتمع الزراعي في البحرين أكثر اتساعاً وتطوراً، نظراً لعراقة وامتداد العلاقات الاجتماعية في بنائه الداخلي.
ولعلنا يمكن أن نلاحظ من جانب آخر بأن النشاط الزراعي الضئيل في الكويت يمارس من الأهالي، ولا يقع تحت قوانين الاستغلال الاجتماعي الجائرة، ففي حين تكون الأرض التي يستغلونها في الزراعة ملكاً (للشيوخ) أو الحكومة يكون لهم الحق في استغلالها والتصرف في محصولاتها (16). بينما يختلف نظام حيازة الأراضي وزراعتها في البحرين بصورة أوجدت استغلالاً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً كانت دعائمه الأساسية قائمة فوق نظام شبه إقطاعي يحدد العلاقة بين ملاك الأراضي وطبقة المزارعين.
هذا الوضع الاجتماعي المغاير في البحرين خلق جاذبية خاصة لمعظم الكتاب، نحو معالجة بعض مشاكله التي لم يلتفت إليها كتاب القصة القصيرة في الفترة الأولى، ولكن ينبغي الإشارة إلى أن معظم من ذكرنا من كتاب القصة القصيرة لم يشكل التفاتهم إلى واقع القرية وجهاً أساسياً في تجربتهم الأدبية، فقد كان النموذج البشري من القرية واحداً من النماذج الأخرى العديدة التي يجري انتقاؤها من الواقع بأسره، قد لا يتجاوز التوجه إلى تصويرها القصة الواحدة، الأمر الذي وسم اتجاه معظم كتاب القصة القصيرة إلى القرية بالتلقائية والنظرة العابرة التي لم تستطع أن تلمس قضاياه الدقيقة، أو تستشف ما تفجره علاقاته المركبة، وبخاصة تلك التي تشكل المعنى الكبير في علاقة إنسان القرية بالأرض.
ونستطيع القول أن ما يتميز به أحمد حجيري يرجع بنا إلى الجانب الغائب لدى غيره من الكتاب، فالريف أو القرية في قصصه ليست موضوعاً ثانوياً أو شخصية عابرة . بل إنها المحتوى الحقيقي لتجربته الأدبية في القصة القصيرة، ولقد ارتبط هذا المحتوى في القصة العربية، وبخاصة في بواكيرها الأولى بالمنهج الرومانسي الذي استغرق في تصوير مظاهر البيئة المحلية، واشتق منها لوحات غنائية متوهجة بحب الريف . وربما رجع ذلك كما يرى الدكتور محمد غنيمي هلال إلى حب الطبيعة الذي (جعل بعض الرومانتيكيين يشيدون بالريف وأهله ويختارون أبطالهم من بين الفلاحين الذين كانوا في الأدب الكلاسيكي محقورين لا يتحدث عادة إليهم ولا عنهم) (17).
والحق أن الشغف بتصوير الريف غالباً ما يرتبط ببعض التقاليد الفنية للرومانسية، وإن جاء ذلك في الإطار الواقعي للقصة القصيرة أو الرواية . فالريف بقسماته الإنسانية البسيطة، وبمناظره وحياته الفطرية يشحذ في الكاتب القصصي معنى من معاني الرومانسية، ولعل أحمد حجيري لم يكن بمنأى من ذلك، فهو يحمل هوية دامغة تربطه بالريف (18)، تجعل التحامه بواقعه يتسم بخصائص وجدانية تثير بينها حماس التعلق بالهوية والإشادة بالقرية وتصوير همومها المختلفة، كما أنه عاش قضايا القلق التي اقترنت بها سنوات هذه الفترة في موازاة قيم الالتحام بالهوية القروية للمثقف.
وبحكم جذوره وأعماقه الريفية فقد عاش صورة خاصة من صور القلق في هذا المجتمع الصغير. فالريف في مجتمع البحرين يتداعى مع تطور وسائل الإنتاج، وتحديثها وتوجه أنظار الطبقات المالكة إلى استغلال الأرض بأساليب تجارية أكثر تضخيماً لرؤوس الأموال، الأمر الذي استقطب مناطق شاسعة من الريف لمصالح اقتصادية حرمت بعض الجماعات من استزراع الأرض، فضلاً عن مظاهر الإهمال من قبل الحكومة التي لم تدعم الأنشطة الزراعية بل أعطت ملاك الأراضي حرية تامة في تحويل استغلال الأرض من الزراعة إلى التجارة العقارية.
هذا الوضع المتداعي الذي يمر به الريف خلق صورة قلقة متذبذبة في شكل انتماء ابن القرية إلى واقعه الريفي المرتبط بالأرض، حيث يدفعه الظرف المتداعي إلى معايشة رغبة الانفصال عن واقع القرية والتحول عنه إلى حياة أخرى، ومن ثم تأتي شخصيات أحمد حجيري في معظم قصصه تحمل في خلجاتها قلق الانتماء إلى الأرض أو إلى واقع القرية . إنها غالباً ما تجمع في أعماقها قيماً شتى، فهي تجابه صور الانهيار والتحلل وتعايش مرارة الخيبة، في الوقت الذي تمتلىء بحب الأرض، وتتغنى بالتعلق بها تأثراً مما تمثله من عالم فسيح الأرجاء يستحضر إحدى دلالات الارتباط بالبيئة أو الوطن، أو يفجر في داخلها الوعي بمشكلتها الجوهرية . وكل ذلك يشكل قواماً فنياً يستقطب من الكاتب بعض القسمات الرومانسية الصافية تتواجد في قصصه مع مدركاته الواقعية التي تقوم عليها السيماء الفكرية لمواقف شخصياته بوجه خاص.
في قصة (القرية والحب والغربة) (19) وهي أول ما نشره الكاتب يصور أحمد حجيري شكلاً من أشكال الخيانة لواقع القرية من خلال قصة حب، لقد أحب البطل ابنة قريته، وتمثل فيها جمال ليل هذه القرية وجداولها ونخيلها، ولكنه سافر عنها للدراسة في الخارج، وأخذ يكتب لها عن غربته وشوقه، ثم انقطع عنها، وعاد بصحبته امرأة أجنبية ليسكن بعيداً عن قريته وحبيبته.
ونجد في القصة تعرية فاضحة لنموذج من فئة المثقفين التي تبرز لها في هذه الفترة كثير من مشاكل القلق الفكري والاجتماعي، ولا يبدو الكاتب متعاطفاً مع المثقف المتعلم، حيث يرسم له صورة سلبية وسمات فكرية مرتدة . ويبين لنا أن القرية ممثلة في الحبيبة ترفض مثقفها البرجوازي الذي يتنكر لواقعه ويتحلل من الارتباط بهموم قريته . ولقد دعم الكاتب أسلوبه النقدي الذي يرفض نكوص المثقف عن موقفه الاجتماعي بملامح فنية تصله بمنهج الواقعيين، فهو يجعل الحبيبة رمزاً للقرية، ويصوغ مواقف القصة بلسانها منولوجاً داخلياً طويلاً لتكون بمثابة ضمير الواقع الذي يدين شكل الخيانة والارتداد، ولذلك أصبح رفضها رفضاً جماعياً يفضي بأن هناك قضية فاصلة يناط بها سقوط المثقف تتمثل في نهاية القصة حين تقول له : (لقد عرفت أنك فقدت هويتك، وأنت تعرف أنني لا أقبل لقاء يجمعنا بدون الحديث عن دموع خلاصنا.. ابن الأرض).
وليس هذا فحسب بل إنها تظل طوال القصة تذكره بدموع الأطفال وبؤس النساء، ومسكنة الرجال، وتحدثه عن بكاء القرية مع بكائها . مما يجسم معاناتها في معاناة القرية ذاتها.
ولكن الكاتب رغم هذه السمات الواقعية - يخلق لنا صورة مفعمة بمشاعر الإحباط والخيبة تتلون بقعها مع معاناة الخيبة التي كانت ترنو إلى مستقبل وردي، وتحلم بحبها الذي (يهفو بها لجزيرة خضراء بعيدة ) ومن ثم باتت، المواقف والصور الجزئية طوال القصة، تعكس لنا نظرة تتعلق بالحلم الماضي تارة، أو تعايش الخيبة والحسرة تارة أخرى، مما جعل سياقها يجول في أعماق ذاتية تتوغل إليها تلك اللغة الرومانسية التي يشيد فيها بصفاء قلب الحبيبة . تلك التي تستمد حضورها الوجداني من التحام عواطفها مع جمال القرية ومناظرها ومظاهر حياتها المختلفة.
وفي حين تضمنت الأجواء الرومانسية في هذه القصة رفضاً لفكرة الانفصال عن واقع القرية من خلال رفض شخصية المثقف نجد هذه الأجواء في قصة (أحاديث الليالي المقمرة) (20) تحتوي حالة القلق والصراع النفسي التي يقع فيها المتعلم عندما يتمثل الصورة المتداعية المحبطة للريف في الوقت الذي يحمل تطلعات وضعه الاجتماعي الجديد، فبطل القصة يقضي سنوات عمره في تحصيل الدراسة وعندما يفوز بالشهادة يخرج من القرية بحثاً عن العمل الذي بنى عليه جميع أحلامه بعد أن رأى ثمرة العمل في القرية تذهب هباء لأن أسرته لا تملك الأرض، وحين تؤول أحلامه بالخيبة في المدينة تغشاه حالة القلق بين التطلع وراء بريق الشهادة العلمية والعودة إلى العمل في قريته . وتنتهي القصة بأن يمزق شهادته إرباً إرباً ويعود إلى الأرض.
إن الكاتب في هذه القصة يلمس بعض النواحي المهمة التي تؤكد مجاراته لكتاب الواقعية النقدية، فهو يصور غربة المواطن في بلده عندما يجوب الشوارع بحثاً عن العمل فلا يجد سوى الفشل والمشقة، فالشركات والدوائر ترفضه بصلافة تؤدي به إلى الشعور بالمقت والغيظ الذي يملأ عليه صدره، فقد هرب من جو الاستغلال الاجتماعي في القرية، فوقع في غربة المدينة ورفضها له.
لذلك ينعى الكاتب على الفرد مثابرته في تحصيل العلم، والقيمة الإنسانية التي يخلقها التعليم تنقلب إلى شيء تافه أو مضاد لمعاني الارتباط بالأرض . وقد أوصل الكاتب بطله إلى الاعتقاد بأن فشله لم يقترن سوى بتعليمه فهو يشعر بلون شهادته الأبيض ) يتحول إلى قتامة تشوه شعوره بالأشياء ويتذكر ما قاله عمه حين كان يسهر معه على ضوء الليالي المقمرة ) (إن العمل الذي تجلبه شهادتك هو العمل الذي ينزع منك شعورك بالترابط مع جماعتك). مثل هذه اللمسات ساهمت في امحال صورة الشخصية المتعلمة التي تنطبع عليها بعض آثار نظرة الكاتب الرومانسية لمعنى الارتباط بالأرض، وبخاصة حين يقرن هذا الارتباط بحلمه وتطلعه الوجداني في الزواج من ابنة عمه عندما يحدث نفسه : (هل تعتقد أن مريم ستكون جميلة كعهدك بها، إذا أنت انفصلت عن روح الأرض).
وبينما يتمثل في الانتماء للقرية والعمل في أرضها صورة الحبيبة والشكل الإنساني للمثابرة يتمثل في الانفصال عنها أو هجرتها صورة الضياع والغربة . وقد رأينا ذلك في نماذج من الشريحة المتعلمة التي خلقت فيها عوامل الحراك الاجتماعي تطلعات جديدة وجدنا ملامحها في القضيتين السابقتين.
ولكن القضية الاجتماعية التي تستقطب الرؤية الواقعية في قصص أحمد حجيري تبدو أوسع من تطلع نماذج بشرية متحللة . إن قضية الكاتب هي مجابهة الصورة المتداعية للواقع الاجتماعي في القرية، ولقد دخلت النماذج السابقة في إطار هذه المجابهة، وإن استأثرت بأسلوب انتقادي لمواقفه الطارئة . أو تغلغلت مع أجوائها الرومانسية المحطمة.
إن مجابهة الكاتب لتلك الصورة تبدو في تصوير الأثر الاجتماعي لاستغلال ملاك الأراضي لطبقة المزارعين، وتكبيدهم العناء الذي يثير في حياتهم الغربة والشقاء، الأمر الذي يدفعهم إلى الهجرة والبحث عن مشارف أخرى يجدونها مع بريق العمل في المدينة، وهذا ما يحفز في الكاتب دعوته إلى الارتباط بواقع الريف، وكفاح المزارعين مع شقاء المهنة التي تعرضهم للسخرة.
ويصور الكاتب إحدى النماذج البشرية المهاجرة من الريف إلى المدينة في قصة (بعد الفضيحة) (21) فالبطل يترك قريته بعد أن قيل له أن العمل متوفر لكل الناس في المدينة، ولكنه ما أن يدخلها حتى تصدمه مظاهر الزيف والتحلل التي تثير في نفسه مشاعر الغربة والضياع والشوق إلى أهالي قريته . لقد رأى الشاب الذي شوهته المدينة، والسيقان العارية، والأطفال يتبادلون الشتائم، والشحاذ والمرأة المتبرجة تتشاجر مع امرأة متحجبة يسقط حجابها فتبدو الأصباغ على وجهها.
لقد كشف الكاتب في هذه القصة عن الوجه القبيح لظاهرة الهجرة من القرية إلى المدينة، وكأنه يريد القول أن هذه الهجرة لن تجدي شيئاً في مواجهة القوى الاجتماعية لعنائها أو التخلص من أرزاء واقعها في الريف، ولعل مصير الضياع الذي وصلت إليه شخصيته في القصة يؤكد الضرورة التي يستبصرها الكاتب دائماً مع ظواهر التداعي في مجتمع الريف وهي الارتباط بواقع القرية واستشراف المستقبل من صمود الحياة فيها.
وهذا المصير الذي يضيء تلك الضرورة ويستبطن لا جدوى الهجرة عن القرية تسفر عنه مشاعر بطل القصة منذ وطأت قدماه شارع المدينة، فقد ) أحس بالضياع والغربة وود لو بكى .. اعتقد أنه فقد كل أمل في الانصهار مع هذه البقعة الصاخبة العانية، وتمنى لو أنه لم يأت، ولم يستمع لآراء الناس (22).
والحق أن هذه الحالة من حالات الاستبصار الرومانسي التي ينتفض فيها بطل القصة بالخيبة وعدم القدرة على تحقيق توازنه الداخلي مع رغباته المنشودة، إنها انتكاس الحلم والأمل، ومؤشر الارتداد إلى الوعي بضرورة الارتباط بالواقع، وكأن الكاتب في هذا الأسلوب القصصي يقوم بصياغة إحدى المصائر الرومانسية التي تطبع لدى المتلقي آثار رؤيته النقدية لظاهرة الهجرة من الريف.
ولعل سمات الأسلوب الرومانسي في تفجير الأعماق الذاتية أكثر جلاءً في هذه القصة، ففي بدايتها ربط خروج ابن القرية بحالة كئيبة من الحزن والتشاؤم، ومشاعر الحنين إلى ذكريات الطفولة وليالي القرية وكلمات الفلاحين ونكاتهم، وخضرة الأرض، فجعل الكاتب من اللحظات الأخيرة التي ينظر فيها إلى القرية من بعيد بمثابة اجتذاذ لجذوره الوجدانية التي بزغ الإحساس بفراغ وجودها مع أولى خطواته في المدينة، ومن هنا أصبح امتثال تلك الجذور وانهزام الصورة المثالية لمجتمع المدينة هو محتوى الأسلوب الذي يتذبذب بين نظرة واقعية ونزعة رومانسية.
وتظل فكرة الارتباط بالأرض والقرية هي الإيقاع الذي يتغلغل في بناء الشخصية القصصية، وحيث تكون هذه الفكرة أداة الكاتب في تشكيل هواجسه التي ينحو بها إلى مجابهة الصورة المتداعية للريف، حيث يكون ذلك يستمر لديه تمازج بعض التقاليد الفنية في صياغة الموقف أو الشخصية، فهو ينفذ بأسلوب الواقعية النقدية نحو إدانة أشكال الاستغلال الاجتماعي، وهو يستمد من معايشته لواقع الريف حب الارتباط والتماهي بأسلوب رومانسي ينزع إلى تصوير مظاهر البيئة، وملامح الحزن والشقاء التي قد تغيب معها الرؤية الصحيحة فتؤثر الهروب أو مسايرة الحلم الفردي.
لقد صور الكاتب في قصة (الثأر ) (23) ذلك المزارع الذي تجول في أعماقه الداخلية أحلام بعيدة يمتلك فيها الأرض ويحيل ترابها إلى جنة في الوقت الذي كان يعاني من ارتفاع قيمة الضمان الذي يدفعه مقابل زراعة الأرض، ولكنه مع صورة الحلم يعبر عن روح المثابرة والصمود حيث يصر على البقاء في الأرض التي شهد فيها جده وأباه يقلبان تربتها.
وفي قصة (الولادة العسيرة) (24) ينهزم أهالي القرية أمام جفاف الأرض وتدهور الحياة في قريتهم، ولا يستطيعون المقاومة فيهربون بعد أن خلفوا وراءهم مشاعر الألم والحزن والتهالك، لقد كانوا يدركون ما سيحيق بالقرية من جدب وجفاف مع هجوم الجراد الذي ربما كان رمزاً لزحف المدينة وامتدادها إلى القرية (25)، وأيا ما كان المعنى القائم في جفاف الأرض، فالصورة المائلة للقرية في هذه القصة هي تلك الصورة المتداعية التي تؤذن بالانتهاء. والموقف حولها يوحي بتطامن رومانسي ومسايرة عاجزة عن إدراك الضرورة، كما يعبر الكاتب في قوله أن (القذى كان يمسح العيون ومن هنا نزح الرجال عن القرية في طريقهم إلى العراء وهم يعتقدون أن ذلك سيخلصهم من الجفاف) . والكاتب يمزج هذا الموقف المسالم المتهالك مع حوار آخر بين الأم وابنها يتداخل في سياق القصة ليستشرف له نظرة واقعية من بين ركام المشاعر المحبطة، المتشائمة، فالأم وهي رمز القرية التي تستحث من الرجال همتهم ونضالهم وإيمانهم بالعمل من أجلها تحذر الجميع من الجفاف ولكنهم يتغافلون عنها، وحين تخلو القرية من رجالها تطلب منه أن (يتدبر أمره) ولكنه يظل في حالة قلقة لا يعرف طريقه، تعصف به التساؤلات، ويغشاه الحزن، وتهيمن عليه الكآبة حتى يدرك أخيراً أن العمل هو الذي سيبث معنى الحياة في تراب القرية المجدبة.
لقد ظلت مواقف القصة توحي بالجفاف والضعف والهزيمة في الوقت الذي تستنهض شيئاً مخبوءاً في أعماق ابن القرية الذي يحمل وحده خلاصها وديمومة الخصب والحياة في ترابها، ورغم تجاذب الأجواء مع تلك المواقف فالكاتب يحتفظ بذلك السمت الخاص الذي يستخرج صورة النضال الاجتماعي من الوعي بضرورة الارتباط بالأرض.
ويستمر الكاتب في إثارة شتى القيم الفنية التي يواجه بها الصورة المتداعية للريف مواجهة رادعة تنطوي على الاحتجاج والنقد في الوقت الذي تشف بمعاني الارتباط بالأرض، وتؤكد جوانب من دلالتها الرومانسية . وقد حاول في بعض القصص أن يطور التشكيل القصصي لتلك المواجهة كقصة (الوالد وآخرون) (26) التي يصور فيها مأساة عائلة ريفية تلاشت جميع أحلامها بعد أن فقدت الأرض، فقد أراد رب العائلة أن يصلحها فلم يجد المال فقرر أن يتضمن أرضاً أخرى مقابل سند أرضه، ولكن الأرض الجديدة خيبت أمله فخسر أرضه، ولم تجد توسلاته ودموعه التي استعطف بها مالك الأرض، واستبد به اليأس والخسران حتى قتل نفسه فوق تراب أرضه.
إن التعلق بالأرض في هذه القصة يحمل دلالة الاحتجاج الرومانسي على فظاعة الظلم الاجتماعي الذي أتى على الأسرة بالتشريد وتبديد الآمال . ويعبر هذا التعلق عن أعماق وجدانية تكشف الإهاب الرومانسي في بناء الشخصية، ولعل في مصير الانتحار الذي انبثق من معنى ذلك التعلق ما يؤكد المزاوجة بين تقاليد الواقعية والرومانسية، التي ينحو إليها أحمد حجيري في معالجاته للواقع الاجتماعي في الريف، فهو يقترب كثيراً من نهج الواقعية النقدية في تعريته لأشكال الاستلاب التي تتعرض له الطبقة الكادحة من قبل ملاك الأراضي . ولعل جميع قصصه تطرح ذلك لأنها أكثر القضايا الاجتماعية ارتباطاً بمأساة القوى الاجتماعية، بيد أن معالجة الكاتب لها لا تتميز برصانة واقعية فهو لا يتخلص من تهويماته التي تصب من أعماق الفرد وأوهامه المجنحة، أو تنتهي إلى صور الخيال التي يستمدها من إشادته الدائبة بواقع الريف ونماذجه البشرية، وهذا يعني أن المنظور الخاص لأسلوبه الفني لا يتسم بثبات الإطار واستقامة الرؤية، فالانتماء الحميم الذي يكنه حجيري للريف ينبع من طفولته وحياته التي ارتبطت به واعتملت فيها كثير من رواسب التجربة الفردية والإحساس الوجداني.
وقد حاول الكاتب في القصة السابقة (الوالد وأخرن) أن يلجأ إلى أسلوب المناجاة التي يوزعها بين أربعة أصوات تخلصاً من أعباء السرد ورتابته التقليدية فقرَّبه ذلك كثيراً من التماس المشاعر الوجدانية المجهضة التي تشكلت من واقع الحدث، ولكن في تجسيمات رمزية مهوِّمة، فالصوت الأول: الأب يناجي ابنه وتبدو الأرض التي فرط فيها الابن نجماً آفلاً بما كانت تشيعه في حياته من ضياء وآمال . والصوت الثاني : الزوجة تعيش موت حلمها وسواد يومها . وتستعيد ذكريات العهد والوفاء بذهاب الأرض . والصوت الثالث : الابن يعيش نهاراً أسود كالسخام، ويتجسم له خسران الأرض في فقدان الأم . أما الصوت الرابع : فهو بطل القصة الذي يطلب عطف الجميع بعد أن حلت به المأساة.
لقد عبر الكاتب في هذه الأصوات عن حالة الموت والانتهاء، فأصبحت جميعها صورة واحدة تحتوي مصيراً رومانسياً للقضية الاجتماعية المطروحة، وهي بقدر ما أوغلت بالكاتب مع نزعته الذاتية الصافية عملت على تعميق صورة الانهيار للواقع الاجتماعي في الريف، إذ أن الأسرة هي نموذج هذا الواقع، وجاء تمزيق المناجاة مع سياق الأصوات الأربعة تعبيراً عن انتشار المأساة، واشتعال حالة الموت لكافة أشكال الحلم.
لقد أراد الكاتب بتلك الأصوات أن يقلل من شأن الحدث ويضاعف من اهتمامه بالناحية التأملية أو التسجيل للحركة الذهنية والوجدانية ولكنه لم يستطع ذلك فقد ظل الموقف التقليدي للقصة ماثلاً بقوة في صوت بطل القصة الذي ارتكزت عنده بؤرة السرد ومن ثم استجمع كل معاني الموقف القصصي، وكذلك الأمر في قصة ( إيقاعات حزينة) (27) التي اتجه فيها إلى كثافة الأصوات المتعددة الزوايا ورسم فيها بعض الصور الشعرية الدافقة، فاستحال أسلوبه إلى لوحة غنائية حزينة تنعى ضياع البطل وحيرته في عالم يكمم الأفواه ويكللها بالمرارة . وإذا كان الكاتب قد استطاع أن يجعل من مناجاة بطل القصة لحبيبته مناجاة للوطن، فإنه بذلك يقترب كثيراً من تقاليد الواقعية الفنية ولكن هذا لا يعني غياب الوجه الرومانسي في القصة، فالبطل يبكي لضياعه نادباً أحلامه (دلوني .. أنا الضائع .. أنا الذائب في لحن النخل .. في العشب الناعس بجوار صبح القرية ... قفوا ... استمعوا إليّ .. فرسي ضائع وأنا أبحث عنه في أعينكم الموشومة بالمر). ويستمر هذا الإيقاع الرومانسي الثائر الذي يبحث فيه عمن ينقذ الصورة المتداعية للقرية حتى نهاية القصة.
ويتطلع الكاتب إلى تطوير أسلوبه القصصي، ولكنه يظل مثقل الخطى في صياغة منظور فكري ثابت، ولعلنا نستطيع القول أن أكثر الملامح الفنية المتطورة في معالجة قضية القرية قد جاءت في بعض قصصه الأخيرة التي نلمس فيها دلالة كلية لمعنى وجود القرية في ذهن البطل، حيث تبدو رمزاً للوطن ويبدو صمود أبنائها صموداً من أجل خلاصها وخصوبة أيامها، واستشراف مستقبلها، ونجد ملامح هذا المعنى منذ قصة (الخروج من الغبش) (28)، التي جعل بطلها ذلك الميت الحي الذي يعيش عزلته وحزنه وبكاءه، ويتراءى له أن كل شيء حوله يبكي حتى الطبيعة، الشمس والقمر .. الأشجار الخريفية البيادر في قريته السوداء .. فهو نموذج لحالات القلق والتمزق التي تعيشها فئة المثقفين .. بيد أن الكاتب في نهاية القصة يستحث في نموذجه السابق معنى جديداً يقوده إلى النضال والمشاركة في تغيير الصورة المتداعية للقرية التي يتجسد همها في هم الوطن الكبير . ويستمر هذا المنوال الذي يربط بين معاناة القرية ومعاناة الوطن في قصص ) الولادة العسيرة ) و (إيقاعات حزينة ) و (النظر من خارج العتمة ) و ( الوالد وآخرون ).
ويلجأ الكاتب في قصة ) مراسيم من مطارح الهجير ( (29) إلى معالجة تقاليد العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمع القرية، فلم تختلف نظرته الفنية لهذا الموضوع . كما لم يتجاوز طابعه الخاص في تصوير الانتماء إلى الأرض والاعتزاز بمثابرة الإنسان في هذا الواقع الذي يضج بالمعاناة.
لقد أراد الحاج إسماعيل أن يزوج ابنته ) زينب ( من مختار القرية، وهو رجل غني وكبير في السن، ترفضه الفتاة، ولكن والدها يكرهها عليه، لأنها رغبة المختار التي لا ترد، ولأنه لا يستطيع أن يفرط في مصاهرة المختار الذي سيغنيه و يبارك له حياته. فتتعرض زينب لاضطهاد عواطفها، حيث تحرم من ) حسين ( الفتى الذي أحبته لأنها وجدت فيه تراب القرية وطينها.
ويجعل الكاتب في ) زينب ( صورة من صور الاحتجاج الرومانسي، فهي تحمل في قلبها الحب والوفاء والحلم نحو ابن القرية، ولكنها تستلب عنوة وتكون نهايتها المؤسية رمزاً لما تفجر به وجدانها من احتجاج ونقمة على تقاليد القرية وقوانينها الظالمة، وفي حين تتمثل في حياتها صور الاضطهاد والخيبة والإجهاض، الذي يدفعها إلى البحث عن العزاء فيما ترويه العجوز ) أم حمد ( من حكايات النساء، تكون من ناحية أخرى متمسكة بروح الانتماء إلى ابن القرية الذي يربط وجدانها بواقع قريتها. فهو (قبضة من طين الحقول، ونفحة من ربى الأرض ).
وإذا كانت شخصية القصة قد اندفعت بهذه السمات الرومانسية فهذا لا يعني اختفاء لمساته الواقعية السابقة التي يجعلها وسيلته في نقد أشكال الاستغلال الاجتماعي في القرية، فالقصة تنطوي على كثير من معاني التبرم والإحساس بالظلم الذي يأتي من صراع القوى الاجتماعية مع السلطة المستغلة في القرية ممثلة في مختار القرية.
وبهذه الصورة جاءت معالجة الكاتب لوضع المرأة في القرية مشتملة على تعاطف شديد لقضيتها، ومحتوية في نفس الوقت نظرته التي تشيد بالانتماء للقرية، وقد جاءت القصة بخلاصة شبيهة بذلك على لسان ) أم إبراهيم (إحدى النساء الجالسات قرب زينب في مجلس العجوز حين تقول أن كل الرجال يستلّون الأحلام من عيوننا) إلا من أكلوا معنا منذ الصغر ... الخبز والملح واكتووا من شمس ظهيرتنا ... أولئك الذين ملأت أنوفهم رائحة التربة والنخيل ...) (30) فالانتماء للقرية هو مناط رفض المرأة لعالم الاستغلال والاضطهاد المتمثل في الرجل.
ويمكن الملاحظة أن هذه القصة تعبر عن جهد من جهود الكاتب في تطوير أسلوبه القصصي حيث اعتمد فيها كثيراً على تكنيك التداعي، أو تيار الوعي الداخلي الذي يصل مستويات الزمن ويجعلها تصب في مجرى واحد، ولعل استعماله للمادة القصصية من الحكاية الشعبية هو الذي استدعى منه ذلك الأسلوب . وتعنينا الجوانب الفنية التي اتبعها الكاتب في استعمال الحكاية الشعبية، فهي من الأساليب التي يوظفها كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة، ولقد رأينا جهوداً متواضعة في صياغة الحكاية لدى بعض الكتاب من الجيل الأول في الأربعينات والخمسينات وبصورة خاصة في عدد من قصص فهد الدويري، التي لم تتجاوز كونها تسجيلاً (توثيقياً) لبعض الحكايات، عملت فيها عوامل الحرص على المضمون والمغزى، والمواقف، فبدت تحمل قالب (الحكواتي)، بحيله الفنية التي تنحو إليها الحكاية عادة.
بيد أن أحمد حجيري في هذه الفترة وبتوظيفه للتقاليد الفنية الحديثة في القصة القصيرة يتخلص من الشكل السابق لاستعمال الحكاية الشعبية، حيث ينحو إلى توظيف الحكاية توظيفاً فنياً يستمد إسقاطها المعاصر ودلالتها المميزة على الموقف أو الشخصية، ولكنه لم يتقن السيطرة على ذلك فقد انحصر جهده الفني في استعمال موضوع الحكاية وليس توظيفها . وذلك أننا حين نعاود النظر في القصة نجد الحكاية تشكل منظوراً خلفياً للموقف القصصي، حيث تستمع بطلة القصة (زينب) إلى ما ترويه العجوز (أم محمد) عن الصغيرة التي زوجها والدها من السلطان فغضبت زوجاته الثلاث وأردن التخلص منها بأن أخذتها إحداهن إلى النخلة حتى يأكلها السبع، فيبتلعها ولكن ينمو من فضلاتها قصب مجوف يأخذه السلطان لنارجيلته، فتحرق إحدى الزوجات هذا القصب وترمي بقاياه في الغدير لتنمو مكانها شجرة رمان تزهر رمانة واحدة يأخذها السلطان، فيفلقها فتخرج له الفتاة وتشكو له ظلامتها.
جميع هذه الأحداث يسوقها الكاتب في خط متقطع . يتداخل مع الموقف الرئيسي للحدث، فالبطلة تستمع إليها في الوقت الذي تعيش آلامها وأحزانها الخاصة، عندما زوجها والدها ممن تكره وحرمها ممن تحب . إنها - منذ بدأت (أم محمد) حكايتها - تستعيد المواقف الماضية مع والدها وحبيبها (حسين) عن طريق التذكر، فتبدو مأساتها من وراء غشاوة رقيقة يزيحها ذلك التمثل أو التجانس لمشكلتها فيما ترويه العجوز من أحداث الحكاية الشعبية، وهذا يعني أن هناك نوعاً من الفصل الزماني والمكاني بين حدث القصة وحدث الحكاية الشعبية . فالقصة لها مجراها ومواقفها وشخصياتها والحكاية تجول في واقعها الذي ربما اختلفت تفصيلاته كثيراً عن سير الموقف في القصة.
ولكن رغم ذلك تظل الحكاية تلقي ظلالاً مأساوية في أعماق بطلة القصة فهي قد زجت إلى مختار القرية عنوة وكرهاً . كما دفعت الفتاة الصغيرة إلى السلطان لتعيش مع زوجاته الحاقدات، وهذه هي أبعاد الجهد الفني في تداخل سياق الحكاية الشعبية مع سياق الموقف القصصي . إنها تشبه إلى حد كبير استعمال المعادل الموضوعي للحدث، يستمد منه الكاتب عمقاً وتجذيراً للمأساة التي تعيشها بطلة القصة.
بل إننا نستطيع القول أن الحكاية الشعبية في هذه القصة تعد امتداداً للموقف الرومانسي المتعاطف مع المرأة . كما أنها من ناحية أخرى تأتي مؤشراً للاضطهاد التاريخي الذي تتعرض له المرأة مع وجود قوانين الظلم الاجتماعي، وكل ذلك يعني أن حجيري لم يتجاوز في تعامله مع الحكاية الشعبية جهد الاستعمال الفني للحكاية بوصفها خلفية، فهو لم يتمكن من توظيف واقعها وتجديد نبضها في صياغة معاصرة تقوم معها قوائم شكل قصصي خاص تكسبه وحدات المادة الشعبية في الحكاية خصائص فنية مغايرة.
ولقد وقف الكاتب مع كثير من صور الحياة الشعبية في الريف واستفاد منها في إثراء حيّزه القصصي بما يوحي بصدق الواقع الاجتماعي في الريف، أو بما يتناغم مع الأعماق الوجدانية التي تعيشها شخصياته، بل إن المادة الشعبية التي يتناولها بشكل عابر أحياناً تكاد تحل محل الميثولوجيا في وجدانه، فالفلاح حين يناجي حبيبته في قصة (إيقاعات حزينة) يقول : (ونمتُ يا حبيبتي على ضفاف غديرك ... فطلع لي وجه جدتي الحزين الذي شوته شمس الحقول حتى بات كقلف النخيل ... وقصت لي حكاية) سهيل (أتدرين يا حبيبتي ... إنك كنت سهيلاً وأنا كنت الفتاة الخائفة). وبقدر ما تضفي إشارة الكاتب لحكاية (سهيل) من إثراء وغنى لألوان اللوحة الغنائية الحزينة في هذه القصة، فإنها توحي بما للحزن والخوف والحيرة من جذور بعيدة ترتبط بنسغ الواقع نفسه وجذوره الشعبية.
وليست تلك الإشارات وحدها دلالة الحضور للريف في أسلوب أحمد حجيري، فالنظرة السريعة لقصصه تؤكد مدى اهتمام الكاتب بالتقاليد الرومانسية في خلق صور ذات إهاب لغوي منسق، تحرص تركيباتها على استعمال مظاهر البيئة المحلية في الريف، واستجلاء حضورها من خلال قوالب اللغة، ويمكن ملاحظة أن استعمالاته اللغوية غالباً ما تسترفد صورها الفنية من الأرض والطين، والتراب، والنخيل، والجداول، والغدران والفلاحين وعيون الأطفال، وثمر الحقول وخضرتها، وحتى حين يتجه أسلوبه إلى الكثافة التعبيرية تظل صور الطبيعة، ومظاهر الحياة الشعبية في القرية هي الأدوات الأولى في لغة الكاتب، ولعلنا لا نغالي حين نقول أنه يحل هذا الأسلوب محل اهتمامه بتفاصيل الواقع في القرية، وتسجيل الجزئيات الدقيقة التي عني بها في القصص الأولى، ففي قصة (خيبة) (31) يصور لنا لوحة طبيعية ممتلئة بتفاصيل ومظاهر الحياة الرثة في الريف حتى لا تكاد تحمل موقفاً متطوراً، متحركاً بسبب نزعتها التسجيلية المغرقة، فهو يرينا ذلك النبع والنساء ينقلن منه الماء في الأواني الفخارية أو ينظفن القدور، وحولهن صيحات الأطفال، ونزاع يدب بين امرأتين أو أكثر يلتهب بالشتائم، والدجاج المتجمع، والقطط السوداء، والبيضاء والمرقطة تدور حول الفضلات الملقاة، والرجل الذي يضرب ابنه ليؤدبه، ثم الفلاح (شخصية القصة) الذي يمر على هذا المنظر ليسلك طريقه بين صفوف النخيل، أو بين الجدران التي يرى عليها كتابات الأطفال، وتستمر هذه الصور الفوتوغرافية تمتد وتزدحم لتؤكد حضوراً ساكناً للواقع، لا تتمكن تلك التفاصيل المتراكمة من بث الحياة فيه، أو تشكيله بأسلوب فني يربطه باهتمامنا ورغباتنا وأذواقنا . فأساس الفن يظل - كما يقول توماس مان - : (هو استخدام أقل حجم ممكن من الحياة الخارجية من أجل بعث أعنف حركة ممكنة في الحياة الداخلية....) (32).
ونعتقد أن كثيراً من الكتاب غير أحمد حجيري، كمحمد الفايز، ومحمد عبدالملك، وخلف أحمد خلف، قد أغرى بازدحام التفاصيل في تحقيق الأسلوب الواقعي في القصة القصيرة، وإن كانوا قد تجاوزوا هذا الوهم مع تجاوز بداياتهم الأولى نحو تقاليد المنهج الواقعي، بل إن أحمد حجيري حاول أن يستعيض بلغته الشعرية عن تلك التفاصيل كما رأينا في قصتي (إيقاعات حزينة) و (الوالد وآخرون ).
إن القصة القصيرة عند حجيري عبرت من خلال تصويرها للريف عن ذلك التقارب الشديد بين الرومانسية والواقعية النقدية الذي يعبر عنه أرنست فيشر بقوله:
(لقد تحول الاحتجاج الرومانسي على المجتمع الرأسمالي شيئاً فشيئاً إلى نقد لذلك المجتمع) (33) . ومن ثم كانت الرومانسية - في نظره - مرحلة مبكرة من مراحل الواقعية الانتقادية.
وفي القصص السابقة لأحمد حجيري أمثلة عديدة تتوزع المواقف فيها بين الاحتجاج الذي يعبر عنه الكاتب بانتحار الشخصية أو هروبها أو غربتها وضياعها، واستغراقها في الأحزان والحيرة، وأشكال الرفض والمثابرة التي تنتقد مظاهر الاستلاب والاستغلال الاقتصادي في القرية وتستشرف بعملها وتعلقها بالأرض واقعاً جديداً، ورغم أن هذا التوزع يوحي بالقلق الفني وعدم الثبات والاستقرار، فإن الكاتب استطاع أن يكسب تجربته في القصة القصيرة كثيراً من الملامح الفنية المميزة . وأن يجعل من ذلك التوزع قاعدة لتشكيل تلك التجربة القصصية بحيث أصبحت مزاوجة الرومانسية بالواقعية أساساً تركيبياً لصورة الريف من ناحية ولتجربة أحمد حجيري من ناحية أخرى(*).