القسم الثاني . الفصل الثالث 1 انتهت دراستنا لاستمرار الرومانسية إلى أنها تعبير عن تجربة وهلية، أو هلع تلقائي سريع اجتاح الغالبية المثقفة مع بداية الستينات . وكان الجيل الثاني من كتاب القصة القصيرة الذي واكب هذه البداية قد ارتبط ارتباطاً حميماً بهذه التجربة، فهو قد أفاق على تركات نفسية واجتماعية عميقة خلفتها أحداث الخمسينات ومردودات التغير الاقتصادي التي بدت لها رؤوساً متورمة مع بداية الفترة الثانية . ومن هنا كانت هذه الإفاقة ) الرومانسية ( تحمل في ثناياها مؤشر الانتقال والتحول نحو القصة الواقعية القصيرة، فهي مع تلقائيتها تدلنا على مدى قرب عهد الاتجاه الواقعي في القصة القصيرة، فقد رأينا أن تلك الإفاقة ارتبطت غالباً بالبدايات القصصية لدى جيل الكتاب في هذه الفترة . وهو ما يوحي بعدم ثباتها واستقرارها . حيث كانت تنطوي على توق شديد لتجديد الشكل الفني، واعتناق لكثير من مبادئ الارتباط بالواقع، والانطلاق من صيروراته البازغة . وهذا ما كان يؤذن بانفتاح سبل التحول ويعد لخلع اللبوس الرومانسي الفضفاض، وإلغاء تلك الوصاية الشديدة النابعة من وصاية المجتمع التقليدي، وسيطرة تقاليده التي كانت تثير الخيبة والهزيمة لأبناء الجيل الجديد . ولعلنا لا نغالي حين نذهب إلى أن الواقعية قد تسللت في بدايتها من بين متاهات ودروب الرومانسية بعواطفها ومثلها، وتطلعاتها الفنية ومنطلقاتها الواقعية، فقد رأينا بعض قسماتها الفنية التي لم تكن تغادرها وهي في أوج تمكنها من بعض الكتاب كخلف أحمد خلف، ومحمد الفايز، وسليمان الشطي وفرحان راشد الفرحان، كما رأينا أيضاً نماذج من قيمها مع أساليب ومواقف رومانسية في كثير من الأعمال القصصية، وهذا في الحقيقة ما يجعلنا نقرن ظهور التيار الواقعي وتأصله بتواجد الحركة الرومانسية خلال هذه الفترة . وقد كان تخلص معظم كتاب القصة القصيرة من المظاهر الفنية التي ارتبطت ببداياتهم في هذا الفن من العوامل الأساسية في تخلصهم من رواسب الرومانسية وأساليب النزعة الذاتية التي استغرقت في الاعتزاز بالقيمة الفردية، ونظرت إلى المجتمع نظرة متعالية، تنقده حقاً ولكنها تتباهى بموقف المثقف الفرد وتستعرض سخريته. وتسرف مع مظاهر حيرته، وقلقه كما رأينا في قصص سليمان الخليفي الأولى، وقصص حسن يعقوب العلي، ومحمد الماجد. وإذا كنا نعتبر الرومانسية هي الخلفية التي دفعت القصة القصيرة نحو الاتجاه إلى الواقعية فإن عواملها في المجتمع أكثر رسوخاً واستدعاءً للتمثل والمجاراة، وقد رأينا في الفترة الأولى ( الأربعينات والخمسينات ) أن سلطة المجتمع التقليدي ومفاهيمه السلفية كانت من أكثر المعوقات أمام تأصل الاتجاه الواقعي في القصة القصيرة منذ تلك الفترة المبكرة، في حين يمكننا القول عن الفترة الثانية ( الستينات والسبعينات ) أن ما شهدته من انحلال السلطة التقليدية وضعفها يعد مقوماً أساسياً في ظهور الأساليب الواقعية، وتعدد نزعاتها الفنية والفكرية . فمع تطور الأنشطة الاقتصادية واطراد حركة المجتمع منذ بداية الستينات تنسحب كثير من مظاهر المجتمع التقليدي، كما تتراجع تقاليد مجتمع البـداوة، وتذوب مع تدفق أشكـال الحضارة الـتي تدخل رياحها من جميع الجهات. لقد اتسعت الأنشطة الاقتصادية المحلية في الكويت والبحرين بصورة ملحوظة خلال الفترة الثانية . ففي الكويت ازدادت معدلات إنتاج النفط أواخر الستينات حتى جاءت في الدرجة الثالثة من حيث الإنتاج الأكبر للبترول في الشرق الأوسط، وتتضح المردودات الاقتصادية بوفرة مع تزايد الدخل القومي من النفط مما يشجع الدولة على وضع كثير من التسهيلات لازدهار حركة الصناعة واستثمار رؤوس الأموال الكبيرة في مشروعات داخلية وخارجية . وفي البحرين يزداد إنتاج النفط نسبياً، ولكنه لا يبلغ ما بلغته الكويت (1)، وإن كان اتساع النشاط الاقتصادي يتبلور لدى حكومتها في تنويع الموارد الاقتصادية بتشجيع التجارة، وإقامة المناطق الحرة والاهتمام بالمنشآت الصناعية التي قفز عددها بمعدل كبير في السنوات الأخيرة . وقد ساعد هذا التطور الاقتصادي المطرد على تغيير مناحي الحياة الاجتماعية، حيث أفادت منه الكويت والبحرين في توجيه البلاد وجهة حضارية تعطي دوراً كبيراً للأخذ بالأساليب العلمية الحديثة في مجالات ملائمة لازدهار الحركة الواقعية في سنوات الفترة الثانية التي خرج بها مجتمع الخليج العربي، وخاصة الكويت - من سنوات التشتت والارتباك وعدم وضوح الأهداف في الأربعينات والخمسينات إلى سنوات التجميع والتحديات وتكوين الدولة وإدراك ضرورة التوازن النفسي مع مؤشرات التغير الاقتصادي السريع . ويمكن الإشارة إلى بعض التطورات السياسية التي صاحبت وضع دستور للدولة، وقيام المجلس التشريعي ثم قيام نظيره في البحرين .. فمثل هذه المتغيرات لا تنفصل عن التطور الاقتصادي، ونهضة القوى الاجتماعية في البلاد، كما لا ينفصل جميع ما أسفر عنه التطور الشامل لمناحي الحياة عن بذور الاتجاه العقلاني الذي بدأ يشكل آثاراً واضحة في تفكير الأفراد. وتبدو الملامح العقلانية أكثر تقبلاً في نسيج الحياة الثقافية فقد ارتوى جيل الفترة الثانية من حركة تعليمية شاملة، ولم يتسقط ثقافته بتحفظ وحذر من رقابة سياسية أو وصاية أبوية بل راح يستمدها من دوافع حاجاته المعاصرة وضرورات المرحلة التاريخية التي تشده إلى مواقع التيارات الفكرية الجديدة، وخاصة مع تدفق العدد الكبير من خريجي الجامعات العربية والأجنبية الذين نقلوا معهم ما تأثروا به، واستفادوا منه من اتجاهات سياسية وفكرية . وقد كان القلق الشديد المفعم بالخيبة الذي انتهت به السنوات الأخيرة من الخمسينات من أهم العوامل التي دفعت جيل الفترة الثانية إلى البحث عما يشبع تطلعاته الجديدة، ويستنهض أحلامه المجهضة ويرسم له خطوط المستقبل، ويفجر في أعماقه آمال التغيير، وكل ذلك وجد توازنه الحقيقي مع تمثل الفكر التقدمي الذي كانت تمتلئ به الساحة العربية . وعلى صعيد الحياة الأدبية والفنية نجد أولى بوادر العثور على الشكل المتجاوب مع التيار الواقعي في الأدب العربي تبدو في بعض الأفكار التي طرحها ذوو الاتجاه القومي منذ أواخر الخمسينات، منها ما نجده - مثلاً - عند خالد خلف في مقاله ) الأدب الخالد ( (2) الذي هاجم فيه طه حسين وعباس محمود العقاد ووصفهما بالرجعية والردة لأنهما في أواخر فترتهما تركا شجاعتهما الأدبية في فترتهما الأولى وأصبحا في معزل عن أحداث المجتمع، حين دأبا على اختيار موضوعات غير نضالية . وقد أثمرت أفكار الدعوة إلى الارتباط بمعركة الواقع العربي ثماراً يانعة، اندفعت معها دفقات دموية نابضـة بالمفاهـيم الواقعيـة في سنوات العقد السادس، ويبدأ سليمان الشطي طرح أولى هذه الثمار في مقاله ) الأديب الكويتي والتجربة ( (3) فيعالج فيه حاجة الأدب الكويتي الجديد إلى ما يمكن أن نعتبره قيمة من القيم الواقعية في العمل الأدبي، وهي خصوبة التجربة بالممارسة الأدبية التي ترتكز على قاعدة فكرية ثابتة الأصول . ثم تتفتح بعض المفاهيم النظرية للواقعية لدى جيل الستينات عندما يدور حوار في النقد النظري بين ثلاثة من كتاب الحركة الأدبية في البحرين وهم محمد الماجد، وعلي سيار، وغازي القصيبي، وقد كانت شرارة هذا الحوار رسالة بعث بها أحد القراء لجريدة ) الأضواء ( يتساءل فيها عن سر انطباع مشاعر الحزن في كتابات كثير من الأدباء الشبان، وقد فجر هذا التساؤل أول صدام أدبي مباشر بين التيار الرومانسي والتيار الواقعي البازغ، فقد عبر محمد الـمـاجـد عـن تـشـاؤمـه الـرومـانـسي الـمـغـرق، ونزعته الفردية الموغلـة في مقالـه ) أدبنا حزين لأننا حزانى ... وواقعنا منبع الحزن ( (4) .. وعبر غازي القصيبي في مقاله )وراء الحزن والصراع ( (5) عن تمجيده لذات الأديب، ونظرته المثالية، حين رفض منذ البداية تحديد دور الأدب وجرد الأديب من مسئولياته إزاء المجتمع مؤكداً أن مناط الأدب في ) ثوبه الفني ( . وأمام هذه الهالة الرومانسية ينبري علي سيار - وهو الذي بشرت كتاباته القصصية في الخمسينات بملامـح واقعيـة - لصـد التيـار الرومانسي في مقالــه ) لا وقت للعبث : حول الأدب الحزين ( (6) فيؤكد دور الأديب في تغيير الواقع، وخلق الصورة الموضوعية لمعالجاته الأدبية حين يقول : ) إن حرية الأديب ليس في أن يقول كل ما يريد، ولكن أيضاً في أن يتحدى واقعه الحزين وفي أن يصمد أمام كل نوازعه الفردية ليخوض تجربة الإنسان بكل أبعادها العريضة (. وتستمر بعد ذلك محاولات عديدة في النقد النظري مؤكدة أن الصياغة الواقعية هي الشكل الملائم لروح هذه الفترة، وهو مما ساعد على تأصيل كثير من القيم الجمالية والفكرية التي تعد من أسس الواقعية الفنية في القصة القصيرة، كالموضوعية الأدبية، والالتزام بقضايا الجماهير وتوعيتها، والدور النضالي الذي يقوم به الأدب في تغيير الواقع . وأمام كل هذه الأجواء تبدأ الموجات الرومانسية في الانكسار والتبدد لتفسح الطريق أمام توغل المفاهيم الواقعية، وانتشار أساليبها الفنية بين غالبية كتاب القصة القصيرة خاصة مع ما كان يرافق ذلك من عمليات استقاء أولئك الكتاب للتقاليد الراسخة للواقعية من القصة الروسية والأوربية والعربية، التي استمدت منها الطرق الفنية في تحليل الظواهر النفسية والاجتماعية . ويمكن لنا أن نسجل ملاحظة لها أهمية خاصة، وتتصل بنمو المنهج الواقعي التحليلي بين كتاب القصة القصيرة في الكويت، ونمو المنهج الواقعي النقدي بين كتاب القصة القصيرة في البحرين، ولا نعتبر ذلك فاصلاً حاسماً في تحديد طبيعة التوجه الواقعي بين كل من الكويت والبحرين بل إنه يميز أسلوب الكتاب في كل منهما بسمات بارزة ترجع إلى تمايز المجتمعين ببعض القسمات الفكرية والاجتماعية .. ففي البحرين ترتبط الواقعية النقدية بنضال حركة القوى الاجتماعية من ناحية، وتنوع الأصول السكانية والثقافية، فيطبعها ذلك برغبة قوية في تحليل التناقضات الاجتماعية، خاصة فيما يدور حول مشكلة الاستغلال الاجتماعي للطبقات الشعبية المسحوقة . وفي الكويت لا يبدو القلق السياسي حاداً كما هو في البحرين، ذلك أن إعادة تشكيل الحياة السياسية بعد إعلان الاستقلال ساعد على إقرار صورة النشاط السياسي بقيام مجلس الأمة، الذي استقطب بعض التيارات القومية الوطنية، وجعلها تمارس عمليات النقد للنظام وجهاً لوجه . وفضلاً عن ذلك فإن الحكومة الكويتية تمكنت باقتصادها الضخم من أن تلتف حول بعض مظاهر النقمة بين الفئات الاجتماعية، وتخمد جذوة التناقضات بما أعطته للمواطن الكويتي من امتيازات اجتماعية واقتصادية قلّ أن نجد لها نظيراً في المجتمعات الأخرى . ومن هذا الواقع بدأ المنحى الواقعي لدى كتاب القصة القصيرة في الكويت يمتاز بمسالمة خفية جاءت إليه من سلطان النظام السياسي المحافظ، ونحن لذلك نجد النزعة التحليلية في قصصهم تتحفظ وتحاذر في الاتجاه إلى تحليل الظواهر الاجتماعية الجوهرية، ولا تلح كثيراً مع مشاكل المجتمع الرأسمالي، ومظاهر الاغتراب فيه، بل إنها تلجأ إلى تحليل التناقضات الداخلية في طبقة معينة، أو شريحة اجتماعية معينة، أو تلجأ إلى تحليل بعض النزاعات النفسية والإنسانية القلقة التي تنمو بجلاء في نماذج من المجتمع المحلي . وبهذا فإن الظاهرة التحليلية هي قوام الواقعية الفنية في الكويت، وإن كان ذلك لا يعني تجردها من النقد، ولكن يظل الهدف الأساسي هو تحقيق أكبر قدر ممكن من التحليل للشخصية أو الموقف أو الظاهرة الاجتماعية، ولا نستغرب ازدهار التحليل الواقعي بين كتاب القصة القصيرة في الكويت، ففي مجتمعهم يبدأ عهد الجامعة، بافتتاح ) جامعة الكويت ( في أكتوبر 1966 التي خلقت جواً علمياً جديداً، وبثت في الأذهان وعياً بضرورة العمل والبحث على ضوء الأساليب العلمية التي ترصد الظواهر وتحللها، وتكشف نتائجها . وليس مصادفة بعد ذلك أن يكون سليمان الشطي - وهو أكثر كتاب القصة القصيرة احتفالاً بالنزعة التحليلية أحد أبنـاء هذه الجامعة الذين تخرجـوا فـي فوجهـا الأول. وإذا كانت النزعة التحليلية لا تبرز هدفاً جوهرياً لدى بعض كتاب القصة القصيرة في البحرين فهذا لا يعني قصور أدواتهم الفنية فيها، فالتحليل يبدو أسلوباً مميزاً في قصص علي سيار قبل أن يبدو كذلك في قصص سليمان الشطي وغيره . كما يظل التحليل مغرياً، ومبهراً، ومثيراً لدى معظم كتاب القصة القصيرة سواء في البحرين أم في الكويت لأنهم جميعاً يصدرون في أدبهم القصصي عن وعي بالتطور الاجتماعي، وإحساس غامر بأزمة الإنسان في مجتمع الخليج العربي، وامتلاك للحس التحليلي الذي يمكن أن يبصِّر وعيهم ويصقل إحساسهم . |