لقد خلقت التناقضات الاجتماعية الناجمة من استغلال الأراضي الزراعية للتجارة العقارية شكلاً من أشكال الاغتراب انفصمت من جرائه تلك العلاقة الروحية العميقة بين الفئات البسيطة وبين الأرض التي يزرعونها، وقد جاءت شخصيات خليفة العريفي في حالة من التحدي والرفض لهذا الواقع، معبرة عن نزعة الإبقاء على تلك العلاقة، فالبطل في قصة (خيط من الدم) (14) يطرد من الأرض فيتعرض للجوع والتشريد . ولكنه يعود ليزحف تحت السور الشائك ليسرق ثمرة عمله، معبراً بذلك عن أن قسوة الاستغلال الاجتماعي الجديد لم تحرر نموذجها اجتماعياً وروحياً من أن يمتلك رغبة الارتباط بالأرض أو التعلق بالحياة .
إن معظم هؤلاء الكتاب الذين نسجل لهم هذا التحول الجلي في النظر إلى الواقع لا نكاد نجد لديهم تغيراً ملموساً في الأساليب الفنية والسردية فقد ظلت طرق التعبير تقترب كثيراً من الأطر التقليدية، ولعل مرد ذلك إلى أن ارتباط بعضهم بالاستمرار الرومانسي لم يكن سوى نزعة عابرة جاءت من أثر البداية التي تجنح غالباً إلى الاغتراف من أعماق التجربة الفردية . وحين تخمرت لديهم الرؤية الواقعية الجديدة كان أكثر ما استحوذت عليه بالتغيير هو موقفهم من المجتمع، لأنه أقرب للتأثر والتشكل مع معطيات الظروف المتغيرة، وهنا يمكن أن تتضح للباحث فروق هامة في تفسير إبقاء بعض الكتاب للأطر التقليدية التي رافقت بداياتهم الأولى، نلمسها مثلاً عند خلف أحمد خلف، وعند خليفة العريفي وعيسى هلال . فالأول يحقق باتساع تجربته وموهبته كيفية الاستفادة من التقاليد الفنية والقصصية من غير أن يخلع عليها أشكال المجاراة السطحية، أو مواقف التحفظ المربكة للعمل الفني، مما جعل تجربته تنساب بتطور ملحوظ سندرك أبعاده الأخيرة فيما سيأتي . في حين تتسم تجربة الكاتبين الآخرين بالضيق في خاصية أساسية وهي كيفية إدراك التحول إبداعياً واحتواء تجارب الحس التطوري في الفن، فالقصة لديهما تجاري صياغة بعض المواقف التقدمية فقط، ولكنها تغفل اقتران ذلك برصانة الأسلوب أو الاتجاه إلى أكثر الأدوات الفنية قدرة على تشكيل الموقف الأيديولوجي، كي لا يضير هذا الموقف بروح الفن . ولعل الاحتفاء بالموقف والإغفال للأسلوب ولصقل الموهبة هما مناط التثلـم الـذي يصـيـب تجربتهمـا، فـنحـن ندرك لديهما النمـوذج الـذي يمثـل الواقـع الموضوعي لكي يبشر بتصور فردي لا جدوى منه في التغيير حدث ذات ليلة) و (ساعات من ليلـة طـويلة ) لعيسـى هلال و (سيرة الجـوع والصمت) و (خيط من الدم - لخليفة العريفي) كما أننا ندرك الفصل التعسفي بين إطار الرمز وإطار الواقع في قصتي (الجدار) و (أصوات عند الفجر)، وهذه كلها أمثلة تدلنا على أن الواقعية لا تستمد تطورها إلا من التجارب الخصبة، ومن الحساسية الإبداعية ومن الارتباط بالتحولات العريضة في المجتمع وليس بموجاتها التلقائية العابرة.
وملاحظاتنا السابقة لا تعيب الإطار التقليدي الذي قد تترسمه الواقعية النقدية بل إنها تعيب التحول المراهق إلى الواقعية من غير ثبات أو نضج في الرؤية الفنية، وهو ما استطاع بعض كتاب القصة القصيرة أن يتجنبوه بأساليب متجاوزة لبعض التقاليد، ومحتوية لعروق الموقف النقدي الواضح، وهو ما نجده في بعض قصص خلف أحمد خلف السابقة وفي بعض قصص أحمد حجيري، وأمين صالح، وكلا الكاتبين ينجذب نحو تيار الواقعية الفنية في الوقت الذي تصطبغ مواقفهما من المجتمع برواسب الاستمرار الرومانسي . ورغم ما توحي به قصصهما الأولى من تذبذب فقد عبرت عن تخمر بعض الوسائل الفنية التي تساعد على بلوغ التصور التاريخي لمرحلة الواقعية كاستخدام رموز التراث في قصتي (مراسيم من مطارح الهجير) و (إيقاعات حزينة ) لأحمد حجيري، أو استخدام صور جزئية من اللاوعي عند أمين صالح. وإذا كان حجيري لم يستطع في تلك القصتين أن يستمد من التراث رؤية واقعية واضحة فإنه في قصة (أمنية شيخ في سجن الخليفة ) (15)، يقدم نقداً للواقع السياسي يعتمد على إعادة النظر في الواقع والتاريخ باعتبار ما يدلان عليه من وقائع تبصرنا بالمعرفة العميقة بالحياة، فهو يجسم نموذجاً من مواقف الصراع مع الأنظمة السياسية من خلال شخصية تاريخية تعود بنا إلى العصر العباسي، حيث تثور هذه الشخصية على الاضطهاد الفكري الذي يفرضه (المأمون) بإجبار العلماء ورجال الدين على القول بفكرة خلق القرآن، وتسخر من ادعاء العدل بصياغة عبارته ( العدل أساس الملك) في حروف من الذهب معلقة في بلاط الخليفة، في الوقت الذي تتعرض للسجن والتعذيب والتشهير بتهمة عدم الإذعان لفكرة خلق القرآن، فتصبح هذه الشخصية صورة حية لنقد الواقع، وعدم مداهنته، إذ أن الكاتب يعبر فيها عما يلجأ إليه أنصار الواقعية النقدية عادة حين (يتوجهون نحو التاريخ ليبحثوا فيه عن تأييدهم لآرائهم في العالم والمجتمع والإنسان، فالتاريخ غالباً ما يبدو لأعينهم وكأنه مجموع من الوقائع التي كان الفنان يستخدمها للتعبير عن موقفه من التاريخ الحي في عصره ) (16) .
ويمكن القول أن أحمد حجيري وغيره من كتاب القصة في مرحلة الواقعية يقدمون لنا إحساساً جديداً بنبض التاريخ لأنهم لا يلتفتون إليه مشيدين بمجد الماضي وبطولته، أو منتزعين منه دروساً أخلاقية بل إنهم يلتفتون إليه من أجل أن يستوعبوا الواقع الراهن، ويواجهوا تناقضاته المستورة ؛ فالتاريخ وسائر رموز التراث لم تعد سجلاً منعزلاً عن الإنسان المعاصر، إنها تتحول من خلال أساليب الفن الواقعي وحيله إلى مفاتيح تهيئ النظر إلى العالم وتستجيب بديناميكية خلاقة لجميع أشكال التأثير المجتمعي التي يعايشها الفنان .
وقد كانت جهود القصة القصيرة في الخليج العربي تكاد تقصر عن الاتجاه إلى معالجة التاريخ لأنها لم تدخل في مرحلة التأصيل والاستيعاب الثري لتقاليد الفن القصصي في مرحلة مبكرة، وقد رأينا - طوال الجهود السابقة - كيف انشغلت القصة القصيرة بمعترك الواقع، وما يطرأ عليه من تغيرات متتابعة، غير أن الوعي الذي تسبقه المرحلة الواقعية الراهنة في الحياة الثقافية يؤكد أن القصة القصيرة تجاوزت انشغالاتها السطحية التي تحتوي مؤشرات التطور والانتقال، ولهذا فإن البحث عن رموز العصر من التاريخ يقترن مع الاتجاه الواقعي النقدي ليكون وسيلة في كشف النقاب عن التناقضات الحادة في المجتمع، وخاصة تلك التي لا يصل إليها الكاتب عن طريق تصوير العلاقات الجارية في الحياة اليومية، ولعل من القصص القصيرة التي دلت على الإحساس بتفاعل رموز التاريخ مع تناقضات الواقع الراهن قصة (الحاجز) (17) لأمين صالح . فالطالب الجريح الملقى في ساحة المدرسة ينحدر من نضال القوى الاجتماعية في حركة عام 1965، عندما انتفض العمال والطلاب في مظاهرات ضد السلطة السياسية، والجانب الذي يبرزه الكاتب في تصوير هذه الشخصية يستبطن طبيعة العلاقة بين القوى الاجتماعية والسلطة السياسية والاقتصادية، فيكشف تناقضاتها بصورة تقدم لنا ركائز الوعي الذي انطلقت منه تلك الحركة . وهنا يجعل الكاتب محتوى الوعي نابعاً من قلب حدث القصة، ومن خلال تنامي الإحساس برمز من رموز التاريخ، فالطالب يتلقن دروس التاريخ في المدرسة التي تجعل من بطش (الحجاج بن يوسف الثقفي) وتقتيله للمسلمين رمزاً لعلاقة أصيلة يجب أن تقوم بين الراعي والرعية، ومن ثم تبدو هذه العلاقة ماثلة أمام وعي الطالب لأنها تتجسم له من خلال معاني البطش التي يفرزها النظام الاقتصادي والسياسي في المجتمع، فحين يعمل أبوه مستأجراً لبستان يأتي أبناء مالك الأرض ليبعثروا الثمار التي أينعت بجهده وعمله الشاق، وحين يترك الأرض ليعمل في الشركة يفاجأ بالاستغناء عنه مع غيره من العمال .
ومن هذا الواقع يتشكل لدى الطالب وعيه الاجتماعي النابض برغبة التحرر من الصمت، إذ ما إن تعلن جموع الطلبة غضبها في الساحة الكبيرة حتى تنطلق تلك الرغبة، ومعها يبدو امتثال الرمز السابق مع تطور جملة المواقف كلها حين أصبحت الجياد والخوذات والعصي الغليظة تحاصر الساحة الكبيرة، ليبدو له صوت الحجاج وسط اللحظة المكتظة بالمواجهة: ( لا تدعوا أحداً يخرج من الباب الآخر ) لا يختلف عن صياح خطبته التي سمعها من مدرس التاريخ : (لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه). وبهذا لم تعد شخصية الحجاج تقوم بتشخيص السلطة فحسب بل إنها أصبحت عاملاً داخلياً يتحرك مع وحدة تحرك الوعي الاجتماعي والسياسي الذي يطلق قيد الارتهان بالواقع دون أن يسلِّم به الواقع الراهن بعد .
ويمكن أن نلاحظ بعد ذلك جانباً آخر وهو أن النزعة النقدية في الواقعية الفنية، إذا كانت قد فتحت العيون لتقبل (تيمات) رموز التاريخ في صياغة مواقف جديدة من الواقع، فإنها تبدأ في النظر إلى الماضي على أنه المساحة الزمنية، الحبلى بالأحداث، ولهذا ينمو لديها تكنيك الارتجاع الفني أو الومض بالماضي Flash Back . بل إنه يجد له عند بعض الكتاب مقدرة بارعة في جعل ذلك الماضي كتلة زمنية مندغمة في الحاضر، وذلك لتؤكد الحضور على ما حدث من نضال، وقد استعمل أمين صالح في القصة السابقة هذا الأسلوب ليكسب مجرى الأحداث الماضية ثقلاً وبزوغاً في الذهن، بل لقد جعل بطل القصة عاجزاً عن الانقطاع عما حدث في الماضي، حتى ليصف ذلك بهذا النحو :
(إن نافورة ذكرياته لم تتعطل، مازالت تعمل، وكأنه ليست هناك صلة أو علاقة بين عقله وبين باقي أعضاء جسده ) (18).
ولهذا ينثال الزمن لا إرادياً، ويمنح في نفس الوقت إمكانية الاشتباك مع الحاضر بعفوية وتلقائية تنبع من سياق حركة الوعي الداخلي، ولا يخفى ما في ذلك من جوانب تسبغ الأهمية والتركيز على المصائر والأحداث ذات الحيوية والثراء، والتي يمكن تأملها من الاتصال بلحظات التحول والإدراك الجديد . بل إنها تدخل في شمولية الموقف النقدي الذي يقفه كاتب القصة القصيرة . ففي قصة (الحاجز ) يوحي لنا أمين صالح بجانب من محتويات تحليله الاجتماعي لأحداث النضال في 1965، حيث جعل الساحة الكبيرة المحاصرة بالحاجز العالي تمثيلاً للعزلة القائمة بين الحركة الطلابية وبين رغبة الجماهير العريضة في المشاركة . وقد أشار الكاتب لذلك حـين وصـف تطلـع تلك الجماهـير بقولـه :
(وتدفق الناس كقطع من الأخشاب يجرفها التيار وتطاولت الأعناق لرؤية ما يدور داخل الساحة، ولكن الحاجز العالي صدم نظراتهم، فماتت هذه النظرات).
ومن هنا كان ( الحاجز ( هو ) الطلاق الذي كان حادثاً بين الجماهير وبين ما أفرزته المدرسة من فئات تحولت إلى مثقفين لم يفهموا طرق الاتصال بالقوى الأساسية في المجتمع ) (19).
وينحو كثير من كتاب القصة الواقعية القصيرة نحو دمج الماضي والحاضر في وحدة ذهنية متحركة، ومن بين من يسوقهم التحول من الاستمرار الرومانسي إلى الاتجاه الواقعي النقدي نحو ذلك الدمج خليفة العريفي، في قصة (الدخول في الدائرة ) (20)، فهو يصور فيها شخصية تخرج من السجن تواً لتواجه ضخامة الإحساس بنضال الماضي، ويكتفي الكاتب بإعطاء هذا الإحساس صبغـة تسجيليـة تكتنز بها الذاكرة حتى ليبـدو الحاضر أمامها فراغاً وسجناً كبيراً.
ويمكن أن نلاحظ بعد ذلك كله أنه إذا كانت النزعة النقدية قد انتهت بعيسى هلال وخليفة العريفي نحو الإبقاء على الأطر التقليدية الجاهزة التي بشرت باتجاه تجربتهما في القصة القصيرة نحو طريق مسدود فإنها بالنسبة لخلف أحمد خلف وأمين صالح تبدو أحد معالم البحث الدائب عن مقولات جمالية مرهفة يمكن لها أن تسيطر بحضورها المتجدد على موقف أكثر صلابة وثباتاً في وعي الإنسان . فخلف أحمد خلف يلجأ إلى تكثيف الواقع بالرمز، وأمين صالح ينشر منذ بداية السبعينات مجموعة من القصص التي تدل على أنه كاتب لا يبقي فنه عند مشارف منتهية، ففي قصة (أصوات) يلجأ إلى الشخصيات المتعددة التي يجمعها موقف زماني ومكاني واحد، ويستشرف من تمزق نظراتها موقفاً اجتماعياً بازغاً، ثـم يحـاول الاستـفـادة مـن مـواقـف الشكـل المسرحي في قصتي (همسات الطيور المسافرة) و (مهزلة تحت ستار ممزق) (21) حتى يصل إلى (الحاجز) فيعبر فيها بلغة قصصية مميزة عن أبعد ما تحققه بداياته من قدرة على نقد الواقع وتحليله . وكأنه يعثر على بداية الموقف الحقيقي للبطل من ظروفه الفردية وظروف واقعه الموضوعي .
ولما كانت النزعة النقدية نقطة توقف عند بعض هؤلاء الكتاب، ونقطة تحول وتجاوز عند بعضهم الآخر فإن من الحق أن يقال بعد ذلك أن الواقعية التي صاغت تلك النزعة لم يتح لها إمكانية التأصيل والامتداد فنياً وأيديولوجياً على يد أولئك الكتاب الذين عرضنا لهم حتى الآن، بل لقد أتيح لها ذلك بقيام جهود موازية ومستمرة لم تستطع التخلص من نَهَم الارتواء والتشبع من الأسس الجمالية للواقعية التقليدية، بل لقد عاشت مكابدة التشبث بها، أو تطويرها في حدود هينة أو بعيدة، وذلك ما سنلمسه بوضوح في قصص محمد عبدالملك وعبدالله علي خليفة، وعبدالقادر عقيل . (22)