القسم الثاني . الفصل الرابع 3
لا تستمد الواقعية النقدية مقولات جمالية ثابتة أو متماسكة من تجارب كتاب القصة القصيرة الذين عايشوا تحول نظرتهم إلى المجتمع من الموقف الرومانسي إلى التصور الواقعي . وذلك لأن تلك التجارب وخاصة عند أمين صالح وخليفة العريفي وعيسى هلال وأحمد حجيري لا تزال تعبر عن مرحلة من مراحل التخمر والبحث عن الوسائل التي تستوعب قضايا العصر، وتناقضاته المركبة . في حين اختلف الأمر كثيراً مع القصة الواقعية التحليلية إذ جاء التحول إليها عند سليمان الشطي، وسليمان الخليفي وعلي سيار تعبيراً حقيقياً لتجاوز ترسبات البداية . وصيغ المواقف الرومانسية المتذبذبة .
ومن هنا استطاعت هذه الدراسة أن تقف مع أساليب مميزة ترسم كثيراً من الأسس الجمالية التي تحدد لنا كيفية واضحة في تطور الاتجاه إلى السرد التحليلي مع ظهور الواقعية، بل إن حرص النزعة التحليلية عند أولئك الكتاب على متابعة وتوظيف السجايا الفنية لهذه النزعة استطاعت أن تؤلف لها بناء ملتحماً بخصائص التطور في المجتمع، وهي التي يمكن تحديدها بالخصائص الناجمة من البحث عن هوية ثقافية للمجتمع تتركب من قيمها الأصيلة والطارئة على السواء .
فإذا كان التأصيل الفني للأساليب والأطر الذي أحاطت به القصة التحليلية قد اقترن بتلك العلاقة الديناميكية بين الرصد الفني للمعاني الداخلية في الشخصيات والمواقف، وبين خاصية البحث عن هوية المجتمع، فإنه - أي التأصيل - مع القصة الواقعية النقدية يبدو أكثر استيعاباً وشمولاً للضرورات التاريخية في سنوات الفترة الثانية، وذلك لأن هذا التأصيل يستمد حرارته ونسغه من البعد الاجتماعي والأيديولوجي للمرحلة الواقعية، ذلك البعد
الذي يحرر لنا بلوغ التصور الواقعي الواضح القسمات في قصص محمد عبدالملك . ونعتقد أن عبدالملك هو أبرز من ترتبط تجربته القصصية بالامتداد الاجتماعي والأيديولوجي في هذه الفترة، مما يجعلنا نعتبره أكثر كتاب القصة القصيرة تأصيلاً للمقولات الجمالية في الواقعية النقدية . إذ ترتكز جهوده في مدى عشر سنوات على تبني الأسس الفنية والنظرية للتراث الواقعي التقليدي الذي ينحدر إليه من اكتشافات موباسان وتشيخوف وتولستوي ونجيب محفوظ، ونحوهم من الذين جعلوا الواقع نفسه موضع الدراسة والتحليل والنقد والتصوير عن طريق النظر إلى الإنسان والمكان باعتبارهما وحدة عضوية تندمج فيها الظروف التاريخية التي توجد لنا صورة كلية أو نموذجية لطبيعة العلاقات الاجتماعية، لقد كان الموضوع الجوهري في نتاج موباسان - مثلاً - هو (وحشية الإنسان في ظل الرأسمالية وفي إعداد هذا الموضوع بتوسع تام كان موباسان ينطلق من وقائع الحياة الموضوعية ويعممها محولاً إياها إلى مظاهر نموذجية للكائن البشري في العالم القائم على الملكية الخاصة (23).
ولقد تمثل محمد عبدالملك تلك المقولة لا بطريق قراءاته وانتشائه بآثار الواقعية ومظاهرها الفنية البارزة عند الكبار من روادها، بل لقد تمثل نبضها الحقيقي في اتصال وعيه بتلك المقولة مع وعيه بالظروف التاريخية التي يمر بها المجتمع في البحرين، فبات ينظر إلى الفن والمجتمع بمنظار يستبصر الواقع، ويرتهن بموقف القوى الاجتماعية، فكما يتحرك هذا الواقع بقوانين واضحة تمليها عليه نظرته الاجتماعية التقدمية . وكما تبدو مصائر تلك القوى خاضعة لمنطق المجتمع الرأسمالي فإن مفاهيمه الفنية تبدو منتهية إلى ما هو محسوم وراسخ في الفن الواقعي . أي أن وضوح التصور الاجتماعي . وحرصه على نمذجة الخواص الوجدانية بين الفئات الشعبية هو الذي يخضع جماليات الشكل القصصي عند عبدالملك لما هو واضح ومسلم به في تاريخ الحركة الواقعية، ومن هذه الوجهة يبدو تأصيل المفهوم الجمالي للنزعة النقدية متواكباً مع تأصيل الوسائل الفنية للنزعة التحليلية السابقة مما يشير إلى تطور كيفي واسع النطاق يقترن مع المرحلة الواقعية في هذه الفترة .
لقد اتجه محمد عبدالملك إلى تحليل الظواهر الأساسية في التطور الاجتماعي، فنظر فيه إلى الإنسان باعتباره وحدة متحركة مع ذلك التطور لأنه لا ينفصل عن البيئة وظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن هنا تبدو التركيبة الروحية والنفسية التي يرصدها عبدالملك نتاجاً للظرف التاريخي، كما تكون شخصياته نماذج لهذا الظرف، أو الواقع الموضوعي الذي يتمثل في حياتها .
إن الشخصية الواقعية (تكون نموذجية حين تعبر عن سوسيولوجيا طبقات بأسرها أو شرائح اجتماعية بكاملها) (24) لأنها حينئذ لا تعكس وجودها الفردي بل إنها تعكس الواقع الكلي الذي تنتمي إليه، بما يتضمنه بناؤها الفني من تحديدات أساسية تؤلف لها ضرورة الإقناع بخصائصها الواقعية، ولقد استطاع محمد عبدالملك أن يستمد أكثر اللحظات مركزية وتحديداً في حياة نماذجه البشرية عن طريق استخراجها من بؤرة الانسحاق الذي تتعرض له، عندما تكون تحت وطأة مشكلة الاستغلال الاجتماعي، أو تعيش فظاعة استهلاك إنسانيتها حين تتآكلها قوانين المجتمع البرجوازي الجديد، ومن هنا تخرج شخصياته وهي تعاني أبعد صور الإجهاد والتمزق، لأنها تكون مستغلة اقتصادياً واجتماعياً، ومستهلكة إنسانياً وروحياً، وذلك وضع يجعلها محتوى حقيقياً للمشكلة الاجتماعية الكبيرة التي يرتكز عليها بناء المجتمع بنظمه الاقتصادية .
ويطرح محمد عبدالملك ذلك في مجموعته (موت صاحب العربة) التي صدرت عام 1972، و (نحن نحب الشمس) التي صدرت عام 1975 حيث نجد كل قصة من قصص المجموعتين تثير ذلك المحتوى في شكل معاناة أو استجلاء أو تساؤل أو احتجاج أو رفض أو تمرد أو مواجهة أو ما شابه ذلك من أشكال المعالجة . ويجد الكاتب أخصب دلالات الإجهاد والاستهلاك في الطبقة الاجتماعية العريضة ذات الامتداد التاريخي البعيد والوجدان الاجتماعي والنفسي الذي ينطوي على إيحاءات مثابرة، وخواص إنسانية عميقة . فهو ينتخب نماذجه بكل ما يتجمع حولها من تقاليد إنسانية مألوفة نابضة بحرارة وجودها في جميع ما تكون عليه من أوضاع أو طباع : صاحب عربة - عامل الشركة - الناطور - الفراش - الزبال - العاطل - السجناء - السكارى - المنبوذين المجانين - العجائز الذين فقدوا كل شيء، وبذا يتحكم الكاتب فيما يمكن تسميته تكنيك النماذج البشرية . فيجعل استجلاء كل مظاهر الواقع الاجتماعي مرهوناً بهذا التكنيك، وبقدرته على النفاذ إلى أعماق الشخصية، فالواقع الذي ينشده ويبحث فيه هو واقع الإنسان مؤلفاً من وضعه الطبقي الذي تحدده حركة المجتمع وتموجاته المستمرة . وكأنه يؤمن أن السياق النفسي والاجتماعي للإنسان هو الشكل الأقدر على طرح تساؤلاته الصدامية مع الوضعية الاستغلالية في المجتمع. وبذلك بات يغذي شخصياته بتلك القدرة على الإحساس بهذه الوضعية التي تجعلها عادة نماذج بشرية مستنكفة، لا تعدم السؤال والبحث عن حقيقة وضعها الاجتماعي، ونجد ذلك الإحساس منذ قصصه الأولى كقصة (الصمت والشقاء ) (25) التي يصور فيها وعي الشخصية بمكابدتها وعنائها من خلال ما يجول في داخلها من أسئلة فطرية تتخلق بضغوط الواقع ومظاهر الحرمان الشديد، فالتلميذ الفقير يواجه الشقاء والاضطهاد في المدرسة وفي البيت، في الوقت الذي يرى امتلاء الحياة وترفها في مظاهر كثيرة تحيط به، فهو يقطع طريق المدرسة مشياً على الأقدام، ويرى غيره يركب الدراجات، وهو يرى (نبيل) ابن الأغنياء ينزل من سيارة فخمة بحقيبته الجلدية ووجهه الأحمر المتورد، فيتذكر وجه أخيه (بخيت) و (بول الشيطان)* في رقبته ليتساءل على هذا النحو : (إذن لماذا يبول علينا الشيطان نحن كل ليلة ... ؟؟).
ويظل الكاتب يتابع مظاهر الاستنكاف والحرمان الشديد الذي ينتهي به إلى السقوط بسبب سوء التغذية . وفي قصة ) المطر الحزين) (26) نجد مظاهر الحياة الاجتماعية المدقعة تمر بآثارها النفسية والروحية في حياة طفل فقير، فيجعله دائم السؤال : ( لماذا نحن فقراء معدومون يا أبتي ؟ (. ولا يبدو السؤال الذي تطرحه هذه النماذج المجهدة مناط المواجهة والعداء للمجتمع البرجوازي فحسب بل أن التركيبة الاجتماعية في النموذج بما يشتمل عليه من صياغات ميلودرامية تبدو محتوى عميقاً لنقد قيم المجتمع، وتعرية أشكال الاستغلال الاجتماعي . ولعل مما يساعد الكاتب على ذلك هو الاهتمام الكبير الذي ينصبه لخلق التفاصيل الواقعية . إذ يتضمن مفهوم الواقعية النقدية عادة أن يكون نسخ الصور (الكابية) للواقع الخارجي موظفاً مع أيديولوجيتها التي تساهم في نقد الواقع الاجتماعي وتحليله . لأنه حينئذ يحقق لها قيماً جوهرية يقوم عليها انعكاس الواقع الموضوعي في العمل القصصي، ولقد كان جورج لوكاتش يرى أن الصورة الوافية لهذا الواقع في التفصيل الوضعي (تعتمد على موقف الكاتب من الواقع ككل . لأن هذا الموقف يحدد الوظيفة المعينة للتفصيل الواحد في إطار الكل، فإذا تناوله الكاتب بشكل غير نقدي قد تكون النتيجة طبيعية متعسفة ( كذا ) ... حيث أن الكاتب لن يكون قادراً على التمييز بين التفصيل الذي له دلالته والتفصيل الذي لا صلة له بالموضوع) (27)، وينطبق ذلك على تصوير محمد عبدالملك للنماذج البشرية بتفاصيل تصدر غالباً من الواقع الخارجي، حيث نجد أنها كلما اقتربت من الكشف والإفصاح عن براثن المجتمع الرأسمالي أصبحت قيمتها الفنية ألصق وألزم برصانة التصوير الواقعي، وبتجسيد النظرة التقدمية أمام مظاهر الوجود الاجتماعي . بينما حين تبتعد عن ذلك الكشف والإفصاح تتضاءل قيمتها بل إنها تصبح فوتوغرافية الإدراك، تمتد لما هو عشوائي وما هو أساسي على حد سواء .. الأمر الذي يباعد بينها وبين عملية الإبداع في فن القصة القصيرة .
ونعثر على جوانب من عشوائية التفصيل الوصفي في قصص (مذكرات سجين) و (المرحمة) و (الحارة الملعونة) و (الحصان الأبيض ) و ) سعد سكران )و ( خمارة الجرذان) و (أفواه جائعة). ففي هذه القصص نجد اهتماماً شديداً بتصوير الواقع اليومي الرث، وما يثيره من إيقاعات حزينة متشائمة تبث أشكالاً عديدة من الحرمان والموت، وكأن الكاتب في هذه القصص يشعر بنشوة الالتصاق مع مظاهر الفقر والعدم في حياة الطبقة الفقيرة، ويقترب من النبض الوجداني الإنساني في هذه الطبقة . ولهذا يصف حياتها بدقة شديدة، وحين يتجاوز الوصف قليلاً لا يكاد يبلغ غير صور من النجوى والشكوى التي تبتعثها ضغوط الحياة المدقعة .
وتصل نشوة التفصيل الوصفي بالكاتب إلى الحد الذي يبعد عنه الاهتمام ببناء الشخصية، وتحليل أهوائها وإقامة علاقاتها مع سياق الحدث الفني من جانب والظاهرة الاجتماعية من جانب آخر، فنجد في قصة (الحارة الملعونة) (28) حشداً من التفاصيل والملاحظات الجزئية العابرة التي تمر بها حارة الفقراء . وينتقل الكاتب بين أكثر من شخصية ليلمس منها ثيابها المرقعة، ونعالها الجلدية البالية، وتبادلها للنكات، وانهماك حياتها في فقر مستمر، وبين كل ذلك لا نكاد نجد اهتماماً يسيراً بتنظيم الوصف وبناء السرد وتأليف دلالاته على نحو فني .
(مذكرات سجين) (29) ينشرها الكاتب في ثلاثة أعداد من جريدة (الأضواء) لتبدو لنا عبارة عن ثلاث قصص قصيرة تستقل بعناوينها (مقبرة الأحياء) و (ليلة جابر) و ( خضرة ). كما تستقل بجريان تفاصيلها اليومية ونماذجها البشرية المطحونة، ولا يربط بينها سوى شخصية الراوي الذي لا يقوم بوظيفة الربط للتفاصيل والأحداث والشخصيات، بل إنه يملي على الكاتب تمركزه وقدرته على العرض والرواية. وكما جعل عبدالملك التفاصيل اليومية في (الحارة الملعونة ) و (سعد سكران) تقدم نماذجها من غير أن يدل وجودها الاجتماعي الغث على ارتباط بالظرف التاريخي فإنها في تلك المذكرات لا تختلف عنها إطلاقاً، بل لقد أتاح أسلوب انسياب السرد على لسان الراوي إمكانية واسعة في الالتقاط، وتوجيه أسلوب الوصف نحو ما يثير جو الاستهلاك اليومي الممض بين جدران السجن . لقد جمع في هذا المكان نماذج اعتبرت خارجة على القانون في حين أنها لم تخرج عن دائرة إنسانيتها، لأنها تظل نماذج راقية الشعور، ضافية النجوى رغم شظف الحياة وقسوة السجن وأمراضه، ثم تتكرر تفاصيل الحياة في السجن في قصة (المرحمة) (30) التي تسجل ملاحظات يومية رتيبة لانتظار سجين يوم الإفراج، ولا ترتبط الملاحظات التفصيلية بالواقع الاجتماعي قدر ارتباطها بالجدران الأربعة، فهي مهما تبلغ من الدقة تظل مشكلتها الفنية في غياب دلالتها الاجتماعية .
ولا شك أن العشوائية التي اختط بها عبدالملك سيرورة الوقائع والتفاصيل الكثيرة لها صلتها بعشوائية البداية في تجربته مع فن القصة القصيرة لأن معظم تلك القصص التي أشرنا إليها كتبها مع بداية عهده بهذا الفن، ولكن عبدالملك في هذه البداية يسجل لنا انتماء أسلوبه القصصي إلى كثير من منطلقات الواقعية النقدية رغم الحزن الرومانسي الذي تنطوي عليها شكوى النماذج وأحوالها المشقية .
ويبدأ الكاتب بعد ذلك في الاستفادة من تطور الوعي الاجتماعي والفني فيستمد منه ما يبث لديه القدرة على رصد الظاهرة الاجتماعية واستجلاء حركة الواقع من خلال النماذج المجهدة، وما يجول في حياتها من مشاهد وتفاصيل، ففي قصص ) موت صاحب العربة ( و ) عندما توقفت آخر سفينة ( و )أفواه جائعة( و ) عازف السكسفون ( و ) إنهم يرقصون ( تتضح ملامح الحدث الاجتماعي لأن التفاصيل الواقعية أصبحت تلقي لها ظلالاً مميزة لا تفصل النموذج عن علاقاته الاجتماعية بل تقيم له بناء ملتحماً مع الواقع الموضوعي، ولذا تدور وسط أحداث حاسمة تتجمع حولها كثير من القيم التأملية ذات المغزى العريض، أو تتجسم منها مصائر تثير لدينا نظرات الاشمئزاز والعداء لعوامل الاستغلال والاستهلاك في المجتمع . وخلال ذلك تبدو روائح الحزن والتشاؤم والإغراق مع مظاهر الأسى نوازع لابد منها، لأنها تساير سلطة الحدث الكبير الذي يهيمن على الحياة، فالعامل في قصة ) عندما توقفت آخر سفينة) (31) يواجه قرار الفصل من الشركة بعد ثلاثين عاماً من العمل لتقتحم أعماقه مشاعر اليأس والموت والإحباط . ) لقد انتهت الحياة فأين من يهبها من جديد ؟ أين من يهبها من جديد ؟ (، ولكن هذه الأعماق المنتهية ليست سوى الحدث المنبث من عملية الموت البطيء واستهلاك المجتمع المتولد عن أنظمة رأسمالية جعلته إنساناً مستغَلاً منذ سنوات العمل في ( الغوص) إلى أن انتقل للعمل في الشركة، وحين يرجع الكاتب إلى التفاصيل التي يصف فيها عناء الشخصية ودورانها مع عجلة الإنتاج في رتابة قاتلة تبدو لنا الجوانب التأملية التي يسبغها الحسّ الاجتماعي والفني، إذ يصف الكاتب ما يمر به عامل الشركة من إجهاد ضمن ملاحظات يومية تغمس دلالتها في روح الحدث الكبير وهو استهلاك حياة العامل، واستلاب طاقاته ليكون بعد ذلك صورة تثير الانكماش والاحتقار في وجه رئيس عمله .
وتبدو غربة الطبقة الفقيرة في قصص محمد عبدالملك قاسماً مشتركاً لنماذجه المقهورة، وخاصة تلك التي تمثل الشريحة العمالية في المجتمع، ففي حياتها تنطبع ردود فعل بشعة لقوانين المجتمع البرجوازي ينتقد الكاتب هيمنتها ومظاهرها النفسية والروحية . وفي قصة) خمارة الجرذان) (32) يبدو اغتراب هذه الطبقة مؤلماً في النفس لأنه يجسم صورة مأساوية لما تعيشه من استغلال، ويبدو باطن ذلك الاغتراب فيما تجمعه (الخمارة ) من نماذج يختلف سلوكها بين الوعي واللاوعي ليعبر عما تختزن به آلامها من روح النقمة والعداء لأصحاب الملكية الخاصة . فمع الضحك والتهريج يصرخ أحدهم (ارفعوا أصابعكم، ارفعوها في عيون المقاولين فعندما تضعون أصابعكم على الزناد تولد ثورة.. هاء هاء .. هاء ). ثم يصرخون جميعاً بين موجات الضحك ) يسقط المقاولون.. يسقط المقاولون ( فهم جميعاً يشعرون بالنفي والعزلة لأنهم يجدون البلاد تمتلئ بالعمارات والطوابق العالية، والطرق التي يشيدونها مع وطأة استغلال المقاولين لإنسانيتهم وإمكانياتهم .
إن التفاصيل التي يرصدها الكاتب في سلوك هذه النماذج تثير التأمل الهادئ الصافي الأسرار للأوضاع الاجتماعية الموازية لوجود الشخصية، ويبدو ذلك التأمل منصباً على حياة الاستهلاك في مجتمع يلاحق مظاهر التقدم الرأسمالي، فيجعل وحدة الإنسان ونفيه في عالم حافل بالتغير حقاً، ولكنه حافل أيضاً بالتفكك وتمزق الأواصر، ولذا ظلت نماذج عبدالملك تلفظ الأنفاس من غير انتهاء، ودون اكتراث الآخرين . وذلك من أثر النموّ المطرد للاستهلاك، حتى ليجعل الكاتب نماذجه مندحرة أمام هذا النمو بمجرد الاحتكاك بالمدينة باعتبارها ملتقى ارتكاز المجتمع البرجوازي، كأن يبدو (عبدالقادر) في قصة (رجل من نفايات المدينة) (33) يعيش على المسألة بعد أن أصابه المرض والجوع، وأصبح أحد الأشياء التي تستهلكها المدينة في ركون واستسلام من غير أن تعبأ بإنسانيته . أو كأن تبدو هذه المدينة معنى من معاني التناقض الاجتماعي في قصة (أُفواه جائعة) (34) . فأبو صالح وابنه ينحدران من أسرة قروية رقيقة الحال، ويذهبان كل يوم إلى المدينة (المنامة) ليطلبا من مال الله . ولا يكادان يدخلانها حتى يشعرا بتناقضات الحياة وقسوتها، ولا نجد خلال هذه المشاهد اليومية حدثاً فنياً متوحد السياق بالمعنى التقليدي بل نجد صوراً مشهدية تمتلئ بالدلالة وتلتصق بالتناقض الاجتماعي الذي يجسم مصيرها وخاصة مع اصطدامها بعنف المدينة كما يعبر عنه هذا الحوار :
( أبوي ...
ويدير العجوز رأسه ..
- نعم ...
- هل أهل المدينة أغنياء ... ؟
- نعم يا ولدي .. ألا ترى .. إنهم يذبحون الخرفان كلما حلا لهم ذلك .
- أبوي ..
يقولها وهو يعدو خطوتين
- وهل يأكلون التفاح أيضاً ... ؟
- نعم يا ولدي .. بعد أن يرفعوا قشوره .
- أبوي ...
- هس ... هس يا صالح !
ويتوقف صوته وتتراجع قدمه للوراء ...
- أبو ...
- هنا في المدينة يقطعون اللسان ... حذار أن يسمعك أحد يا ولدي ... !
ويمضيان يخطوان معاً ...) (35)
ولا ريب أن هذه الصورة السردية المبنية على جماليات الحوار بما فيه من تتابع وعفوية وتلقائية تشع بمغزى نقدي كبير لما يظهره المجتمع من صفاقة الانقسام بين فقراء وأغنياء المدينة، فهو بعد ذلك الحوار يصور ليلة العيد في القرية، وكيف تستقبله بأفواه جائعة وأغنيات حزينة في حين يسكر فيها (أغنياء المدينة حتى الصباح ويعطون زوجاتهم هدايا من ذهب ).
لقد انحدرت النماذج السابقة من مقت الواقع، وقذف بها الكاتب في فجوة عميقة من عدم الانسجام، ولذا فإن تفاصيل الرصد والمتابعة لمواقفها في قاع المجتمع تستخرج لنا أشكال النجوى والمجالدة والاحتجاج مع ما تثيره من نقد وسخرية، ونجد ذلك غالباً في القصص التي تجاوز الكاتب فيها رؤية التفاصيل في انتظامها الساكن المتكلس، وهو ما يحققه الكاتب مع وضوح موقفه الاجتماعي، وعدم ارتكازه على مجرد التعاطف العفوي . إذ تبدأ نماذجه المجهدة في البحث عن نزعة داخلية تحقق بها مواجهة الواقع والرغبة في تغييره من غير أن تقيِّد وعيها بالتسليم لما هو كائن . ففي قصة ) عازف السكسفون) (36) يطلق صيحة الاحتجاج منذ ولادته، ويعيش مع الفقراء المعدمين في منطقة ) العدامة ( فيدرك وضعه الاجتماعي المطحون منذ وقت مبكر، ويبدأ في طرح الأسئلة الكبيرة حين يختلط بأولاد الأغنياء في المدرسة، وحين يتركها للعمل وهو في الثانية عشرة يدرك حياة العمال وتعبهم واستياءهم، ولكن ماذا يغيرون وهم مقهورون، لقد قال له أحدهم حين تتفتح عيونه على مظاهر الاستلاب : ( لن تستطيع أن تغير حقيقة هذا العالم وحدك اليد الواحدة لا تصفق إنك تفعل الكثير وترفع يدك وحدها في الهواء وهذا لا يجدي .. ). ولكن عدم الجدوى التي يهوى فيها الإنسان المعدم لا تنهي نبض الإرادة، فهو يتصل بروح وجدانية تشكل رغبة التغيير في داخله، وتحتضن حلم الفقراء جميعاً حين يعانق آلة السكسفون ويعشقها لأن لها صوتاً يعدو معه في عالمه الكسيح الموجع، تتراءى منه قوة قادر ة على دفع الجموع وتحريكها حتى إنه يقول :
) لقد حلمت بها ذات ليلة . كنت أنفخ فيها وشعري أبيض، وظهري محني للأرض وتجمع كل الفقراء من حولي قادمين من الجهات الأربع، كان مجرد حلم سيأتي يوما ما ).
ولا تختلف هذه النجوى الداخلية عنها في قصة ) ولكنهم يرقصون) (37) سوى أنها تنبعث في هذه القصة من حيِّز مفتوح على أبعاد نفسية ومكانية بصورة توحي لنا أن الكاتب ربما كتب القصة بعيداً عن وطنه، إذ تنعكس فيها كثير من مشاعر الاغتراب والحنين إلى الوطن، فهي تدور حول ذلك الذي هرسته طقوس الغربة والنفي، وحرقت له أعصاب الصبر، وباتت تفاصيل واقعه الاجتماعي والنفسي تلصقه بالهواجس الكبيرة نحو بلاده، يستنبطها بضمير يهتف بنجواه الداخلية واندماجه الروحي مع الموسيقى . فقد ) كان يتآكل معها حتى ليجرفه الاشتياق لنزول الحلبة .. ليطفئ هذا الوهج اللاسع القاسي برقصة لا تخلو من عنف وتحدي واحتجاج على الحياة (. وحتى رفاقه في الغربة والنفي، ) يرقصون ولكن بعنف لكأنهم يعبرون عن رغبة كاسحة لتحطيم كل ما حولهم وما في العالم كله ).
لقد بدأ محمد عبدالملك ينظر إلى القضية الاجتماعية من زوايا الوعي الاجتماعي والوجدان الشعبي الذي يمتلك الإحساس المتوقد بالواقع، ولذا أصبحت أحلام نماذجه وأمانيها لا تنشد الهروب، أو الانتحار، أو الانطواء ولكنها تجول مع مجالدة الواقع، وتحمل أرزاء قوانينه المجحفة لتجعل من ذلك إطلاقاً لصيحات الاحتجاج، واستنباطاً لتوالد رغبة التغيير من ضغوط الواقع نفسه، ومن امتداد لحظات الاصطدام والصراع مع الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية .
ولعل من دلالات الوعي السابق أن نماذجه تزداد التصاقاً وارتباطاً بالواقع مع تراكم أثقال الاستغلال والاستهلاك . فتلفظ الأنفاس الأخيرة وهي أكثر اتصالاً بحلمها ووعياً بمصيرها، من أجل ذلك كانت معظم نماذجه السابقة تنطوي على إحساس جمعي بالاحتجاج، يترسب في وجدان الطبقة الفقيرة وحدها، ويعبر الكاتب عن طبيعة اتصال نماذجه المجهدة بالواقع في قصة (عازف السكسفون) حين يقول :
(كانوا مستائين من حياتهم ولكنهم كانوا مجبرين .. ليس من طريق للناس المتعبين من العمل والموت البطيء .. أو الموت المباشر ).
هذا هو خيار مجالدة الواقع وسبيل الاحتجاج أمام روازح الاستغلال .. إنه خيار يخلق مصائر الموت ومظاهر الميلودراما من غير أن نجد فيها ابتعاداً عن حقائق الواقع، ولعل قصة ( موت صاحب العربة) (38) من أكثر القصص تجسيداً لذلك الخيار . فالبطل يأكله تعب السنين التي يجرها مع عربته في السوق كل يوم، فيتساقط إعياء وشقاء حتى جاء فيه يوم (تهالكت قدماه على الأرض، وأفلتت العربة من يده فسجد بين يديها في استسلام ) وأخذ يسأل الناس فائض سعادتهم أمام المسجد حتى مات في بيته ميتة شنيعة بدا القيء في وجهه والديدان الكبيرة فوق صدره، فقد كان يعيش وحده ولم يكترث به الآخرون إلا بعد أن تحول إلى جثة متعفنة .
ويجد الكاتب بين هذه الوقائع أعمق السمات في مكابدة الواقع والالتصاق به، ففي الوقت الذي تكون الشخصية محتوى يضج بمعاني الاستهلاك والاستلاب اليومي في حياة الطبقة الفقيرة، تكون أيضاً علامة احتجاج ونقد واستجلاء الواقع، ولقد بلغت قمة انتشاء الكاتب بموضع هذه الشخصية وحيزها وحساسيتها الشعبية حين جعلها تمثل ضمير الواقع الذي غاب عنه في سنوات عمره، فيصرخ البطل بضمير المتكلم في نهاية القصة معززاً عبر هذا الضمير رؤية الكاتب ورغبة البطل في أن يواصل العيش :
(أطلب الفائض يا سادة .. فائض سعادتكم .. بعض الهواء أستعيش به، لقد انقطع نفسي كما ترون وما عاد صالحاً لشيء... لقد دفعت العربة سنين طويلة وما عاد بوسعي عمل شيء الآن، أعتقد أنكم تعجزون عن دفعها وأنتم في ريعان شبابكم ... هل حاولتم دفع عربة كبيرة يا سادة .. حاولوا ذلك فقد تكتشفوا (كذا) الحقيقة ...) (39).
وبهذه الصورة تتعاضد رؤية الكاتب في صياغة الشخصية المجهدة من أجل استجلاء الحقائق الجوهرية وراء التناقض الاجتماعي، فيبدو راصداً لخطأ قوانين المجتمع ومواضعاته المترسبة من فجوة الانقسام الهائل بين الناس، كما يبدو ساعياً وراء الخصال النفسية في الطبقة العريضة ليبرز أثرها ودورها وإنسانيتها من بين ما هي مغمورة به من تفاصيل الواقع، وتراكمات الظروف التاريخية.