القسم الثاني . الفصل الرابع 4 لقد كانت النماذج المجهدة في القصص السابقة لمحمد عبدالملك تعبر عن أثر البعد الاجتماعي بوجه خاص في تأصيل أسس الواقعية الفنية، فقد خرجت أمامنا بحقيقة مؤداها أننا يمكن أن ندرك التصور التاريخي للمجتمع من خلال تبني الانتماء إلى الطبقة العريضة، والبحث في سماتها الرفيعة التي تجالد بها تناقضات الواقع. ولم يسلم موقف تلك النماذج من معاني الخضوع والتسليم بالواقع الراهن وإن كانت هذه المعاني تعتمل في كثير من القصص مع نزعة داخلية تجنح نحو الرغبة في التغيير. ولعل هذا ما جعلها تشكل تيمات تقتصر على نقد الواقع وتصويره، كما جعلها منضوية في الطور الأول للواقعية النقدية ليس عند عبدالملك وحده بل بين مختلف جهود القصة القصيرة منذ أواخر الستينات عند سليمان الشطي، وسليمان الخليفي، وخلف أحمد خلف، وعلي سيار، وغيرهم.. في حين يمكن أن نتمثل طوراً آخر يستمده كتاب القصة القصيرة في البحرين - بوجه خاص - لا من البعد الاجتماعي فحسب بل من الامتداد الأيديولوجي، ومواقف النضال الوطني الذي انتظمت في صفوفه طبقة اجتماعية جديدة نابعة من بين طلاب المدارس والجامعات بما لهم من جذور شعبية صاغت لها نسقاً خاصاً ورؤية خاصة لدى طائفة منهم . وبما اكتسبوه من طموح صنع واقعاً برجوازياً لطائفة أخرى . وهذا يعني أن منطلقات الواقعية عند محمد عبدالملك لم تعد تركن إلى شغف الاتصال بواقع الطبقة الفقيرة وما يضج به من هموم يومية بل أصبحت لها ركائز مركبة تحيط بالظروف الواسعة التي ساهمت في تطور القوى الاجتماعية. لقد أصبح عبدالملك بوعيه لهذا الامتداد أمام نماذج تؤلف جميعها الموقف التقدمي من المجتمع، سواء كانت مستمدة من مواقعها التقليدية الرثة أو من مواقعها الجديدة التي تعبر عن مشاكل المثقفين وخاصة مع الجهر بالانتماء إلى حركة القوى الإجماعية، إنها تجتمع - أيديولوجيا - في لحظة درامية واحدة تواجه بها السلطة السياسية والاقتصادية، أو تواجه الإرهاق النفسي والفكري الذي تحدثه مشاكل النكوص والخيانة بين المثقفين . وهذا يعني أن التكنيك الفني عند عبدالملك بات يتجه إلى تحليل الظواهر المربكة في تطور القوى الاجتماعية، ويستمد نسغ الموقف وخصائصه المنفردة من ذلك الملتقى التاريخي الذي يجمع بين الوعي الاجتماعي والسياسي، وبين تطور أنظمة المجتمع نحو التبعية وإن احتفظت بأشكالها التقليدية . ونستطيع أن نلمس ملامح - النمذجة - التي يدركها الكاتب في شخصياته التقليدية الرثة في قصص - أحمد الناطور - و - زمن - و -الشيخ الذي يضحك- و - في القرن العشرين - و - انتظار - . ففي هذه القصص يستمد الكاتب الأحداث من مجد القوى الاجتماعية في حركة 1965، ويستبطن ما أدت إليه صور النضال الجمعي الذي التحمت فيه الفئات الطلابية مع الفئات الشعبية البسيطة، ففي قصة - أحمد الناطور - -40- نجد بطل القصة نموذجاً من النماذج المسحوقة، يجسد صورة الاستهلاك اليومي الذي جعل الأيام تمر عليه بتعبير الكاتب - كخيط طويل ليس له انثناء في النهاية - ويرصد الكاتب من خلال هذه الشخصية كيف تتحول المعاناة لذلك الاستهلاك إلى وعي نضالي يتسم بالفطرة والعفوية، وكأن الشخصية تتحول فنياً من كونها موضع الفعل -الاستهلاك- إلى كونها محتوى للفعل ورد الفعل معاً، ولذا اتجه الكاتب إلى متابعة التفاصيل الخارجية التي تحيط بالعم أحمد الناطور، حتى أصبحت القصة بمثابة حوار بين الواقع اليومي الغث، وبين الوعي الداخلي النابض بفعل جديد . بل إن السرد والوصف التفصيلي للمحيط الخارجي - الطبيعة - يتحول بشفافيته الشعرية إلى أحد السبل المعمقة لهذا الوعي . فندرك مع أحد جوانب ذلك الوصف أن العم أحمد لن يفلت من حركة الفعل القادم، فهو يقف أمام بوابة المدرسة في حين كانت السماء تبدو مبللة الخدين بسحابات خفيفة كليلة.. حزينة العينين ... يقظة مترقبة لما ستحمله الدقائق والساعات من أمور تجول منذرة هنا وهناك، تتحدى الناس إن كانوا يستطيعون ألا يعبروا عما تختلج به نفوسهم وما تخفيه الصدور... وكانت مباني المدينة وأناسها وشوارعها كمن يستعد لأمر ما في صمت ولكن في استعداد لا يخلو من ريبة -41- . ثم يصور الكاتب كيف يعتمل انتماء - الناطور - والطلاب لموقف واحد، فالعم أحمد يرى في هؤلاء شيئاً رائعاً يثير إعجابه، كما أنهم يرونه كباقي الناس تسكن الطيبة قلبه وقد تستيقظ يوماً ما، وحين قال أحدهم - دعنا نبحث لك عن حياة أفضل أيها العم الكسول .. - يزداد - الناطور - اقتراباً منه، فمع قيام الأعلام واللافتات وتدفق أجساد الطلبة يجد نفسه مردداً : - إنهم يقولون عين الصواب هؤلاء الأولاد الأعزاء .. وينشدون المساواة أيضاً - حينها يكون مرفوعاً على أكتافهم يبكي منتشياً بما حدث له . لقد استحال نموذج الشريحة الاجتماعية المجهدة إلى بعد من أبعاد الموقف من الواقع دون أن يعني ذلك انضواؤها مع نموذج البطل الثوري، وذلك لأنها تظل في مقاومتها ورفضها للواقع تشكيلاً لردود فعل النظام الاجتماعي وأحكامه المفروضة، فهي مجرد محتوى للنقد والرفض لأشكال الوصاية الاستغلالية لأنها لا تصطحب معها أهدافاً واضحة المعالم غير ما يجول في حياتها من احتجاج ونقمة، وهذا ما يفرق بينها وبين شخصية - الأم - لمكسيم غوركي، الشخصية التي يبدو الكاتب مستهاماً بها مشدوداً إلى بعض صياغاتها في - أحمد الناطور - . وتعود إلينا شخصيته السابقة في قصتي - زمن - و - الانتظار - لتؤكد نظرتنا في أن النماذج التقليدية المجهدة في قصص محمد عبدالملك لا تستوعب موقف البطل الثوري بقدر ما تستوعب موقف الاحتجاج والنقد للواقع فحسب . فإلحاح - مظلوم - في قصة - زمن - الذي ينهي ابنه عن المشاركة في مظاهرات الطلاب لا يتمالك نفسه حين يرى الجموع تعلن غضبها إلا أن يندفع معها مطلقاً صيحة - الظلم هو الجوع -. وحين يطلق الرصاص يفقد ابنه ولا يذرف عليه دمعة واحدة، ولكنه ينعزل في المقهى مع كركرة النارجيلة ولا ينطق سوى بكلمة واحدة - زمن - ... إن الحاج - مظلوم - بتسميته وصرخته مع الجموع - يسقط الظلم - إنما هو استنكار للواقع بما فيه من ظلم، وجوع، واضطهاد . وما كلمة زمن هذه التي تترسب في أعماقه ويرددها بلا وعي إلا تجسيم لرفض كل تراكمات الظلم المستوعبة عبر تراكم الزمن . إن هذه النماذج تقدم لنا إحساساً قوياً بالنقمة والعداء لكل ما يحيط بها من خلل في التركيب الاجتماعي، لأنها تظل كما كانت في القصص الأولى ضمائر تدق بعنف شديد على أكثر انحرافات الواقع نكوصاً وتحللاً، بل إن عبدالملك بما يودع فيها من ملكات الإحساس والشفافية يجعلها في قصة - في القرن العشرين --42- مرآة عاكسة لتحلل الواقع البرجوازي بالخيانة والانتهاء ... إنه يستلهم الأحداث الوطنية المواكبة لحركة الواقع فيجمع بين شخصيتين تلتقيان في الماضي وتفترقان في الحاضر، أو تفرقهما مصالح الحاضر ونكوصاته، فالرجل العجوز أعطى بلا حساب أيام - الغوص - ثم في - الجبل - مع شركة بابكو . ثم في البناء . يدخل على الموظف الكبير في الوزارة يطلب العمل، فيكون هذا الموظف هو الصبي الذي كان يهتف يوماً ما - المجد للوطن - في انتفاضة 1965 لتسقطه رصاصة في الساق، وليضمه ذلك العجوز - عثمان - الذي كان يتتبع جرحى المظاهرات . وليضمد جرحه وينقذه . ويكشف لنا هذا الموقف بما ينفرد به من خصائص درامية شكلاً من أشكال الخيانة التي كلفت طائفة من المثقفين كثيراً من الإرهاق النفسي والفكري، وجعلتهم عرضة للمراهقة والتحول إلى طبقة برجوازية يتعاضد تحللها مع مصالح المجتمع البرجوازي الجديد . لقد جعل الكاتب نموذج المثقف -المرتد فكرياً - وجهاً لوجه أمام العامل الكادح الذي اجتمع به في مواقف الانتشاء بالوطن، فأصبح بذلك في مواجهة مع الماضي العزيز ببطولته ومجده، وفي حين يقف ذلك العجوز شامخاً بكبريائه واعتزازه بالماضي يكون الموظف الكبير إنساناً آخر ينتظر الحفلات الوردية مع النساء، ويقدم الخدمات المشبوهة لمدير الشركة، وحين تذكّر وجه العجوز حاول أن يستعيد منها الذكريات في أحداث مارس، ولكنه لم يستطع إذ وقف العامل العجوز أمامه ليكون رمزاً لصمود الماضي المجيد الذي يرفضه ويبرز الإحساس العميق بخيانته فهو يقول : - أنت أخذتني إلى البيت . بيت من سعف النخيل أتذكر -.. فيرد العجوز: - كان ذلك إنساناً آخر - . لقد أصبحت الطبقة الكادحة بسبب كونها مرتكزاً للتطور الاجتماعي وأحداث النضال الوطني قوة لها ثقلها وحضورها لأنها تكتسب من ذلك الارتكاز خصالاً إنسانية رفيعة تسمو بطبعها عن التصنع والمظاهر السلبية، فتبدو رمزاً لذلك الشيء الأصيل الذي يغيب عن الآخرين . ولقد كانت شخصية - عثمان أحمد ثاني - بمواجهتها وكبريائها للحاضر في زيفه وانتهازيته ملتقى تدور حوله دوائر الصراع النفسي في أعماق المثقف المرتد . إذ جالت حول حضوريته أشكال الصراع بين الزمن الماضي والحاضر، بين الكبرياء والانحناء بين المقاومة والمداهنة، بين أصالة الانتماء وخيانته، ومعاني كثيرة أصبح الموقف يحتويها بغزارة وحيوية درامية متدفقة . إن التناقضات الجديدة بين الفئة المثقفة مصدر أعباء كثيرة في تطور القوى الاجتماعية، فقد كانت هذه الفئة التي ظهرت من بين طلاب المدارس والجامعات مدار الاستقطاب الذي حققته تلك القوى بتوسع واطراد . إذ سيطرت على أولئك المثقفين أسباب القلق والبحث عن منافذ جديدة تحررهم من الارتهان بالواقع السياسي والاجتماعي المتخلف . والطبقة المثقفة غالباً ما تكون أولى بوادر الامتداد الاجتماعي للحركات الطليعية في مختلف المجتمعات، الأمر الذي يقرن تلك الحركات بكثير من المشاكل والتناقضات، نظراً لعدم الاستقرار والثبات الذي تتسم به مواقف الفئات من أبناء المدارس والجامعات . وقد حدث ذلك مع الفئة المثقفة التي ارتبطت بحركة القوى الاجتماعية في البحرين، حيث استوعبت كثيراً من مظاهر التحلل والمراهقة الفكرية بعد أن اقترنت بالمواقف التقدمية في مرحلة اليفاع من عمرها، مما جعلها تتعرض لكثير من مظاهر ردود فعل التناقض بين معتقداتها وما يطرأ على واقعها الاجتماعي من مكاسب جديدة، وقد كانت قصة - في القرن العشرين - ترينا القوى الاجتماعية الناهضة وهي ترفض الانتماء إلى الواقع البرجوازي الطارئ، حيث انتهت القصة بعزلة تامة بين العامل الكادح والموظف البرجوازي الكبير، لتؤكد ما قادت إليه الخيانة الفكرية من تباعد وتمزق . وفي قصة - قوس قزح --43- ينظر عبدالملك إلى ردود فعل التناقض والتحلل من خلال ما ترسمه من أعماق نفسية ممزقة، فبطلها نموذج لذلك المثقف المرتدّ فكرياً الذي فقد هويته الأولى حين كان في مرحلة المراهقة - مراهقة العمر والفكر معاً - فبات شكلاً إنسانياً ممزق الأواصر يتنصل من الانتماء إلى الماضي المجيد وينتظر الصعود مع البرجوازية الكبيرة في المجتمع بعد الترقية، لكنه يصبح إنساناً متضوراً بلدغ الواقع أكثر مما يكون منتشياً به . وهو يستجلي ذلك في أولى خواطره المستبطنة حين يقول : - قدم في الأرض .. وأخرى في السماء ... الإبحار في قاربين ... الرجل اليمنى في قارب .. واليسرى في قارب ويتوقف العقل عن التجديف - . وحين يصور الكاتب هذا الانقسام يقرن عملية التحلل والنكوص بإرهاق فكري يفتت المرئيات، ويحيلها إلى حجاب يحول دون النظر إلى أكثر الأشياء بداهة، وهذا ما يستظهره الكاتب باستعمال تيار الوعي الذي لا يجعل للشخصية حيزاً زمنياً واحداً، بل يفتح لنا بجسارة وإحكام كل مغالق العقل الباطن فيهوى عليها مستجلياً أزمتها وحدود تمزقها . ويبدو لنا من الرصد النفسي الدقيق في هذه القصة أن المناط الأساسي الذي ترتد إليه أزمة التمزق والتناقض لدى المثقف هو أنها لم تستطع منذ أيام المراهقة أن تتشكل في موقف اجتماعي وإنساني صادق بل كانت مواقفها انتهازية مرتهنة باللحظة العابرة، فالواقع البرجوازي الجديد يخلع عن البطل انتماءه إلى الماضي .. - الماضي رداء قديم، ألقيته في عرض الطريق كنت اليسار المتطرف بكل عنفه الصبياني - . وهو يعيش الشوق إلى الماضي في وقت يرتبط بمؤهلاته الجديدة التي يقيم لها الحفلات الصاخبة، ويجيد فيها الانحناء إلى الأرض والصعود على درجات السلم المخملي . وتتضاعف الصورة النفسية الممزقة التي يحدثها الفراغ الأيديولوجي حين جعل الكاتب للماضي سلطة قوية على الزمن الحاضر، وبدا امتداد وعيه الداخلي إلى رموز الماضي أكثر حضوراً وتمثلاً في الذاكرة . وقد أصبحت التفاصيل الخارحية معيناً لا ينضب لتصوير الحركة الداخلية المضطربة الممتدة إلى الماضي، فالصورة القديمة على الجدران التي يبدو عليها غلمان حفاة تذكره بطفولته، والزقاق القذر والوجوه الصخرية للفقراء والنبيذ كل ذلك يكون لتلك الحركة الداخلية عاملاً من عوامل دوارها واهتزازها، والمطر يعانق الزجاج في الخارج ليبعث تدفقات الماضي مع ذكريات الشتاء حين كان طفلاً يغني أغنيات المطر مع الصغار، والموسيقى وصوت فيروز تظل رمزاً ليقظة الماضي الذي يتحلل من الانتماء إليه، وطيور النورس تذكره برحلة الصقور الذين يتمثل فيهم صورة الأبطال في ثورة القوى الاجتماعية . كل ذلك أصبح له حضوراً موازياً مع حضور الواقع الراهن، بلغت ذروته في نهاية القصة حين أصبحت اللحظة البازغة كقوس قزح تجمع تشكيلات الماضي والحاضر معاً في مكان يمتلئ .. - باصطكاك الكؤوس وتقارعها .. وضحكات غنج ودلال.. والرقص والعناق والقبل وفرح الأطفال في القاعة الكبرى.. و.. نساء .. بملابس سوداء.. يولولن .. ويصفعن وجوههن ويبكين .. وصراخ قوي النبرات تطلقه حناجر معروفة في الشارع وبقع من الدم في الشارع في الوجه .. في الجدار .. في المطارق .. ورجال يحملون جنازة كبيرة - -44- . لقد استطاع محمد عبدالملك في هذه القصة وفي قصة - في القرن العشرين - أن يكسب التصور الواقعي في هذه الفترة أشكالاً جديدة في المواجهة والصراع مع التناقضات الاجتماعية والفكرية التي احتوت طائفة كبيرة من المثقفين، وذلك بحكم معايشته المباشرة للمنابع الجديدة التي استقتها الفئة المثقفة، وارتباطه برؤية أيديولوجية واضحة يرصد بها مثل تلك الظواهر، ولعل هذا ما جعله يكتسب رؤية فنية واضحة أيضاً بلغت وسائلها المتجاوزة للأطر الجاهزة في القصتين السابقتين أبعد ما تخرج به عن الأشكال التقليدية والاهتمامات الفنية المغامرة بتقاليد سردية مغايرة . غير أن محمد عبدالملك سرعان ما يستخلف شخصياته السابقة التي ساقها في إطار - المثقف المهرج - بشخصيات أخرى لم تفقد جذورها بالطبقة الشعبية الفقيرة، ولم ترتد عن الوعي بمواقفها الاجتماعية، ونجد ذلك في قصص - مطر يعيد الحياة - و - الزنزانة رقم -5- - و - سند - و - الوجه الآخر - و -الشمس في العيد - و - الليل والقنديل - .. والشخصيات هنا - كسابقتها - رغم أنها تصدر عن وعي فكري واضح ونظرة اجتماعية مدركة لما يحددها من علاقات وأنظمة قائمة، غير أنها تظل ألصق بمنطلقات الواقعية النقدية وأيديولوجيتها القائمة على ردع نظام المجتمع البرجوازي، والتأكيد على فساده وخلل قوانينه . وهذه زاوية الرؤية السردية الأبدية التي ينظر بها عبدالملك إلى الظروف التاريخية في تطور القوى الاجتماعية . أي أن محاولة النظر إلى شخصياته في القصص السابقة على أنها منضوبة في مقولات ما يسمى بالواقعية الاشتراكية - مثلاً - لا تستمد منطقاً مأموناً من التعسف النقدي، وذلك لأن الكاتب في تلك القصص يغذي شخصياته من روح المواقف التقدمية ما يجعلها تشكيلاً لرفض الواقع الراهن . بجميع أنظمته، والاحتجاج على مظاهر الاستغلال للطبقات الفقيرة من غير أن يضع لنا صورة لنظام اشتراكي قائم يتخلل أهداف الرفض السابق، ليصبح واقعاً وحلماً أملاً، مبنياً من حالة تدهور واقعه في المجتمع البرجوازي، لأن الاشتراكية في الفن تعني : - أن الانتقاد الشمولي للرأسمالية يندمج عضوياً بالتوكيد الحماسي للنظام الاشتراكي الذي سيخلف نظاماً ما في حالة الاحتضار - -45- وشخصيات عبدالملك لا تترجم لنا مثل هذا التصور، فهي في قصتي - قوس قزح - و - في القرن العشرين - تعاني من تناقضات داخلية عميقة باعتبارها تعيش في مرحلة من مراحل ازدهار البرجوازية نفسها . وفي القصص الأخرى التي ضمتها مجموعة - نحن نحب الشمس - تنطلق النماذج الجديدة من نقطة تبدو قاسماً مشتركاً بين الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية وهي رفض المجتمع البرجوازي . وفي حين تكتفي شخصيات عبدالملك بهذا الرفض وهي تواجه عذاب السجون والنفي والمطاردة، والاضطهاد تكون للواقعية الاشتراكية - مواضيعها وثيماتها الخاصة، لأنها تضفي الأهمية بالتحديد على ما له من تأثير مباشر إلى هذا الحد أو ذاك على عملية الحياة الأساسية .. النضال من أجل التحويل الكامل للحياة وفق خطوط اشتراكية --46-، وذلك مالا يدخل في أهداف الرفض والمواجهة مع أبطال عبدالملك . لقد اهتم الكاتب في القصص الأخيرة بنماذج الطبقة المثقفة، ذات الارتباط العميق بالفئات الشعبية الفقيرة، وجعل منها محتويات قائمة لرفض الواقع الراهن الذي يقيم دعائم الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، ثم جعلها تجول في عالم يبحث عن حريتها المقيدة دوماً بين جدران السجون والمرتهنة بحالات الطوارئ المكبلة بالقيود . ومن خلال ذلك اكتسبت تلك النماذج دلالتها الثورية لأنها وإن لم تبلغ ملتقى التصور الاشتراكي فإنها تؤكد دوماً رغبتها في التغيير والتحرر، ففي قصة - سند --47- تعصف الأسئلة الكبيرة حول التناقضات الاجتماعية بتفكير بطل القصة ومن زاويته السردية - لِمَ خلقنا نحن هكذا في عذاب ؟ ... ولِمَ يشقى الملايين ؟ ولم تعيش القلة في ترف ؟ - .. ثم ينطلق باحثاً عن التغيير مشاركاً في أحداث مارس ليُسجن ويُعذّب ثم يُطرد من البلاد لتكون آخر مشاهدها في ذاكرته أغنية حزينة يرددها فقير من الفقراء . لقد انطلقت الشخصية من رفض الواقع ورغبة التغيير، ولكنها لم تستطع أن تحدد صورة لما يكون بعد عملية الرفض، ولم تستشرف مستقبل التغير، ولعل الدلالة الثورية المضيئة التي تؤكدها مع موقفها الأيديولوجي من الواقع هو أنها لم تنظر إلى السجن باعتباره مصيراً شديد القسوة، ونقطة انتهاء وسقوط . بل تمثلت فيه زهو الانتصار، كما نجد ذلك في شخصية - سند - في القصة السابقة و - شمسان - في قصة - الوجه الآخر - . وهذا الزهو من أكثر المعاني التي يلح عليها الكاتب، حتى ليكاد يبث فيه دلالة شعرية ضافية يبدو فيها مصير السجن وكأنه ممارسة لصنع الحياة كما في قصة - مطر يعيد الحياة - التي تراءى السجن لبطلها.. - كمحطة يعبرها صناع الحياة والأنبياء والمارة بحثاً عن زمن ضائع الفصول وحقيقة ملقاة كالرفات .. كان السجن اكتشافاً، لحظات عبادة، ومض المستقبل، وهمس الأجداد ومواساة، وشرفة ورد --48-. لقد أصبح السجن في هذه القصص هو التعبير عن المواجهة والرفض للواقع، كما أنه أصبح تجربة نضالية مريرة تتمازج فيها الأشياء وتختلط وتتغلب به على جميع الأرزاء . بل إن النماذج السابقة باتت تنظر إلى اختيار السجن باعتباره رفضاً للسجن الأكبر الذي تعايشه بين أغلال الواقع، ولذا كان السجين في قصة - الزنزانة رقم -5- --49- يقول محدثاً نفسه : - وعندما تفكر في الخارج أنت ترحل إلى السجن الكبير -، وهذا ما يجعلها تنصهر من السجن في بوتقة مستنيرة تحمل روحاً متجدداً وسمواً إنسانياً وشوقاً مستمراً للمزيد من التوجه، كما تدل على ذلك جميع الشخصيات المطاردة بالسجن والنفي والاغتراب في قصص - الشمس في البعيد -، و - الوجه الآخر - و - الليل والقنديل - . فهي جميعاً شخصيات إيجابية تبحث عن حريتها وكرامتها ومثلها وتعبر عن آلامها من أشكال الاستلاب . وما اقتران مصائرها بالسجن إلا إشارة إلى ذلك الخطأ الكبير الذي يسود المجتمع حين أصبح بكثرة قيوده سجناً كبيراً وموضع غربة لأمثال هؤلاء الأبطال الأنقياء . إن كل هذه الموضوعات الجديدة التي يستلهمها محمد عبدالملك من بين نماذج الطبقة - المثقفة - هي التي تبعث لديه هواجس إبداعية في تطوير الشكل القصصي، وذلك بحكم افتقار تلك الموضوعات إلى ملكات فنية أكثر طواعية ومرونة من القوالب والأطر التقليدية، ولذا تكرر استعماله لأسلوب تيار الوعي من زوايا زمنية متعددة في قصص - قوس قزح - و - مطر يعيد الحياة - و- الليل والقنديل -، كما وظف بمهارة بالغة الجمل المتقطعة، فراح يفجر إيقاعها السريع الذي يرسم لحظات لاهثة من هول السجن في قصة -الزنزانة رقم -5--. ولكن ذلك لا يعني ثبات أسلوب الكاتب .. فنبض التكنيك وحيويته الدرامية يقترنان بما يتعرف عليه من ظواهر جوهرية في الواقع، وهذا التعرف لا يطرد كثيراً في تجربة عبدالملك، مما يجعلنا نعتقد أن التطور الفني في قصصه جزئي، غير مستقر مع مقولات ثابتة رغم التعلق الشديد بالأساليب القصصية التقليدية، ويمكن إدراك ملامح - جزئية التطور - من صراع النماذج ومقاومتها للواقع وطبيعتها النمطية، فالقصص الأولى تضع نماذجها في خيار يأتي على لسان بطل قصة - عازف السكسفون - بين العمل والموت البطيء أو الموت المباشر. بينما القصص اللاحقة تضعها في خيار يأتي على لسان بطل قصة - سند - بين السجن أو المنفى أو الموت البطيء . وهذا يعني بالدرجة الأولى تنميط مصائر النماذج البشرية، واختزال نهاياتها في خيارات ثنائية محددة. كما يعني من ناحية ثانية أن الموت البطيء الذي رأينا مشاهده الحزينة المتشائمة في قصص النماذج المجهدة لا تزال له تفاصيل ميلودرامية في موقف الكاتب، عالجها في عدد من قصصه الأخيرة منها - النافذة - و - المدير - و - العبث - و - ذلك الشقاء - و - خدر السنين -. وهذا في - تقديرنا - مؤشر تبات وعدم انفتاح كامل على المغامرة كما ذكرت.* |