ويكشف لنا ذلك عن شخصية تصطرع في داخلها نزعة للتعبير عن التغير والإصلاح في مواجهة القيم الزائفة في المجتمع، وإن اتخذت لها مواقع براقة، مغرية، كما هو في شخصية (منيرة) . كما يكشف لنا الموقف العام الذي ينبعث منه أسلوب المناجاة السابق عن تمسك الزوج بسيطرته التقليدية، التي تضطهد المرأة وتدفعها لتكون ضحية لزوجها، وليس جهلها فحسب، وهذا يعبر عن انقسام واضح بين الوعي والتقليد، كما يعبر عن اضطراب في بناء شخصية الزوج نرده إلى الآثار الفنية الساذجة التي تشيعها الرؤية الإصلاحية وضروراتها في توصيل أهدافها المباشرة .. فالكاتب يضطر أحياناً للانفصال عن شخصيته الفنية والاتصال مباشرة بالقارئ، أو أنه يضطرب بين أن تتخذ الشخصية دورها الفني المرسوم أو تقفز من سياق هذا الدور بين الآونة والأخرى كي تقيم تماسك المعالجة الإصلاحية التي يراد لها الوصول بكل الطرق. والكاتب بعد ذلك يلجأ إلى أسلوب آخر يدعم به رؤيته التعليمية وهو تهويل النتائج التي يقود إليها اتباع الجهل والعادات السيئة ... فالنتيجة إذا كانت عظيمة الخطر بعيدة الأثر في النفس تكون أدعى لإعادة النظر في مسبباتها .. والمصلح الاجتماعي عادة ما يلتقط النتيجة أو الأثر الاجتماعي ليعلن عنه ويكشف أسبابه، وكذلك تفعل القصة الاجتماعية التي ينشغل كاتبها بوهج النتائج وفداحتها . وقد جعل خالد الفرج خسران الزوج .. وخسران المال .. ثم خسران الحياة .. نهاية لبطلة القصة )منيرة( .. ضارباً بذلك أبعد بل أقسى ما يمكن أن يقود إليه الطريق الذي سلكته بجهلها .. وربما استمدت مثل هذه النهاية حقيقتها من طبيعة الآثار السيئة التي تخلفها إحدى العادات الذميمة المتخلفة وبخاصة في وضع المرأة التي تنشأ في مجتمع تقليدي يسرف في محافظته وقيوده عليها. ولكن رغم ذلك فالتهويل، والانتهاء بالموت يتكئ عليه الكاتب دعماً لرؤيته من أجل تحقيق ردة فعل كافية في الاعتقاد بمثل ما اعتقدت به بطلة القصة .. وفضلاً عن ذلك فإن هذا التهويل يعد جانباً من الملامح الرومانسية، التي لم يجد الفرج بداً من إسباغها على أسلوبه في تصوير الشخصية الفنية وبيئتها المحلية، فالتخلص من الحياة يعبر عن مدى اليأس والتحطيم الذي أصاب بطلته ... واللجوء إلى الأجواء الغريبة والمفزعة لا لشيء سوى لإثارة الخوف والمشاعر المضطربة ... كالغابة وأصوات الحيوانات ونحو ذلك مما لا وجود له في البيئة المحلية لمنطقة الخليج العربي .. ولكن الكاتب يصطنعها كما يصطنع بعض الرومانسيين أجواءهم المثيرة في تصوير النفس الإنسانية التي تسلك نهاية قلقة ومصيراً مؤسياً. ولا شك أن كاتباً مثل خالد الفرج الذي عُرف شاعراً أكثر منه قصاصاً كان لابد له من التأثر بالحدة البالغة والإدانة الشديدة لشخصيته، وبخاصة أنه كتبها في فترة مبكرة من بروز الدور الإصلاحي ... الذي كان يصول ضمن دوافع تصحيحية للقيم الدينية وهو ما كان يدفع إلى الحماس الشديد والانفعال الجامح أمام مظاهر الجهل الفادحة بقيم الدين كما رأينا. لذا فنحن حين نأتي إلى فترة الخمسينات نجد بعض كتاب القصة القصيرة يعالج هذه المشكلة الاجتماعية نفسها . ولكنه يؤثر لها أسلوباً هادئاً، ووصفاً متزناً، وبدلاً من أن يجعل لها مصيراً هائلاً لا رجعة فيه ( كالموت ) نجده ينتهي بها إلى الخيبة والإحباط الذي ينطوي على نظرة ساخرة تعليمية في آن واحد . ويعد ذلك أحد جوانب التطور والنمو الفني الذي تنهجه القصة الاجتماعية حيث يبدأ بعض الكتاب يتجردون من الصبغة الميلودرامية الفاقعة للنهايات، وما يقترن به من فواجع لا تخلو من الافتعال، ويتجهون إلى الاقتراب من المنطق الاجتماعي المألوف عندما يقفون في معالجاتهم الإصلاحية للقيم والعادات. وقصـة ( التميمة) لفاضل خلف تعد نموذجـاً جيـداً لذلك فشخصيتـه هـنا امرأة (أمينة) تتزوج رجلاً بسيطاً وتواجه مشكلة العقم، فتلجأ إلي الأطباء، والتعاويذ والتمائم والدراويش دون فائدة فيستبد بها شعور اليأس وتعتزل الناس وتأتيها يوماً جارتها لترشدها إلى العالم )عبدالخالق( الذي أنقذ بتعاويذه الكثيرات غيرها ... وتزيِّن لها أفعال هذا الرجل حتى تذهب إليه وتعطيه كل ما تملك من مال زوجها الفقير ليكتب لها التميمة التي لم تعلم عنها شيئاً ... ويسمع عن هذه التميمة أخوها الصغير الذي يتعلم في المدرسة ويعرف القراءة، فيدفعه فضوله يوماً ليفتح التميمة ويجد فيها هذه الكلمات : (ما أسخف هذه العقول .. لقد أخذت الدراهم وسأنفقها كما أشاء وأهوى . وأعطيتها هذه الورقة التي لا تغنيني فتيلا . إن هؤلاء الناس يأبون إلا أن يبذروا نقودهم هنا وهناك. ولا يعلمون أننا أجهل من في الأرض. وغرَّهم مظهرنا الخداع الكاذب. أما أنت أيتها الساذجة المسكينة فانتظري اليوم الذي ترزقين فيه بمولود ولا أعتقد أنك تدركينه وإنما ستذهبين إلى القبر حاملة بين جنبيك حسرة وكمدا.. فانتظري أيتها الساذجة... انتظري) (35). والكاتب في مثل هذه النهاية التي تجمع بين صوته الجهوري الواضح (مصلحاً) ونقده (ساخراً) يعتبر أقرب إلى شخصيته وأكثر واقعية في الإمساك بنتائج سلوكها وجهلها من خالد الفرج . وإن كان هذا الأخير في قصته منيرة أكثر تميزاً في بناء الشخصية وتنظيم الحبكة وتصوير المشاعر الإنسانية. وكما رأينا لقد ارتبط تعلق المجتمع التقليدي بأسلوب الزار والشعوذة بوضع المرأة كما صورت ذلك أول القصص القصيرة في الخليج العربي، وهي فيما صورته لم تخرج عن الوضع الاجتماعي التقليدي الذي كانت تعيشه المرأة في تلك الفترة بحكم حرمانها من التعليم وانكفائها مع قيود الحياة مع الرجل، وعبرت القصة في ذلك عن أعمق صور اليأس التي تتعرض لها المرأة وأكثر مظاهر القلق النفسي الذي يسود قلبها عندما تواجه مرضاً فسيولوجياً كالعقم.. بحيث لا تجد خلاصاً أو طريقاً يخرجها منه أو يضمن لها استمرار الحياة مع الزوج إلا باللجوء إلى ما تفتقده من قدرة القوى الخفية وتعاليم الزار وخوارقه، ولعل القلق والخوف ومشاعر اليأس، إلى جانب الجهل ونقص العقل هو أكثر ما يضرم هذا الاعتقاد ويدعمه في وجدان المرأة، ونظراً لتأثير الدور الإصلاحي ومتطلباته في التعليم والتهذيب على كتاب القصة في هذه الفترة - ومنهم خالد الفرج وفاضل خلف - فقد أعطوا عامل الجهل والقيم المتخلفة الاهتمام الأكبر لأنهم لم ينتبهوا إلى الأصول النفسية في هذه المشكلة بقدر ما تنبهوا إلى ضرورة انتزاع المجتمع من أمراضه وعاداته السيئة. وقد بدا التغير الاجتماعي وبخاصة عن طريق الانتشار الثقافي وتعاقب الأجيال يكوّن لمجتمع الخليج العربي مفاهيم جديدة ترفض سيطرة التقاليد والخضوع لما تفرضه من أشكال متخلفة في الحياة . وكانت بوادر هذا التكوين تخوض صراع وجودها الحقيقي في المجتمع قبل إنتاج النفط والتغيير الاقتصادي الهائل الذي أصاب المنطقة بأسرها، أما في الفترة التي حدث فيها هذا التغير الاقتصادي (الأربعينات والخمسينات) فقد قفزت مؤشرات التغير الاجتماعي بدرجة كبيرة، وربما دلت مظاهر الإصلاح والإيقاظ في الحركة الوطنية والثقافية خلال هذه الفترة على مدى الرغبة الشديدة في رفض تركات العهد الماضي ومخلفات السيطرة الاستعمارية التي عمقت قوة القبض المحافظ والمتزمت في المجتمع منذ بدء عهد (الحماية) في المنطقة. وتعبر القصة القصيرة عن تلك الرغبة تعبيراً صادقاً، كما تكشف عن موقف الجيل الجديد الذي رافق تطور حركات الإصلاح وانتشار الوعي الوطني والقومي في البلاد، لأن هذا الجيل - وهو من الطبقة البرجوازية - اكتسب كثيراً من مظاهر الحضارة والمدنية عن طريق التعليم الذي أقبل عليه وأصبحت لديه بعض المعارف التي لم يكن يألفها المجتمع التقليدي، كما تكونت لديه مفاهيم كثيرة حول ما هو سائد أو مقدس في تقاليد الأسرة أو العادات التي تنظم العلاقات الاجتماعية، ولم يستطع هذا الجيل أن يتواءم أو يتكيف مع أشكال الإرث والمحافظة . لذا كان لابد له من أن يعلن عن رفضه لها. ولكن عملية الرفض هذه لم تكن سهلة أمام الكتاب في هذه الفترة لأنهم يدركون تماماً حجم التقاليد وقيمها السائدة في مجتمعهم التقليدي، ومن ناحية ثانية فإن هذا المجتمع لم يخلق لهم بعد نموذج البطل الذي يمكن أن يحمل في عالمه أبعاد الرفض والثورة على التقاليد والتخلف السائد، ولم يكن (عبدالقادر) في قصة (منيرة) السابقة بطلاً ثائراً على الجهل بقدر ما كان رجلاً تقليدياً يحمل في داخله غيرة شديدة على تعاليم الدين وقيمه التي لا يجب أن تشوه بالأباطيل والشعوذة، من هنا نجد أن التعبير عن الثورة على التقاليد لدى كثير من كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة لا ينبثق من واقع الشخصية الفنية وطموحها وتطلعها وإنما يبدأ من كاتب القصة نفسها .. من توهجه وانفعاله بالأثر السيء والمظهر المتخلف الذي تعكسه سيطرة التقاليد والعادات ... وهذا هو صميم الموقف الإصلاحي الذي تسفر عنه القصة الاجتماعية القصيرة في البحرين والكويت والذي يشكل رؤيتهم ومعالجاتهم وطبيعة أساليبهم في الوصف والتصوير وبناء القصة ورسم الشخصية. إن الكاتب هنا يعبر في الحقيقة عن رفض جيله الذي ينتمي إليه ولكنه لا يخلق لنا نموذجاً أو بطلاً .. حاضراً أو قادماً يجسد التغيير الذي يحلم به، ناهجاً في ذلك أسلوب الواقعية الفنية في القصة القصيرة، بل إنه يجاهر برغبة التغيير من خلال تدخله المباشر في إدانة المعايير والتقاليد التي يتجاوزها العصر. ونجد ذلك فيما عالجته القصة القصيرة من أثر التقاليد التي تدور حول أسلوب تربية الأب لأولاده، أو حول أساليب الزواج، فالأب في المجتمع التقليدي يستمد احترامه وتقديره بوصفه رباً للأسرة، لذا قضت معايير الأسرة وقواعدها المتبعة أن يخضع الجميع لرب الأسرة (الأب) وأن يتعلموا منه ... ويتلقنوا تربيته .. ويجعلوا منه قدوة ومثالاً أعلى .. فالإبن يتزوج باستشارته ورغبته أولاً .. والبنت لا تعرف عن زواجها شيئاً إلا ليلة الزفاف كما تقضي التقاليد وأساليب العرف ... وجميع الأبناء يجب أن يتخذوا من تعاليم الأب طريقاً لحياتهم وإن تعارضت هذه التعاليم مع تطلعاتهم ورغباتهم، أو اختلف واقع المجتمع عن المجتمع الذي أخذ منه الأب تعاليمه وتجاربه. وفي قصة (المهندس) لفهد الدويري نجد الأب وهو يتخذ موقعه التقليدي في توجيه ابنه توجيهاً لا يتفق مع ميوله ومواهبه مما قاده إلى نهاية تعسة لم يحقق فيها شيئاً على الإطلاق، فالإبن يتفوق في دراسته ويبدي نبوغاً وحباً لمادة الهندسة، فيضع كل آماله في أن يكون مهندساً عظيماً . إنه يجمع الخرائط والمعدات الهندسية في غرفته ويسهر معها طول الليل، وبينما هو كذلك كان والده يبيت له رغبة أخرى، فهو لا يريده مهندساً يجوب الشوارع بل يريده طبيباً.... فيرغمه على التوجه نحو دراسة الطب، وهنا تحدث النتائج العكسية حيث يصاب الابن بصدمة نفسية يكره فيها دراسة الطب التي يذهب إليها في الخارج وتنتهي به هذه الصدمة إلى الفشل الذريع في الدراسة. فالكاتب يلتقط شخصيته وقد رضخت لمشيئة الأب، ولكنه قدم لنا صورة بالغة لنتائج التربية الخاطئة والزعامة التقليدية التي يتمسك بها الأب ضد حرية الأبناء، إنه ينتقد هذا الأسلوب في التربية عن طريق الأثر السيء الذي تركته في مصير شخصيته ... وهو أيضاً ينزع إلى إصلاح هذا الأسلوب وانتزاع الاعتقاد به عن طريق أسلوبه المباشر فهو ينص على ذلك نصاً فيقول : (ما كان الإرغام في يوم من الأيام وسيلة مجدية من وسائل التعليم) (36). ومثل هذا الأسلوب الذي يصوغ نتائج الأحداث وخلاصتها أو ردود فعلها في السلوك الاجتماعي، يعد من الجوانب المقترنة بالمعالجة الإصلاحية وأساليبها التقريرية المباشرة. وإذا كانت التربية السيئة ومواضعاتها التقليدية قد قادت المهندس عند الدويري إلى السقوط والانهيار وسلكت بتعليمه طريقاً لم يكن يريده فإنها عند جاسم القطامي في قصة (هذا جناه عليّ أبي) (37) تؤدي في كثير من الأحيان إلى الحرمان من الضرورات الاجتماعية التي تأمن للمرء حياته ومستقبله ... فشخصيته من الطبقة الفقيرة تلتحق كغيرها بـ (الكتاب) (المطوع) لتعلم القرآن، ثم تأتيها فرصة الانتقال إلى التعليم في مدارس المعارف ولكن يحول دون ذهابه إليها أن والده طلب منه أن يمتهن العمل في البحر ويكون كغيره من الرجال ... ويقتدي به في العمل الذي عاش فيه عمره الماضي، وحين تدور الأيام دورتها تكسد تجارة الغوص فتتعرض الأسرة الفقيرة لامتهان حرفة شاقة وهي البناء بعد أن سدت في وجهها أبواب الرزق. إن الكاتب يجعل شخصيته ضحية وفريسة للجهل والقيم المتخلفة في التربية، فلو أن الأب لم يتمسك بضرورة أن يكون ابنه رجلاً بعمله في البحر وترك التعليم لما كانت نهاية الأسرة بتلك الصورة . ويحرص الكاتب على إيجاد نوع من الثنائية حول فكرته التعليمية، فالشخصية غير المتعلمة تقابلها شخصية متعلمة تماماً كما يحدث في المقابلة بين عنصري الخير والشر، وذلك لإضفاء صورة نمطية جاهزة تحدد بوضوح طبيعة الغاية التعليمية في مضمون القصة، لأن التقابل بين الأنماط المتناقضة يساهم في استخراج الجوانب السلبية والإيجابية، ويساعد على إيجاد فوارق حاسمة بين المعاني أو أشكال السلوك، بل إن الكاتب يقف على أفكاره التعليمية مباشرة حين يجعل أسلوب السرد في القصة جارياً على لسان صديقه بطل القصة الذي استفاد من التعليم واستطاع مواجهة الحياة به، إذ أنه جاء ليلهج بنظرة الكاتب مباشرة . فهو يتحدث عن شخصية القصة في البداية بمثل هذا الأسلوب : (هذا أيها القارئ ضحية من ضحايا مجتمعنا الجاهل، ضحية أب تمسك بثوب التقاليد الرجعية فأحرق شمعة كانت ستضيء نوراً لهذا البلد البائس لو لم توجه توجيهاً سيئاً). ويخضع أسلوب القصة طوال جريان العرض والسرد إلى مثل هذا الاتصال المباشر بالقارئ نظراً لما يسيطر على فكر الكاتب من نزعة تعليمية قوية، ورغبة في تجسيد المفاهيم الجديدة التي تتطلع نحو مستقبل التغير الذي يمر به المجتمع وبخاصـة مـع انتهاء المناشط الاقتصادية التقليديـة فـي الغـوص علـى اللـؤلـؤ. ويواجه المجتمع التقليدي في الخليج العربي صورة سيئة أخرى حول أساليب الزواج والتقاليد المتبعة في قيام علاقة الرجل مع المرأة .. فالابن عندما يكبر لا يستطيع اختيار زوجته بنفسه ولا يستطيع أن يبصر منها شيئاً لأن القيود الدينية والاجتماعية المصطنعة تحول دون أن يتصل الرجل بالمرأة في أي مكان.. أو مجال من المجالات . ولهذا جاء العرف وسارت التقاليد على أن يبدي الابن رغبته في الزواج ثم يأتي دور الأم في تعرفها على من تصلح زوجة لابنها.... أو في اتصالها بالخاطبات اللائي يقمن بدور الوسيط بين الرجل والمرأة، ولأن الخاطبة تريد أن تكتسب الزوج للفتاة التي بين يديها فهي عادة ما تنقل صورة كاذبة عن شكل البنت وأخلاقها، من أجل ترغيب الرجل في القبول، فتحـدث الكـثـير مـن المـآسـي. وإذا كان هذا من جانب الرجل فإن المرأة من الجانب الآخر لا تعلم شيئاً في أمور زواجها بل إن والدها ووالدتها هما اللذان يقومان بترتيب ذلك والإعداد له في القبول أو الرفض لكل من يتقدم لخطبتها. إنها تظل جاهلة بالأمر، وحين تدرك أن هناك رجلاً قد قبله والدها ليس لها الحق في مناقشة هذا القبول وإن كانت ترفضه، وكذلك إذا أدركت أن هناك رفضاً وتشدداً في قبول الزواج، ليس لها الحق في إبداء رغبتها أو حاجتها لرجل بعينه. وفي قصة (الروح المتألمة) (38) نجد صورة لهذه المرأة التي تكون ضحية لما تواضع عليه المجتمع من ترك مصير زواجها بيد الأب وإن كان صلفاً متشدداً يسخر ابنته المسكينة لرغبته هو ونظرته وطموحه في اختيار الزوج، وفي هذه القصة يلخص الكاتب (الذي لم يذكر اسمه الصريح) دعوته وصيحته في ضرورة عزوف الآباء عن مثل هذا التقليد الجائر بحق المرأة. ونجد جاسم القطامي في اهتمامه بتصوير تقاليد الأسرة الفقيرة في المجتمع، يقدم في قصته (زواج بحار) نموذجاً نابعاً من تلك الأسرة . يحقق جميع مطامحه في العمل فيجمع المال ويصبح بحاراً قوياً نشطاً فيعلن رغبته في الزواج لوالده، وهنا يجري اختيار زوجته دون أن يرى منها شيئاً، وبين غمرة فرحه وأمله الكبير، يزف إلى امرأته الملفوفة بعباءة سوداء . وبعد جهاد طويل يكشف عن وجههـا فيجدهـا قبيحـة المنظـر أفقدهـا الجـدري عينـاً من عينيها، وشوّه صورتها ... فيصطدم المسكين بعد آماله العريضة، وينزوي عنها، ويبدأ في هجرانها والهروب إلى بيوت الدعارة، وإدمان الخمر. وهذه الصورة الاجتماعية بما فيها من الأثر السيء للتقاليد تأخذ الكاتب نحو الانفعال الشديد والحماس الصارخ بضرورة ترك تلك المعايير المتخلفة التي توجه النظام الاجتماعي وتضبط قواعده، فينهي القصة بمثل هذه الدعوة التي تنتهك شروط الصياغة الفنية للقصة القصيرة حيث يقول : (هذه قصة شاب أودت به التقاليد إلى هذه البؤرة الفاسدة فماذا ننتظر من أسرة يكونها مثل هذا الشاب من فوائد للمجتمع ؟ ماذا تنتظر من أبناء يعيشون في مثل ذلك الجو العائلي الفاسد المملوء بالبغض بين الزوج وزوجته، ماذا تنتظر من أبناء يرون التنافر قائماً بين والديهم ويسمعون الكلمات الجارحة التي يتبادلانها ... إن بلداً تقر هذه التقاليد هي والحضارة على طرفي نقيض، بل إن الدين الإسلامي يأبى ذلك ويحرمه، وفي حديث النبي (ص) ما معناه أن للرجل الحق إذا أراد أن يتزوج فتاة أن يجلس معها ويتحدث إليها فهل نحن أكثر غيرة علـى الديـن مـن النبي صلـوات الله عليـه ؟ فلنعلنهـا حربـاً شعـواء علـى هـذه العادات السيئة وعلى هذا النوع من الرجال الذين عجزوا عن أن يجـاروا الزمـن) (39). ولا شك أن القطامي يكشف بذلك عزل رؤيته الإصلاحية عن رؤيته الفنية . إنه لا يشكل ثورته السابقة على التقاليد وفق موقف الشخصية القصصية، والحدث الفني، رغم أنه كما يبدو في كل ما كتب يحرص حرصاً شديداً على التقاط مظاهر الحياة الاجتماعية المتخلفة لدى الطبقة الفقيرة بصورة خاصة، ولكنه لا يقترب منها برؤية واقعية رصينة، بل برؤية إصلاحية شديدة الانفعال بالآثار البالغة للمشكلة الاجتماعية ومظاهرها السيئة. على أن هذا الكاتب في قصة ) الصورة الجديدة ( يعطي مشكلة أثر التقاليد وتحكمها في الزواج ووضع الأسرة بعداً جديداً لا يسبقه أحد من الكتاب، فهو يرى أن هذه المشكلة ستقود إلى مشكلة أخرى وهي الزواج من خارج البلاد (الزواج من الأجنبية) كما فعل بطل هذه القصة الذي يذهب إلى الدراسة في الخارج وحين يرجع إلى مجتمعه ويرغب في الزواج يطلب من والده أن يرى ابنة عمه التي يختارها، فيرفض الوالد متذرعاً بأن تقاليد الأسرة لا تسمح بذلك، وهنا يسافر الابن إلى البلد التي تلقى التعليم فيها، وتعرف فيها على أسرة، وخطب منها بنتاً من بناتها ورجع إلى البلاد، ولكن لا يلبث أن يدب الشقاق بينهما نظراً لاختلاف التقاليد، حيث ضاقت الزوجة بالقيود الاجتماعية التي لم تألفها، وفي يوم يكتشف الزوج وهو في حالة من حالات الضيق بزوجته صورة لابنة عمه فيدرك كم هي جميلة تلك التي رفض أن يقبلها دون أن يتعرف عليها ... وحينئذ : (دارت الدنيا في عينه واندفع خارجاً لا يعلم ... إلى الفضاء البعيد.. إلى المجهول بعيداً عن هذا الجحيم وهو يهذي بكلمـات متقطعـة، ألا قاتـل الله هـذه الرجعيــة العميـاء ... ألا قاتـل الله هـذه التقاليـد الـتي حالـت دون زواجـي بهــذا الملاك الطـاهـر ... مـاذا لـو سمحـوا إليّ بنظرة إلى ابنة عمي، ولـو بطريق غير مباشر، أما كنت الآن في جنة .. ألا قاتـل اللـه هـذه الرجعية العـمياء، خارجاً وهـو يقبل الصـورة إلى حيـث لا يعلــم إلى المـجهول بعيــداً عـن هـذا الجحيم) (40). إن الكاتب يستشرف المستقبل الأكثر سواداً وتشاؤماً لهذه المشكلة الاجتماعية المتصلة بتحكم التقاليد في المجتمع، ولكنه وهو يشق هذا البعد للمشكلة لا يخرج عن دعوته التعليمية التي لا يصوغ فيها بطلاً واقعياً رافضاً ثائراً على التقاليد، بل إنه يلجأ إلى اصطفاء مظاهر المشكلة بتورماتها وتضخماتها - كما فعل مع جميع شخصيات قصصه - ثم يضفي عليها من الوصف والجمل الخطابية المقحمة على سير المواقف ما ينحدر بها إلى أشكال الصياغة القصصية السائدة في هذه الفترة. إن صورة الشخصية القصصية في جميع ما عرضنا له من القصص التي دارت حول مشكلة التقاليد .. تعبر عن استسلامها وخضوعها وتطامنها لمعايير القيم التقليدية. وقد اقتضى النهج الإصلاحي أن يقدم الكتاب هذه المعايشة ويسجلوا حقيقتها كما يجري بها واقع الحياة، ولكن مع رفضها وانتزاعها والدعوة إلى التطهر من آثارها لا من خلال الوجود الفني للحدث والنظرة الفكرية في بناء الشخصية الفنية، بل من خلال ما هو خارج ذلك كله، وهذا ما يشكل قاعدة للمعالجة الإصلاحية في القصة القصيرة لدى هؤلاء الكتاب، فالصورة لديهم تبدو منفصلة، منقسمة بين تعايش المشكلة الاجتماعية وتواجدها في الواقع، وبين النظرة، المصلحة أو الثائرة على أسبابها وعواملها. |